يعد عنوان ديوان الشاعر كريم عبدالسلام مفتاحاً أساسياً لقراءة هذا العمل، إن الكتابة هنا تتم "بين رجفة وأخرى" بمعنى أن الشاعر يختار منطقة بينية، تبدو كومضة فى ظلام غير دامس ونور غير ساطع، تقدم التخطيطات الملحقة بالديوان وهى للشاعر نفسه رؤية بصرية لهذا المنحنى فى الكتابة تظهر فى تشكيلات سريالية لخطوط متفاوتة الحجم، تتراوح بين بقع سوداء صغيرة، وأخرى أقل حجماً مثل النقط المتناثرة أو ذرات الغبار أو الرمال، تعطى فى مجملها تأثيراً بحركة ما، فيما يشبه تكسير أمواج صغيرة على الشاطئ أو ما يشبه دوامة الهواء أو الماء، أو ما يوحى بانطلاق طائر وحيد عكس اتجاه كتلة من البقع السوداء، المهم هنا ليس القيمة التشكيلية لهذه التخطيطات وإنما تجسيدها لومضة لونية أو حالة شعورية تتحقق فى الملفوظ الشعرى "بين رجفة وأخرى". إن الحالات الشعورية فى قصائد هذا الديوان لا تتغنى بالعواطف المسرفة بل هى مجرد رجفة صغيرة تلتقطها عين الشاعر من واقع الحياة ومن تجربته الشخصية، وتجربة جيله، فتخبر عن لحظة غربة أو وحشة أو حلم لا يتحقق، أو تهشم العلاقات الإنسانية أو ارتجافة خوف أو غضب تواجه بروح ساخرة، لكنها غير سوداء أو "ممرورة". تنبنى قصائد الديوان على تراكم مشاهد، مفرداتها مستمدة من تفاصيل الحياة اليومية، إذ يعيد الشاعر استنطاق ما هو منسى ومهمل وما هو فى عاديته، لا تلمحه العين العابرة، ولا تلتفت إليه الأنظار مثل "رغيف منسى تيبس تماماً"، أو "الدويبات الزاحفة على نجيل الحدائق" أو "الأحجار وأدوات الصيد أهملها أصحابها"أو "ثقل الشاى الذى تحرك لأعلى.. يريد أن يصل لشىء.. لكنه يتركز ثانية فى القاع". الكتابة هنا تصبح استحضاراً لبهجة صغيرة غائبة، تماثل احتساء كوب شاى ساخن بالنعناع فى شرفة، لكن الكتابة عن مثل هذه البهجة العابرة تحتاج إلى مناورة ساخرة تتضمنها السطور التالى: "أكتب عن مناورتي: أحصل على آخر قطرة دون أن يعلق الثفل بشفتي" تتردد صياغات مشابهة على امتداد الديوان الذى يشتمل أيضاً على استخدام بعض أنماط المفارقة الساخرة، سأتناول نماذج لها فى نقطة تالية، غير أن المهم هنا هو طريقة استخدام الشاعر لتفاصيل تتشكل بواسطتها المشاهد المتتابعة، قد تترابط هذه التفاصيل فى قصيدة من قصائد الديوان فيفضى تراكمها إلى خلق حالة شعورية متنامية، يستطيع القارئ تبينها والحدس بمرجعيتها وفق تسلسل ما مستمد من منطق القصيدة الداخلى، لكن الصياغة الشعورية تتحقق فى بعض قصائد الديوان من خلال صور مغرقة فى سرياليتها، تقوم على انزياحات لغوية مفاجئة، بما يحدث فجوة بين الدال والمدلول، تؤدى إلى افتقاد الترابط بين الكلمات والصور الشعرية.. تجد مثالاً على ذلك فى قصيدة "جزيرة النساء" والتى تدور حول جزيرة أسطورية متخيلة فى سياق حلمى يحتشد بالآلهة ذات الجلود المزركشة والزعانف، والنباتات، والنساء الزهور، والحيوانات، واللغة التى ترن فى الهواء وتصبحها الفاكهة والزيت