قبل سنوات، كتب الشاعر الراحل صلاح جاهين ما نصه "حاكتب قصيدة ف يوم، حاكتبها، وان ما كتبتهاش أنا حر، الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة"، وربما تبدو هذه الأبيات هي الأكثر ورودا علي الذهن بعد تصفح ديوان "لسه بيعشق طير العصافير"، للشاعر مجدي عبدالرحيم الصادر أخيرا عن هيئة الكتاب، حيث تبدو القصيدة وسيلة دفاع، ومبرراً للحياة، حتي وإن بدت غير ملزمة، كما قال جاهين. تحليق وعثرات يطرح ديوان مجدي عبدالرحيم عدة إشكاليات، ربما بداية من عنوانه "لسه بيعشق طير العصافير"، والذي قد يوحي بأن القارئ مقبل علي ديوان غنائي يحتفي بالحياة، وهو ما سيجد عكسه منذ القصيدة الأولي، غير أن القراءة المتأنية لاسم الديوان تكشف عن أن ما هو قادم ما هو إلا محاولة للقفز علي عثرات الحياة، وفتح صفحة جديدة مع تفاصيلها، فعنوان الديوان لا يأتي بصيغة المتكلم كما هو متوقع، بل يبدو كأنه يتكلم عن شخص آخر، كما أن كلمة "لسه" التي تبدو هنا كحرف اعتراض في أول العنوان، تدل علي أنه بالرغم مما مضي، فما زال يمارس الفعل، واختيار كلمة "طير"، هناك تأتي بدلا من كلمة أخري متوقعة وهي "زقزقة"، والتي تحيل إلي الغناء، كما أنها تحيل إلي الحرية، والانعتاق والتحليق، وهو ما يسعي إليه الشاعر في ديوانه. يتعامل الشاعر مع الحياة بعين طفل كبير، فيراها تارة غابة بها حيوانات مفترسة، وأخري أليفة، لكنه طوال الوقت يكتشف العالم حوله غير مصدق للقبح المحيط، ويبدو هذا هو الأكثر وضوحا في الديوان، فنحن أمام عالمين متناقضين، أحدهما يعتمد علي الخداع والكذب والرياء والنفاق، والعالم الآخر لا يكف عن اكتشاف هذا والانخداع به طوال الوقت، وربما تبدو هذه الرؤية واضحة منذ إهداء الديوان الثاني الذي يقدمه الشاعر لنفسه "لديك دائمًا طيبة وغباء الضحية ولديهم مكر ودهاء الصياد"، وهو ما يبدو أيضا أكبر من كونه إهداء إلي أن يكون حكمة الديوان المصفاة. يطرح الديوان فكرة الاغتراب عن العالم الذي يرسمه قاسيا، كما يطرح فكرة الاغتراب عن الذات التي تصبح مع الوقت جزءا من هذا العالم، فتأتي قصائد الديوان مرثية للعالم والذات وهو ما يتضح في قصيدة "الزمن الصعب"، والتي يبدأها ب"قابل نَفْسُه بِجد، سَلمْ عَلي نَفْسه يدْ بِيد، خَد نَفْسُه فِي حُضنُه، وعَيط، دَابِتْ رُوحُه فِ رُوحُه، طِلْعتْ من بِين ضُلوعُه قولِة آه"، فالقارئ يكتشف منذ أول وهلة حالة الفقد التي تعانيها الذات الشاعرة". الشاعر الذي يبدو هنا وحيدا يلجأ إلي ذاته لمداواة جروحه "طَبْطَبْ عَلي صِدرُه بِحِنية، مَالتَأهَاش من حَدْ"، ويكشف هنا أزمة الذات الشاعرة في اغترابه عن العالم "كَان نِفْسُه ىِقَابل حَدْ بِجَدْ، يعرَفْ مَعنَي الحب"، لكن الأمر قد يبدو أكبر من افتقاد العالم معاني الإنسانية، بل عدم تقدير هذا العالم له "وِإنه طَيب فعلاً وأَغلَبْ م الغلب". يكشف