محمد ابراهيم ابو سنة الوقوف أمام حدث تاريخي ما، لمحاولة فهمه وتشريحه وتحليله، مهمة أسهل بكثير من الوقوف أمام شاعر وتزداد المهمة صعوبة، إذا كنت أمام شاعر كبير بقامة محمد إبراهيم أبوسنة، وإذا كان الفيلسوف الألماني مارتين هيدجر قد جعل اللغة بيتا للوجود، فان قلب الشاعر بيت للوجود وللغة معا، فهوأشبه بصندوق سحري من الواقع والخيال، الحقيقة والأسطورة المباشرة والرمز. والشاعر كما قال هيدجر أيضا: (يقف بين »آلهة« السماء وموتي الأرض). ربما كان ذلك لأن الشاعر هو الوحيد الذي يمارس الحياة عن طريق اكتشاف الذات بل وتخليقها. تقول الشاعرة السويدية إديت سودرجران: أنا لا أخلق الشعر، لكنني أخلق نفسي، فالقصائد بالنسبة إليّ طريق إلي ذاتي. وإذا كان التاريخ هو حركة الناس في الزمن، فالشاعر هو حركة التاريخ والجغرافيا وسائرالعلوم والفنون والمشاعر داخل النفس. لذلك أجد صعوبة في تحديد المدخل الذي يمكن من خلاله الولوج إلي عالم أبو سنة، وخاصة لأن عالمه ممتد علي المستويين الأفقي والرأسي، وهو في هذا الامتداد يجتاز كثيرًا من المناطق النفسية والفنية التي تصلح جميعاً بدرجات متفاوتة، لتكون مدخلا لهذا العالم، لكنها في الوقت ذاته تجعل الاختيار صعبا: تكاثرت الظباء علي خراش فما يردي خراش ما يصيد هزيمة المشروع القومي لكنني آثرت مدخلا ما، أراه يصلح بدرجة كبيرة للتعامل مع تجربة أبو سنة الإنسانية والشعرية، هذا المدخل يفصح عنه أبو سنة في أحد الحوارات التي أجرتها معه مجلة »الطليعة« عام 1969، وكانت هزيمة 67 أو هزيمة المشروع القومي زلزالا أعاد النظر في كثير من الأيديولوجيات والأطروحات: »إننا جيل محاصر.. ولم يحتج جيلنا لقيمة مثل حاجته إلي الحرية هذه الحرية التي ناضل الجيل السابق من أجلها ويبدو انه خسر المعركة«. الحرية هي ما يمكن ان يفك شفرات خصوصية وتميز تجربة أبو سنة لكنها ليست الحرية السياسية فقط، وهو مفهوم ضيق لمعني غاية في الاتساع، لكنها حرية ان تري ذاتك، بلا أي قيد لا سياسي فقط- بل نفسي وثقافي أيضاً! الحرية التي عبرت عنها الناشطة اللاهوتية إليزابيث جم كالهام بقولها: الا أجد حرية تماثل حرية رؤية ذاتي كما أناب. لقد كان المشهد الثقافي والسياسي الذي نشأ فيه أبو سنة أشبه بتيار جارف إما ان تسايره أو ان يقتلعك! كان المشهد فوضويا إلي حد كبير وكان من الممكن ان يؤدي الضجيج الثقافي والسياسي والأدبي إلي نوع من العمي الفكري كجراد يسد الأفق ويحجب الرؤية، كانت الواقعية الاشتراكية هي الموجة السائدة والبضاعة الرائجة، وأسهل الطرق إلي الشهرة، وقد تنازل الكثير من الأدباء عن قناعاتهم الفنية من أجل احتلال صدارة المشهد الأدبي، لكن أبو سنة، لأنه يعرف قيمة الحرية ويؤمن بها ويمارسها وقف ضد هذا التيار الا بمعني المعاداة لكن التميز الأدبيب لم ينهزم أمام الظرف التاريخي، ولم يكن إلا نفسه. اتهم أبو سنة بأنه رومانتيكي! وهو ليست تهمة! ومع ذلك لم يأبه لمتهميه، واختط طريقه بقدميه، لا بأقدام غيره، كما ان الذين مدحوا رومانتيكيته، مدحوها علي استحياء وبما يشبه الذم لا خوفا من سطوة سياسية، ولكن من سلطة ثقافية وأدبية! الشاعر الرومانسي المرهف الحس إلي حد المرض »شكري عياد« قد تجاوز الشراك التي تنصبها الرومانسية المراهقة والرومانسية التقليدية الويس عوضب لكن اعلي عشري زايدب كان أكثر اتساقا وأقل مراوغة حين قال: فارس رومانسي لا يزال قادرا علي الحلم. هل هو رومانتيكي؟ لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلي أي مدرسة أدبية ينتمي أبوسنة، وهل هو رومانتيكي حقا؟ ان الرومانتيكية التي نعرفها تختلف عن الرومانتيكية التي يصنف بها أبوسنة، كما ان واقعيته تختلف عن واقعية القوم، هو، وبتعبير المعتزلة يقف بين منزلتين. فالاغتراب اوهو أبرز ملامح الرومانتيكيةب ليس لديه اغتراب الرومانتيكيين السلبي، الهارب من الواقع والمنكفئ علي ذاته لكنه اغتراب إيجابي مقاوم، متطلع إلي التغيير: أهجر القبر وأمضي، باحثا عنك بعيدا في ممرات الزلازل، انني أبحث عن صوتك في الريح. انه ببساطة لم يقلد أحدا، وكان ذاته لا ذات غيره، وهذه خصيصة أبوسنة التي ينفرد بها، انها الحرية إذن! حتي ولو كان الثمن هو الموت: البحر موعدنا/ وشاطئنا العواصف/ جازف/ فقد بعد القريب/ ومات من ترجوه واشتد المخالف/ لن يرحم الموج الجبان/ ولن ينال الأمن خائف/ القلب تسنه المواويل الحزينة والمدائن للصيارف/ خلت الأماكن للقطيعة/ من تعادي أو تحالف؟/ جازف ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي/ ولا ان يصلح الأشياء تالف/ هذا طريق البحر لا يفضي لغير البحر/ والمجهول قد يخفي لعارف/ جازف/ فإن سدت جميع طرائق الدنيا أمامك فاقتحمها لا تقف/ كي لا تموت وأنت واقف. التعامل مع الشعر في هذا العصر لم يعد تعاملا إنسانياً كما كان في الماضي ولم تعد القصيدة تثير العواطف كالمرأة، لقد أفسد النقد الأذواق كما أفسدت السياسة الأخلاق، فتحول النقد من وسيلة للتفاعل والاندماج في القصيدة إلي سكين لذبح جمالها وأنوثتها، وصار النقد أيديولوجيا، يصدر الحكم علي القصيدة قبل ان تقرأ، لا بعد قراءتها، وهذه جناية النقد الكبري، بعد ان اتخمتنا مصطلحات النقاد، كموت المؤلف »رولان بارت«، وخرافة القصيدة اكلينث بروكسب وغياب المركز الثابتب. وغيرها من المصطلحات النقدية التي اقتحمت الساحة الأدبية، وأقامت جدارا عازلا عنصريا بين القارئ والنص، اتخمتنا هذه المصطلحات، لأنها أبعدت القارئ عن عفوية الشعر، وبساطته ان الشعر انفعال قبل ان يكون فكرا، والشعر معني قبل ان يكون تروسا أو آلات وإذا كان مبدأ الحتميات قد انهار حتي في العلم التجريبي، خاصة بعد أن أطلق هايزنبرج معادلته التي أدت إلي ما يعرف بمبدأ اللايقين في العلوم التجريبية. في دراسة لتوماس كون بعنوان بنية الثورات العلمية أعلن انهيار تصور علمي حقيقي حتي في العلوم التجريبية، وان أي علم مهما كان لا يخلو من البنية الذهنية الشخصية والتصور الذاتي، فكيف يمكن وضع مثل هذه الأطر والقواعد للتعامل مع الأدب الذي يعتبر الجموح والانفلات من القواعد أحد ملامحه والتغيير سمته الغالبة؟ كيف يمكن وضع ماهو متغير في إطار ما هو ثابت؟ لذلك أري ان الطريقة المثلي للولوج إلي الشعر هي الوعي الجمعي، والجماعة المفسرة. أقصد بذلك ما استقر في الذائقة الجمعية والوعي العام من قيم جمالية طبيعية، لا من قيم مستوردة ومساحيق نقدية تلطخ العمل الأدبي لا تضيئه، مع يقيني أن الوعي الجمعي، والذائقة العامة هي أيضا محل خلاف، لكنها ربما تكون المرجعية الأكثر إنصافا وبعدا عن الانحياز الشخصي، والحيل النقدية، لقد سمعتها من أحد النقاد الجدد- إن جاز التعبير- وهو يعبر عن صدمته من الخديعة التي تعرض لها علي أيدي