المعطر، وإله الظلام، وإله النور الذى يتأمل قدر الطعام.. إلخ. إن الانتقال المفاجئ بين مفردات، يصعب أن تترابط حتى فى مثل هذا السياق الحلمى، يفضى إلى تشتت الرؤية المركزية فى القصيدة، فلا يستطيع القارئ أن ينتبه إلى السطر المحورى حين يقول الشاعر: "الموج يتمرن طوال الوقت لإنزال دخلاء على شاطئى" يستخدم الشاعر فى عدد من القصائد إحدى خصائص قصيرة النثر، أعنى إفساح مساحة كبيرة للسرد على امتداد الديوان. نجد مثلاً قصيدة عذبة محكمة بعنوان "حكى" وتدور حول موقف الأم الصارم الحنون تجاه شيطنة أولادها، بينما تتشخص الوقائع بصورة شعرية فى أتوبيس تجرى فيه مشاهد عنف وسرقة، يلتقط القارئ هنا بسهولة رجفة الخوف والتعلق والحماية، رغم قسوة الأم الظاهرة، إذ تتضافر المفردات لإبراز هذه الدلالة، ويتحقق المنحنى السردى أيضاً فى قصائد "فتاة" و"الحشائش" و"شاب" و"الخبز" و"الأطفال"، فضلاً عن تخلل السرد لمعظم مشاهد القصائد الأخرى، ومن الملاحظ هنا أن السرد يتحرر من سياقه الحياتى المباشر وتسلسله العادى، ليدخل فى سياق شعري يقيم تراتباً جديداً بين عناصره، هذا التراتب يقوم على التناظر والتشابه من ناحية، والاختلاف والمغايرة من ناحية ثانية. ينقسم الديوان إلى خمس وحدات تشتمل كل منها على عدد من القصائد أو تقتصر على قصيدة واحدة. فى قصيدة "الخبز" وهى من قصائد الوحدة الأولى التى تحمل عنوان "مجاعات تتجول بحرية" نجد "الأرغفة" دالاً أساسياً يتخلل المشاهد السردية المتتابعة، مما يقيم ترابطاً بين مقاطعها المختلفة، نقرأ مطلع القصيدة: "الهواء يمر على أرغفة مضمومة إلى الصدر فيتسرب الدفء بسرعة ماذا تعمل الأصابع؟ إذا رتقت ثقباً ظهرت ثقوب" يقدم هذا المشهد صورة بصرية موجزة تترابط مفرداتها لتكشف عن حالة واقعية وشعورية فى آن، تكثفها المقاطع التالية عن طريق استخدام الدال نفسه "الأرغفة" فى سياقات متباينة، إننا نجد فى المقطع الأول علاقة بين "الهواء" وتسرب الدفء بسرعة وبين الأصابع التى تضم الأرغفة إلى الصدر، والثقوب التى كلما رتقتها هذه الأصابع ظهر بينها ثقب جديد، فى مقاطع تالية تستعيد الأنا الشعرية ذكرى هذه اللحظة من الطفولة، فترتبط برائحة الخميرة وكيف نجا الخبز المختبئ تحت الملابس من البلل، وتحقق ذلك الانتصار الصغير للطفل الذى كان. نجد أيضاً ذكرى أرغفة بيضاء كانت الأم تخبزها لتهديها إلى الجيران، الذين تغيروا فما عادوا يشبهون الوجوه المألوفة التى تحتفظ بها الذاكرة وفى مقطع آخر نقرأ: "رغيف منسى تيبس تماماً الغبار وصل حتى نكهته" ثم يأتى المشهد الأخير الجميل فى وجازته وتكثيفه وتناصه مع المأثور الشعبى، يقول: "كسرةٌ نفخت عنها الغبار ثم قبلتها، عندما تسقط لقمة تصالح بالقبل" إن هذا المشهد القصير يقيم بدوره ترابطاً بين الدلالة المحورية للخبز كضرورة يومية من ناحية، وبين المجاعات التى تتجول بحرية من ناحية أخرى، كما يقيم من ناحية ثالثة علاقة نصية دالة بين الرغيف