هذا النص عن احد مفاتيح الكتابة لدي مجدي عبدالرحيم، فمجدي الذي يتمسك بكتابة القصيدة التفعيلية، يستعير بعض خصائص قصيدة النثر في نصوصه، مثل البناء المعتمد علي التفاصيل، فضلا عن الاعتماد علي السرد في معمار القصيدة، فيقول "ريح رَاسُه عَلي كِتَافُه، وِنَام، أَول مَرَّة من كَام عَام، يرتاح"، فهو هنا لا يراهن علي الصورة الشعرية بقدر ما يراهن علي الحالة الشعورية التي تتسلل للقارئ من سرده للحالة الشعرية. وإذا كان مجدي عبدالرحيم، قد قرر أن يتخلي عن العالم الذي يراه مغلفا بالقسوة والمشاعر المزيفة، وأن يلجأ إلي ذاته كما حدث في القصيدة الأولي، فإنه يلجأ إلي القصيدة ذاتها في نص "خرج ولم يعد"، بل يقيم علاقة إنسانية مع القصيدة التي تبدو وكأنها تربت علي كتفه "لما القصيدة، تِشُوفنِي بَاعيط، ِتجِيبْ لِي عِلبة منَادِيل، وِتفتَح شِبَاك الحَياة، وِتِنْدَه عَ الغَرِيب يحضَر"، فيبدو عبدالرحيم وقصيدته في انتظار هذا الغريب إلي آخر الديوان. بناء الرباعيات إحدي خصائص الديوان اللافتة، هي اعتماد عبدالرحيم علي بناء الرباعيات في عدد كبير من قصائده، بما يحمله هذا النوع الشعري في ذاكرة العامية المصرية، من فلسفة شعبية، غير أنه لا يقدم الشكل المتعارف عليه، والذي قدمه الشاعر الراحل صلاح جاهين، بل هو يقدم شكلا جديدا، يمزج فيه ما بين فن الواو والشكل التقليدي للرباعيات، وأحيانا شكل قصيدة الهايكو اليابانية، معتمدا علي القافية في بعض الأحيان، ومتخليا عنها في حالات أخري، لكي يقدم رباعياته التي تخصه، وتشبه كتابته "أصحَي من نُومِي، أَلاَقِي نضَارتِي، وكِتَابي، وكوبَاية مَىَّه، وعِلبِة دَوَا"، فهو هنا يقدم قصيدة تفعيلية عادية، أقرب لقصيدة النثر، وفي أخري يقول "ونَتِيجَة عَ الحِيطَة، عَمَّالة، تِقْتِل الأَيام"، ويلجأ في رباعياته، إلي فن الواو، غير أنه لا يستعير منه في بعض الأحيان سوي القافية، بينما يقدم تفعيلات مختلفة، مثل قوله "بتخربشيني أنا، ومعاهم ليه أليفة، العيب فيا أنا، ولا إنتِ فعلاً مُخيفة"، وقوله "إنطفَي نور الوفا، والعيون ماشيه ف عتامة، والخلاص محتاج صفا، قبل ماتقوم القيامة" يؤرخ عبدالرحيم في ديوانه للمهمشين، فهو كما يقدم نفسه يعيش علي هامش الحياة، يرصد بكاميرا القصيدة التحولات التي تحدث، فهو يقدم من يقفون بجواره علي الهامش، هؤلاء الذين لم يتلونوا بعد، ومن اللافت هنا هذا الامتزاج بين حالة الذات الشاعرة، وذوات الآخرين "لَمَّا تِقَابلُه أَكِيد، رَاح تِنشد، وتحس بِجَد، إِنَك شُفته زمان، وانه قُريب م القلب، خِيط مَمدود بالألفة بِيسري، مابينه وبينك، مَعَ إن دِي أول مَرة تِشوفه"، وربما يتأكد هذا الامتزاج مع الإسقاطات التي يوقعها علي الذات الشاعرة "وحَ تتأكد إن الحَاسَة السَادسَة مُش بِتخونك زي اصحَابك"، كما أن المواصفات التي يقدمها عبدالرحيم لسكان مدينته، يبدو