«على حافتين معًا» ديوان ضد رتابة الحياة والقصيدة.. والسخرية إحدى أدوات بناء نصوصها فى حوار مع الشاعرة والروائية الأمريكية كيم أدونيزيو تقول إنه لا يمكن للشعر أن يكون قاضيا، ولا أن يطلق أحكاما نهائية، وتضيف «حتى عندما تحاول أنت تفسيره، لا يمكن لك أن تخلص إلى نتيجة محددة. الشعر يقف على مسافة من الأنا، والأشياء، إنه أكثر نقاوة، لكنه لا يمكن أن يظل مثقلا بالأمور الأيديولوجية والفلسفية والمبهمة. عليه أن يكون قريبا من الجميع، وغير ضعيف فى الوقت ذاته». تبدو هذه هى الأرضية التى تتحرك من خلالها الشاعرة المصرية سارة عابدين فى ديوانها «على حافتين معًا»، الصادر أخيرًا عن دار الدار بالقاهرة، وفى قصائد أخرى متناثرة منشورة لها، إذ تنطلق فى قصائدها من محاولة إعادة تعريف القصيدة المتعارف عليها، وطريقة كتابتها، بالنسبة لها على الأقل، والبحث عن معنى «الشعر» فى التفاصيل الصغيرة، دون أن تصدر أحكامًا قيمية، وساخرة فى الوقت ذاته من كل القضايا الكبرى. تتحول القصيدة من حالة الكتابة إلى تفصيلة يومية معاشة، وتتحول التفاصيل المعاشة إلى قصائد، لذا فالصلاة تكون بالشعر بل هى تعتبر القصيدة نظاما لتنسيق الفوضى «ربما تساعدنى على تنظيم فوضاى الداخلية، وتفسير أحلامى السريالية جدا». القصيدة فى ظن سارة إذن، ليست القصيدة التقليدية، ذات القوافى والتفعيلات، وقواعد الصرف والنحو «الشعرَ مشاعرٌ مندفعة لا تهتم كثيرا لعلوم النحو والصرف»، القصيدة هى التى تصنعها بنفسها، وتشعر بتفاصيلها بين سطورها، بل هى تنحاز إلى قصيدتها، إلى اختيارها الجمالى، لذا تقول إنها «عنصرية ضد الأدب صاحب الرسالة وضد الشعر المتماثل بثبات، وضد قصائد إيمان بكرى وهشام الجخ والكتابة النسوية وضد نوال السعداوى، أحب أن أكتب الأسماء فأنا لا أفهم من دون أمثلة، ولا أجيد استخدام الاختصارات»، لذا فهى لا تسعى إلى صنع صور شعرية، غارقة فى التشبيهات، منهكة من كثرة المضاف والمضاف إليه، هل لا تبدو مهتمة بذلك على الإطلاق، القصيدة بأكملها تتحول إلى صورة شعرية «مشبعة» للقارئ فور وصوله إلى آخر كلمة، تاركة إياه فى حالة من الاندهاش الذى لا تصنعه صورة اعتيادية، بل طرح فلسفى، ومحاولة الإجابة عن سؤال لم تطرحه الشاعرة، لكنه يغلف كل القصائد. يمكن القول إن سارة عابدين تسعى إلى قصيدة شعبوية، ليس بالمعنى الشعبى، لكن قصيدة تصل إلى الناس، وتتماس مع تفاصيلهم وحياتهم ونزواتهم واهتماماتهم، قصيدة يمكن أن يقولها أى عابر سبيل فى الشارع ف«الكتابةالحقيقية لا تحتمل كثرة التأويلات والتشبيهات، المريعة فى كل جملة، يكفى أن أصف ما يشعر به الآخرون، دون قدرة على التعبير عنه / عندئذ يبحثون عن كتاباتى لتلمس مشاعرهم الخفية / يتساءلون بين أنفسهم: كيف لم نكتب ما تكتبه / إنه تافه جدا! إنها نفس مشاعرنا / وربما تكون كتاباتى محفز جيد للمحاولة». هذا القارئ العادى الذى تعرف دوافعه للقراءة، بل وتسخر منها «لا بدَّ من بعض الأسرار حتى يجد الآخرون سببًا لقراءَتها، بنفس شغف قراءتهم للروايات الإيروتيكية»، هنا تطرح سارة إشكالية القارئ والشاعر، وأسئلة الشعر وماهيته، وفى واحدة من قصائد الديوان الرائعة تتحدث سارة عن أسباب كتابة الناس القصائد، فى سخرية رائقة «الشعرَ تافه، لا يحتاج إلى مقدمات، أو حبكات درامية، وشخصيات رئيسية»، غير أن هذه السخرية المبطنة، تكشف عن اعتقادها الحقيقى بصعوبة الشعر، حتى مع الشروط التى ذكرتها، وأهمية الكتابة رغم ذلك «أكتب لأضفى قيمة على حياتى، وأنسى أن وجودى على الحياة، مجرد وجود طارئ ومتخيل». سارة التى تسخر فى ديوانها من القضايا الكبيرة، تبدو قصيدتها شديدة الانشغال بهذه القضايا، بالعدل والمعرفة، والحياة، والموت، والفقر والغنى، والراديكالية والخوف والعجز وترقب الشيخوخة، بالإجابة عن الأسئلة الوجودية والفلسفية الكبرى، التى تسخر فى قصائدها من إجاباتها المعتادة، حتى لو لم تقل هذا، أو تدعى أنها لا تريد أن تقوله. صورة القارئ العادى الذى يكتب الشعر، هى الصورة الأبرز التى تسعى سارة إلى تصديرها فى ديوانها، فتبدو فى قصيدتها كأم تتحرك فى منزلها، وتبحث عن القصائد فى تفاصيل حياتها حتى تستطيع تمضية الحياة، وتبدو الكتابة هى ملاذها لتغيير هذه الرتابة «أكتب / لأننى أشعر بالغثيان»، تبحث عنها فى البوتاجاز، وفى المطبخ، وفى الستائر، وفى طبق الغسيل، وفى التراب أعلى المنضدة، وفى علب الأدوية، تتحرك سارة فى قصيدتها كأنها تتحرك فى بيتها «أقلب الأرغفة فوق الشعلة / أحاول تذكر الحلم المفقود / حتى أكتبه قصيدة»، تبدو كل تفاصيل المنزل التى تشغل بال أى سيدة عادية تعيش حياتها حاضرة بكثافة، وتتبدى مهارتها فى تحويله إلى شعرى لافت، مرة بالسخرية من تفاصيل حياة سيدات المنازل الرتيبة، ومرة بالبحث عن شاعرية هذه التفاصيل شديدة الاعتيادية إلى شعرى مبهر جدير بالاكتشاف» أمرر سبابتى فى تجاويف الزخارف الخشبية للدولاب / يخرج إصبعى محملًا بغبار كثيف». قصيدة سارة هى كتابة ضد العادية، عادية الحياة ومللها، عادية ورتابة التفاصيل، فى مديح سيدات المنازل المنغمسات فى العادية، والأمهات المنغمسات فى تحضير الإفطار وغسل الملابس، كتابة عن الغثيان، ودم الحيض، والحمل، وملابس الحمل: «دائما ما تؤرقنى هذه الفكرة فى شهور الحمل الأولى، يظن المارون من حولى أنى امرأه ذات بطن بارز، ولا أحد يهتم بالقيام لى فى عربات المترو المزدحمة، أحاول إتقان الدور وأضع يدى خلف ظهرى دون فائدة» رغم أن «على حافتين معًا» هو أول دواوين سارة عابدين، فإنه يأتى وكأنه قد سبقته تجربة شعرية كبيرة، لا يبدو مثل التجارب الأولى إطلاقا، بل كأن الشاعرة هضمت تجارب كثيرة من قبل، ثم قدمت تجربتها الخاصة والمميزة واللافتة، التى ستلفت الأنظار أكثر وأكثر فى كل ديوان جديد. سارة عابدين صوت مميز. فاستمعوا له. وانتظروه.