المنسى المتيبس، الذى وصل الغبار إلى نكهته والكسرة التى تنفخ عنها الأنا الشعرية الغبار، بالإضافة إلى اللقمة التى عندما تسقط فإنها تصالح بالقبل. هكذا يوظف الشاعر التكرار ليخلق إيقاعاً داخلياً خاصاً، تتآزر من خلاله المشاهد السردية، المجاوزة لحدود النص إلى ما هو خارجه، وعلى الرغم من توخى الشاعر الإيجاز والتكثيف فى معظم مقاطع القصيدة، إلا أننا نجد مقطعاً منها، لا يحقق فى تصورى، وظيفة شعرية فى هذا السياق، نقرأ المقطع الثانى: "الأرغفة تركت للحظات، عندما يلامس الفم عرق الدفء المتبقى والطراوة فالأسماك تلقى حية فى النار" صحيح أننا نجد فى المقطع السابق ترابطاً بين الأرغفة والفم والدفء والمتبقى الذى كان يتسرب بسرعة فعل الهواء البارد، فى المقطع الأول من القصيدة، وكذلك فإن الطراوة التى تلامس الفم تحيل إلى الخبز الطازج. لكن العلاقة التى تحيل الأسماك إلى الطراوة، تفيد عكس المقصود، إذ تعد طراوة السمك علامة على فساده. أما النار وإن كانت تقيم علاقة بين تسوية الخبز وإنضاج الأسماك الحية، إلا أن هذه العلاقة تبدو لى واهية، غير مبررة فى هذا السياق. يلجأ الشاعر فى عدد من قصائد الديوان إلى صيغة الجمع فيتم الملفوظ الشعرى من خلال "النحن" المهمشة بما يعنى تناظر التجربة الحياتية والشعرية بين مجموعة من الشباب، تومئ إليهم القصائد بصورة مستمرة، بينما تندرج هذه القصائد فى ثلاث وحدات هى: "مجاعات تتجول بحرية" و"أكل يوم ظلام" و"غرقى الهواء". تمثل قصيدة "غير مرئيين" وتقع فى الوحدة النصية الأولى نموذجاً لاستخدام الشاعر تقنية المفارقة الساخرة، إن ظاهر القول فى القصيدة يتمثل فى تجسيدات بصرية، تعبر عن فكرة أو حالة شعورية، يتلقاها القارئ بوصفها محور القول الشعرى الذى يتبلور بمواصلة القراءة حتى انتهاء القصيدة، لكن نهاية القصيدة تكشف عن معنى مناقض، يحمل حساً ساخراً بما يفيد انقلاب النهايات على البدايات، على نحو ما يظهر فى عدد من قصائد الديوان: تبدأ القصيدة بالسطر التالى: "جاء دورنا لنبتسم.." المروى عنهم هنا غير مرئيين وكأنما وقع عليهم فعل سحرى، شبيه بما يحدث فى الحكاية الشعبية، حين يعثر أحدهم على طاقية الإخفاء، إنهم يستطيعون التسلل إلى المحلات فيندهش الحراس، وتندهش عجائز متصابيات، يعتقدن أن سرب نمل يجذب الطعام التى يحملنه، لكن المقطع الأخير من القصيدة يأتى بعكس الجو المرح الساخر الذى يعد به العنوان والمشاهد السردية السابقة، نقرأ: "ما يزيد سعادتنا أن الفرصة ستحين لنثأر من أرواحنا كثيراً ما سخرت من أجسادنا الثقيلة المكشوفة والتائهة المجهدة ولامرعوبة السائرة على أقدام هشة والتى لم تمتلك فى أى يوم ذلك الحضور الذى للأفكار والأمنيات". هكذا تخالف نهاية القصيدة توقع القارئ، إذ يجد "النحن" الراوية تكشف عن إحساس بالخوف والفزع ووطأة الحركة المثقلة بالمعوقات، والأمنيات التى لا تتحقق. فى قصيدة أخرى هى "نطبق قبضتنا ثم نرخيها" تندرج