تكشف لنا بعض القصائد معنًى جديدًا للحب وعلاقتنا بموت مُنتظَر لا يجىء يعد ديوان «تمارين لاصطياد فريسة» -الصادر من سلسلة كتابات جديدة 2013 للشاعر على عطا- تجربة شعرية مميزة تنتمى لأدب ما بعد الحداثة، ذلك الأدب الذى لا يختلف مع الحداثة فى التعبير، لكنه يعاكسها فى الاتجاه فقط، حيث تناول الذات الإنسانية من الماهية بطرق غير مباشرة، فعلى عطا يغوص فى مكنون ذاته من خلال رصده الدائم لتفاصيل حياتية، قد نراها فى الوهلة الأولى تجنح للعادية وللهامش، ولكن بتأملها نجدها تفاصيل الحياة والموت، تفاصيل الانتظار والجنون، تفاصيل الحب فى ما وراء الحزن وعبث الفوضى اليومية، تفاصيل الشك واليقين «ليست عندى إجابات/ فأنا مثلك مملوء بالأسئلة/ لكننى أسعى نحو مزيد منها/ دون أن أفكر لحظة فى طرحها عليك». إن الشاعر على عطا يتخطى حاجز الفصل ما بين قارئه وبين ذاته، ليدخل بنا مباشرة فى تناقضية المشهد الشعرى الداخلية، كأن القصائد ليست تمارين لاصطياد فريسة ولكنها قصائد المراوغة مع القارئ ومع الشاعر نفسه. الشدو بالحزن والرنو عبر سبع قصائد هى القسم الأول من الديوان، تفضح العلاقة المتبادلة ما بين الرجل والمرأة، لتكشف لنا عن معنى جديد للحب، وتكشف لنا عن علاقتنا بالموت المنتظر الذى لا يجىء وإن جاء راوغنا ببغتته، وتكشف لنا عن الوجع الإنسانى الذى هو الوجه الآخر للذة «أنا المثقل بالحب/ أنا التواق إلى التخفف/ من رتابة المواعيد. الوجع الذى ليس/ سوى الوجه الآخر للذة»، «يكفى أن تشعر فجأة/ بأنك لست على ما يرام/ لتدرك على الفور/ أن الموت ربما لن يمهلك لتمد يدك إلى كوب الماء/ القريب جدا» ستقول لك: «أحبنى/ من دون أن تقول/ إنك تحبنى»، إن هذا التكثيف الشعرى السردى عبر لغة تتراوح ما بين اليومى والمدهش هو ما يميز تلك القصائد، وهذا النفس الشعرى السردى أيضا هو ما يجرنا دائما لنهايات متناقضة بأغلب القصائد، كأن الأمر هو عصيان الفريسة ومقاومتها الدائمة على الخنوع للصيد، قصائد تشبه التمرد على ما هو كائن بذات الشاعر، تمرد من أجل زلزلة المفاهيم والقناعات «هل تصدقى أن غرفتى بالفندق/ الذى استضاف قادة العرب/ بعد مولدى بعام واحد/ واسعة بما يكفى/ لنرقص معا» وأحيانا يصبح التمرد ذاته محل صيد وقنص أيضا، كأنه فريسة موازية «أصدق/ ربما لأننى دخلت للتو/ موسما جديدا للبوح/ أو لأننى كسول جدا». ولعل خاتمة هذه القصائد السبع تتويج للشدو الحزين، ولعلها القصيدة المحرومة من الإهداء برغم إهداء الديوان ككل للروائى الراحل إبراهيم أصلان، قصيدة بعنوان «مشهد أخير»، هذا المشهد المتمرد على الموت والرافض له، هذا المشهد المفعم بشاعرية وإنسانية رافضة للوداع على عكس عنوان القصيدة نفسه، فبرغم الموت يظل السارد الشعرى رافضا للفراق ورافضا لتقبل فكرة أن لا يرى من ذهب بأنه لن يعود ثانية «حتى خرجت/ من باب المستشفى/ دون أن يخطر لى/ أننى لن أراه ثانية». بهذا الرفض للموت نجده بعتبة القسم الثانى الذى يحمل عنوان «تدفقى فليس هذا أوان حبس الماء» والحقيقة أن مجىء هذا القسم بهذا العنوان الدال عقب قصيدة مشهد أخير، يعد موفقا جدا وموضحا لفلسفة القصائد القائمة على التوازى وعلى روح التنقل من تمرين لآخر، بهدف إنجاز مهمة الصيد التى جاءت بعنوان الديوان ككل، إن القسم الثانى يعد أكثر خصوصية من القسم الأول، وأكثر تعنيفا للذات، وأكثر غوصا فى الأنا الساردة، فنحن نعرف أن الذات الفردية قد عادت إلى الشعر العربى لكنها عادت صغيرة فى لا يقينيتها وخوفها وترددها. وهى ذات قلقة ومأساوية تعانى الفصام والتشظّى والخوف بعد سقوط الأفكار التى آمنت بها. فامتلأت بالشك تجاه العالم الخارجى الذى خذلها. وسيطر عليها الإحساس بعدم الانتماء إلى كيان واحد ثابت، فرفضت التسليم بالمطلقات ولم تعد تعترف بها، وراحت تدمرها ونجحت فى التخلص من تقليد النموذج الأعلى. ويؤكد هذا على عطا بمستهل قصيدة «صيد ثمين» «موعدنا كتاب قد لا يرى النور/ أما هدفى/ فليس أقل من صيد ثمين»، «أنا الآن/ مجرد موظف/ بالنسبة إلى كثيرين/ يزعمون أننا أصدقاء». إن هذا العذاب عبر التدفق الشعرى ما يميز القسم الثانى بأكمله، حيث نجد أيضا فى قصيدة «ملل»، حيث الرتابة التى تجبرك على اختراع الحياة والحب «اخترعت حبيبة أخرى/ لتكتب رسائل/ تخلو من أخطاء اللغة/ لكنها فشلت/ فى أن تلهمنى/ ولو سطرا واحدا/ فى قصيدة» بحث مجانى لكنه مقصود، صيد نهايته فشل لكنه محبب، كأن الغياب حاضر، وكأن الحاضر غياب «أسمع- كاظما غيظى- حديثك بضمير الغائب/ عنك وعنى/ فأقول فى نفسى/ تدفقى/ فليس هذا/ أوان حبس الماء»، «لم تكتبنى امرأة بعد/ فى قصيدة». أخيرا لا بد من إشارة لاستخدام الشاعر على عطا الأدوات الجديدة أو ما يسمى ب«أدوات النت» فى المتن الشعرى، فكانت قصيدة «قبل أن تغلق» الماسنجر «كمحاولة مهمة -وإن كانت لنا عليها ملاحظات كثيرة- لنقل الواقع الافتراضى لحيز الشعرية ولحيز الأنا الساردة «يتساوى البعد والقرب/ وقد لا تكون المسافات/ سوى مجلاد وهم/ من صنع أيدينا/ حتى لو وصمتك بالعمى/ قبل أن تغلق الماسنجر»، ورغم أن هناك إبداعا خاصا وعفويا نجده عبر مواقع التواصل الاجتماعى، فإن هذه التجارب تظل فى طور النضج، وتعد قصيدة «قبل أن تغلق الماسينجر» قصيدة هربت من «تمارين لاصطياد فريسة»، وباتت قصيدة تغرد بمفردها خارج السياق الشعرى للديوان.