في عام 1914 قامت الحرب العالمية الأولي، وفي نفس العام ولد الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثر. هل كانت محض صدفة أن يمنحنا القدر كاتباً بهذه القيمة ليداوي جراح الحرب التي أسقطت الآلاف من البشر؟ وانتهت الحرب ووضعت أوزارها، مات في الحرب من مات، المنتصر والمهزوم، وبقي كورتاثر بصورته الطفولية، بسؤاله وحيرته، وفوق كل شيء: بكتاباته التي انتصرت للجمالية والإنسانية والخيال. منذ أربعة شهور، فكرت أخبار الأدب في عمل ملف كبير للكاتب الأرجنتيني في ذكري مئوية ميلاده، ملف يليق بتاريخه الأدبي وتأثيراته التي تركها في فن السرد، قصةً ورواية، ملف يتم من خلاله تقديم صورة الفنان من جميع جوانبه، وتوفير مادة ثرية عنه تستطيع أن تعطي صورة عمن يقف خلف هذه الكتابة المبدعة. وبدأنا في جمع المواد التي تخدم في هذا الغرض، وانتقينا منها ما رأيناه جديراً بالنشر وما يصب في اهتمام القاريء، ويسد ثغرة في المعلومات عن كاتب الأرجنتين الكبير في اللغة العربية. وكانت الخطة أن يجمع الملف رؤية كورتاثر للكتابة، وخاصةً الكتابة الفانتازية التي انتصر لها، من خلال مقال له، ومقالات عن كتاباته، وحوار معه يكون مشبعاً بالقدر الكافي الذي يعكس منظوره للأدب ويكشف أيضاً عن كواليسه ككاتب، ومراسلات تمت بينه وبين آخرين تكشف من بين أشياء أخري عن مطبخه الأدبي، بالإضافة لنماذج من إبداعه ليتعرف عليه من لم يعرفه، وتزداد معرفة من سبق له التعرف عليه. والحق أن المناسبة الصحفية لعمل ملف بهذا الحجم للكاتب الأرجنتيني العظيم، الذي أسس لدعائم الكتابة الفانتازية في أمريكا اللاتينية، هي مئوية ميلاده. لكن ثمة حقاً آخر يقف خلف المناسبة الصحفية، وربما يكون أكثر أهميةً منها: أننا كنا نريد أن نحتفي ب كورتاثر، أن نسلط الضوء عليه من جديد، أن نستحضر كتابته ومنظوره لهذه الكتابة، وأثناء ذلك نطرح علي أنفسنا، كقراء وككُتّاب ونقّاد ومحبين للأدب، سؤالاً لا يصح أن يغيب وسط الأحداث السياسية الملتهبة، سؤالاً حول الكتابة كفن في المقام الأول، وليس منشوراً سياسياً ولا بحثاً اجتماعياً، دون أن ينفي ذلك دور الكاتب في المساهمة في هذه الأحداث. و"المساهمة" هي الكلمة التي يفضلها خوليو، في مواجهة كلمة "الالتزام". وهو ما يمكن أن نراه واضحًا في موقفه المؤيد للجزائر حينما كان في باريس، وموقفه المؤيد للديمقراطية التشيلية ورفضه لانقلاب بينوتشيه، ودعمه للثورة الكوبية في بدايتها. ربما يكون خوليو كورتاثر مثالاً يحتذي به كمثقف دافع طول حياته عن الحرية وحقوق الإنسان، وككاتب تجريبي اختار لنفسه السير في طريق يخصه ويعبّر عنه ويعكس تصوراته عن الفن، وكإنسان عاش بروح طفل، طفل "غريب" واستثنائي، يري الفجوة بين كرسيين دون أن يري الكرسيين، ليستخلص من هذه الصورة فناً، ويظل يدافع عن هذا الفن لآخر أيام حياته. الملف الذي تقدمه "أخبار الأدب" في هذا العدد ليس إلا تحية لكاتب ودّع الحياة لكنه لم يمت، ذلك لأن قراءه ومحبيه يزدادون يوماً بعد يوم، ولأن أدبه استطاع أن يواجه الزمن ليكتب له الخلود. ولأنه كان وجهاً جميلاً ظهر في عام قبيح، فبين الجثث التي سقطت في الحرب العالمية الأولي، أطل هو علينا بابتسامته الطفولية.