فى وحدة "غرقى الهواء" نجد أن عنوان القصيرة يثير إيحاءات متباينة، فقد يعنى هذا الفعل الصغير حركة عفوية تفيد العبير عن توتر ما مكبوت، أو غضب أو محاولة للتشبث بالهواء. نقرأ مطلع القصيدة: "أخبرونا عن أنفسنا بروح تهكمية فبدونا ممثلين فى أفلام قديمة، كل حركة نأتيها تبحث عن الضحك". فى المقطع التالى يتحدد هؤلاء الذين "أخبرونا" فى إشارة إلى "أقاربنا المسنين" على حين ينتقل المنظور إلى ما لم تقله "النحن" الشعرية: "لا تقول لهم لم يكن البقاء ممكناً داخل بطون أمهاتنا". إن المنظور الذى يمثله "الأقرباء المسنون" يتقابل هنا ويختلف عن منظور آخر تتبناه النحن الشعرية وتعمل على تراكم مفرداته فى المقطع التالى: "الرومانتيكية التى أقسمنا على حمل الكراهية إليها استدرجتنا، أعطتنا محبة لقلوبنا وأخذت الكراهية إلى النار، شفت صدورنا وطبعت صورتها فى العمق منا كى نتعذب بها كلما أردنا تشويهها، أجمل ما فينا نستثقله ونحاول التخلص منه من شق صدورنا ولم يلائمها (المقصود هنا الالتئام وليس الملائمة) وما فائدة المرايا بأعماقنا". إن مرايا الأعماق هنا تعنى البحث عن الصوت الخاص وليس استعارة الأصوات الخارجية أو الصور الزائفة، ذلك أن تلك الرومانتيكية، التى يتحدث الشاعر عنها ليست الهشاشة العاطفية وإنما هى أن نعرف كيف نستبدل الكراهية المحبة، أو كما يقول الشاعر فى قصيدة أخرى: "كائنات صديقة تحرسنا تعى أننا شركاء فى المكان وإن كانت لنا طريقتنا فى اللمس والشم والمطاردة" فى قصيدة أخرى من أجمل قصائد الديوان هى "ما يضيعه الصحو" وتندرج فى الوحدة التى تحمل عنوان "أكل يوم ظلام؟" تتجسد المشاهد السردية فى سياق حلم جماعى، يضم مجموعة من الأولاد والبنات، نقرأ: "خرجنا حاملين ما نملك من أوانٍ وعلب، نريد ترابا يكفى لصنع بلد البنات قابضات مثلنا فى الأوانى بأصابع عارية من الزينة، ... كلما صنعنا بلداً أتى أضيق أو أوسع من رغبتنا أينما نتعب نتوقف وتمتلك بلداً ... لا نرسم حدوداً ولا نبيد السكان الأصليين" يدلنا هذا العرض لديوان "بين رجفة وأخرى" للشاعر كريم عبدالسلام على جانب من التجربة الشعرية فى الكتابات الجديدة، وهى تجربة تتمثل بعض سماتها هنا فى البحث عن شعرية التفاصيل اليومية وعن صياغة لغوية، تجنح أحياناً إلى التهويمات الذهنية أو الصور السريالية، وتنجح أحياناً أخرى فى المزج بين اليومى والشعرى بما يعبر عن حالات الوحدة والعزلة، وطرح الأسئلة بغير إجابات والبحث عن صوت خاص ينبثق من "مرايا الأعماق". يتسم الديوان أيضاً بتبسيط القول الشعرى فى كثير من الأحيان والبعد عن التعبيرات البلاغية السائدة، وغياب الصياغات المجنحة، والنبرة الغنائية، وتضخم الذات الشعرية، فضلاً عن اعتماد الإيقاع الداخلى بدلاً من الموسيقى الشعرية، ذات الصوت العالى أو حتى المهموس. إنها وصفات شعرية بالغة الرقة والعذوبة مغلفة بالسخرية والتهكم الرفيق، الممتلئ بمحبة الناس. =-=-=-=-=-=-=-=-=