عواجيز النقد قائلا: لقد خدعنا! والقصيدة عند ( أبو سنة) تتضح فيها معالم الحداثة (باعتبار أن الحداثة تجاوز مستمر للواقع) . يقول ابن قتيبة: ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة علي زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره. القصيدة عند أبو سنة حديثة، لا من حيث الشكل فقط، ولكن من حيث البنية والإيقاع وطرائق التعبير، فهو واحد من كبار شعراء التفعيلة وإذا كان علي المستوي الزمني يصنف من الجيل الثاني بعد كمال نشأت وعبدالمنعم عواد يوسف وحسن فتح الباب وعبدالصبور وحجازي، غير أنه علي المستوي الفني يقف علي ذات المستوي الذي يقف فيه جيل الرواد. وأبوسنة لا يكتب لكنه يرسم بالكلمات فقصائده لوحات فنية تتميز بالتلاحم وإحكام النسيج، وتوزيع الألوان والظلال والشخوص والأشياء بطريقة متناسبة فنبوءة الطفولة زرقاء، والنجوم ليست زرقاء فقط، لكنها أيضا خضراء، والاسئلة كذلك، والشباب أحمر، والأفق قرمزي، والموت أصفر، والتقنيات التي يستخدمها متنوعة، »الخيال - الرمز الأسطورة- السرد« واللغة عند أبو سنة بمستوياتها المختلفة االصوتي أو القونيمي- الاشتقاقي أو المورفولوجي- الدلالي أو السيمانتيك- النحويب لغة نابضة، نشطة مفعمة بالحياة. اللغة عندئذ ليست جامدة، ولا معجمية بل هي كائن حي متجدد، طاقة مشحونة بالدلالات. اخبرت سكة للجراح/جربت أن أروح لا أعود/ أشم في الرعود/ روائح الأمانب. في هذا المقطع المقتضب يمكن ادراك بعض ملامح التشكيل اللغوي عند أبو سنة ذلك التشكيل الذي يشي بوعي أبو سنة بالوظيفة الجمالية للغة، فعلي المستوي التركيبي استخدم هنا تقنية المفارقة اللفظية أو ثنائية الذهاب والعودة اأروح لا أعودب وعلي المستوي الصوتي، تتجلي قيمة الجناس في »أعود- الرعود« وعلي المستوي البصري والصوتي أيضاً وباستعارة بعض ما في السيموطيقا من إشارية يمكن ان نلمح هذا التشابه البصري والصوتي معا بين »خبرت« و»جربتب. السرد« ومن التقنيات البارزة التي يتكيء عليها كثيرا في تجربته الشعرية، تقنية السرد، وهي إحدي التقنيات المستعارة من الرواية وصارت سمة من سمات القصيدة الحديثة فالسرد علي مر التاريخ سواء كان شفهيا أو مكتوبا، أحد مناطق الضعف النفسي التي تستسلم النفس البشرية به، وله، وهو سرد درامي إلي حد كبير فيه صراع ومراوغة وتصاعد مما يجعل عنصر التشويق مستمرا حتي آخر كلمة في القصيدة: اتناول معطفه.. في الهزيع الأخير من الليل.. مال علي طفله.. قبله.. وأخرج من جيبه صورة لتلك التي كان يهفو لها.. في الصبا لتلك التي حبها زلزله.. في دفتر.. راح يقرأ في سره البسملة.. تأمل كل الذي كان.. وحتي الذي لم يكنه.. وكل الذي حاوله تطلع للأفق كان.. يغص بهذا الصراخ.. الذي أطلقته علي قلبه.. الأسئلةب. عنصر التشويق الإثارة، وخاصة مع اختيار السارد بصيغة ضمير الغائب. ومع تحرك الكاميرا بهذه الطريقة السريعة اتناول- مال- قبلهب. ثم إبطاء حركة الزمن والكاميرا معا باستخدام الجمل الاسمية التي تقاوم تسارع السرد »الصبا.. لتلك التي حبها زلزله« ثم استخدام المفارقة في كان ولم يكنه مع تقنيات أخري كالقص والاسترجاع يدل علي أننا أمام شاعر يعي ماذا يكتب. ان تجربة أبو سنة تستحق وقفات أكثر تأملا من هذه الدراسة المتعجلة، وإن تجربة أبو سنة ستظل دائماً تتسم بخصوصيتها وفرادتها في مسيرة الشعر العربي.