أن أهمها هو الإنصات للآخر، والتواصل معه، وهو ما يفتقده الشاعر في عالمه، وما يشعره بمزيد من الاغتراب. وتتحول القصيدة إلي مرثية غاية في الشفافية، ليؤكد أن هؤلاء الشخوص لا يرحلون بمجرد موتهم بل يتحولون "صدقني ممكن تلاقيه، فِ جِنَاح طيارة ورقف إيدين عيل، أو بيعَدي الشَارع، مع ست عَجوزَة، خَايفة م العَربيات، أو عَلي بَاب مَدرسَة، مِستني يشوف الفرحة، ف عيون الاطفال، وقت المِرواح، أو في محطة مترو، بيقول أشعار، أو قدام عرَبية فول، وسط الناس الشقىَانة، أو ف حديقة الحيوان، بيعيش أسعد أوقاته". ويبدو تطور الحالة الشعرية في ديوان عبدالرحيم واضحا، وربما بسبب أن الديوان مكتوب علي فترات متباعدة، ويمكن لمس هذه من بناء الجملة، والصورة الشعرية في بعض القصائد، والتي انتقلت من الصورة المركبة إلي الصورة المبنية علي رصد مشهد إنساني حسب رؤية الشاعر، وحالة شعرية، تذكر بما قاله أدونيس في كتابه فن الشعر "لم تعد القصيدة الحديثة تقدم للقارئ أفكارا ومعاني، شأن القصيدة القديمة، وإنما أصبحت تقدم له حالة، أو فضاء من الأخيلة والصور ومن الانفعالات وتداعياتها، ولم يعد ينطلق من موقف عقلي أو فكري واضح وجاهز، وإنما أخذ ينطلق من مناخ انفعالي، نسميه: تجربة أو رؤية "، وهو ما يفعله عبدالرحيم في العديد من قصائده. القصيدة السياسية.. بعيد عن المباشرة ويقدم عبدالرحيم القصيدة السياسية بشكل بعيد عن المباشرة، ويرصد من خلالها تاريخ ملامح القهر التي تأكل الروح المصرية "عَصَايتك اِنكسرت، وإيدك اِنجَزعِت، من كتر الضرب، في جتتي، يا سعادة البيه، ف بلاش تزعَل مني ، سلامة إيديك المحروسة، من كل سوء"، كما يقدم في "قصيدة ناقصة للوطن"، رؤية ساخرة للعجز العربي، وعجز المواطن العربي عن فعل أي شيء حيال الدماء العربية التي تسيل، ليؤكد أن كلنا مقتولون، وليس أولئك في فلسطين أو العراق أو سوريا فقط، وينهي قصيدة برؤيته أن العجز العربي ناجم عن الوحدة التي يتحدث عنها طوال قصائده، والتي ليست إلا سجونا صغيرة صنعناها لأنفسنا أو صنعت لنا، حتي لو كانت تلك الزنازين هي منازلنا، لكنها أصبحت بمثابة الحبس الانفرادي، كما تبدو السياسة حاضرة أيضا في نصوص "حاجات مش بسيطة"، وكذلك "حالة جيم"، والتي يرصد من خلالها دولة القمع والأمن، وتأثيرها علي البنية الفكرية للمواطن "العسس فتش ف عقله، لمين بيقرأ، وإيه ميوله، العَسس عمَّال يراقبه، وين بيسهر، و مين يقابل، وليه هدومه مش جديدة، وليه عيونه مش سعيدة" ويلجأ عبدالرحيم إلي لعبة تعدد الأصوات في العديد من النصوص، ففي الوقت الذي يتحدث فيه عن الذات الشاعرة بصيغة الغائب، يقدم نصا آخر، علي لسان طفلة، مستحضرا مفرداتها، وطريقة تفكيرها، وهو ما يتجلي في قصيدة "باكو شيكولاتة"، والتي يقدمها علي لسان طفلة أبعدتها الظروف عن والدتها، فتحكي "وحدي فِ البلكونة، بالعَب ويا عروستي، اللي دايمًا بتونِسنِي، و بتحرسني، و مَامَا فِ الصَالة، بتضحَك مع عَمو، اللي لابس بيجامة بيضَا، زي بتاعتك يا بَابَا"، وتتسرب المأساة التي يرصدها عبدالرحيم من خلال مفردات الطفلة البسيطة "وأنا زعلانة خالص، من عَمو، علشان بينام، دلوقتي مكاني"، وتتصاعد درامية النص، والمأساة مع المزيد من التفاصيل التي ترويها الطفلة "إمبارح رحت معَاهم، حديقة الحيوان، إستنيتك عند الفيل، يمكن تيجي زي زمَان، علي فكرة الفيل، كان زعلان، ومكشر، و رافض ياخد أكل ف زلومته، هو الفيل برضه، بَابَاه مسافر"، والقصيدة التي تعد واحدة من أجمل قصائد الديوان، ينجح عبدالرحيم فيها في نقل الحالة الشعورية بكامل تفاصيلها علي لسان الطفلة، ورغم أن النص يبدو خاليا من الصور الشعرية، إلا أنه محمل بطاقة شعرية كبيرة، نجح عبدالرحيم في خلقها من خلال رصده لتفاصيل متوالية في حياة الطفلة. ومن الملاحظ في قصائد عبدالرحيم أن الذات الشاعرة تتحرك بوعي شعري واضح، وفقا للمفهوم المعهود للشخصية الشاعرة التي قد تتحلي بقدر من المثالية، أو بالوعي العاطفي السنتمنتالي، وتبدو في الأغلب محبطة، منكسرة، قلقة، وهو ما يفسر لجوء عبدالرحيم إلي السرد في معظم نصوصه، وهي حالة من الدرامية، يري بعض الأكاديميين، أنها مواجهة وصراع مع عالم القول عبر إمكانات القول، فالدرامية هنا، تصدع وتشظي، وهذه الذات لم تعد في موقف من تتصدع كينونته وتتشظي تشظيا يفضي الي خفوت صوته، بل الي اتساع صوته في التجربة اتساعا يغدو معه في موقع من تتوحد كينونته وتتماسك تماسكا يفضي الي هيمنة صوته في التجربة علي كل صوت لسواه وعلي نحو يغدو معه صوت الرؤية المحددة الجاهزة المحيل علي عالم الوجود المحدد الجاهز. لكن لا يمكن إغفال أن لجوء عبدالرحيم إلي السرد في النص الشعري يحمل، قبل ذلك، وعيا مزدوجا بعالم مزدوج وبناء مزدوج لعالم مزدوج، لذا نلاحظ في معظم نصوصه، وفي ظل تغييب ما هو إنساني وإبراز ما هو استهلاكي عابر قبيح، يلجأ إلي مناقشة الآخر، ممثل العالم القبيح، ومحاكمته عبر النص، وهو ما نراه في نصوص "فارس من ورق"، و"فلاش باك"، التي يحاكم من خلالها الذات الشاعرة التي تبدو في موضع الضعف والوهن، وكذلك في قصيدة "كلاكيت متكرر"، وقصيدة "التعلب فات"، و"الشارع الحزين". يقدم عبدالرحيم في ديوانه لغة سهلة وبسيطة محملة بالشاعرية، كما يقدم قصائد مليئة بالدلالات الشعرية، تصل للقارئ العادي، والمتخصص، وربما يستحضر في هذا قول الشاعر الراحل محمود درويش "إن القصائد إذا لم يفهم البسطاء معانيها فأولي أن نذريها وأولي أن يخلد الشعراء للصمت"، لذا فهو وإن كان يقدم قصائد سهلة تصل للقارئ العادي، فإنه يعمد في ذات القصائد إلي تحميلها بدلالات مختلفة، فلا يقدم نصا مغلقا، ولا نصا سهل الانقياد، بل نصا يبوح بالكثير، ويكشف عن شاعر حقيقي، يملك أدواته، ويعرف كيف يؤثر بها.