وكان يعشقها ملء روحه يصول ويجول في أنحائها يستنشق عبيرها ويصلي في مساجدها تثاءبت الشمس في الأفق.. نثرت أشعتها علي السحب فبدت كقطع حمراء تذوب مع المغيب. داهمها السكون لن يقطعه إلا تلك الزقزقات المنسدلة عبر الفضاء الملتهب بحمرة الشفق وتلك الحمامات الملونة التي تبعث بفروع الأشجار فوقها.. تنتقل من غصن إلي غصن ومن وريقة إلي وريقة تاركة أحزانها تتساقط مع أوراق الشجر المستسلمة لنسيم المساء المقبل وعبث أجنحتهم. تنهدت بحرقة.. راحت تمعن النظر في ذلك الوشاح الأسود الذي بدأ يتسلل عبر مرايا السماء مبددا تلك الخيوط الحمراء المتناثرة علي أطرافه. قلبت عينيها في تلك الصفحات الباهتة فتجلت لها تلك البيوت البيضاء الصغيرة التي تتكيء عليها.. شمس غارقة في ذوبانها.. نهار يختنق يهم بالرحيل.. زقزقات تلتمس طريقها إلي مضاجعها.. خيط ضعيف من النور يلملم أسماله.. يهجرها بعيدا. داعب النعاس عينيها.. تثاقلت جفونها.. تراخي جسدها المنهك الذابل المرتعش.. أغلقت زر جلبابها العلوي حينما لامسها هواء الليل الشتوي. لملمت أشلاءها المتكومة أمام داره الصغيرة.. نهضت تتأوه من أوجاع مفاصلها.. لم تشأ أن تنفض ما علق في ملابسها بل أحكمت وضع خمارها ثم مشت تشق طريقها بعيدا عن ظلمة المقابر الدامسة. في دارها راحت تخلع نعليها ببطء صامته. صدمتها كرة أطفالها وهم يهرعون لاقتنائها في صحن الدار. لم تنبس بنبت شفة. استلقت علي سريرها وكأن ما حولها لايعنيها. أغمضت عينيها في إعياء وراحت حيث كانت تتمني. هناك كان يقفز خلف حزمات الحطب المدلاة عبر عربات الكارو.. يعدو وراءها في رشاقة صبيانية.. يشد إحداها بقوة.. يصدر صيحة انتصار مدوية.. يتراقص تحت النسيم الحار.. يهرع إلي داره بعدما جمع أعوادا متفرقة ثم...... يهوي بها علي رؤوس صغار أبيه تئن من الداخل بصوتها المتهدج الواهن الذي زاده المرض ضياعا.. يهرول إليها يقبلها.. يطلب منها العفو عما بدر منه ثم يعود لقفزاته من جديد. تفيق علي قفزة فوق بطنها.. تصرخ متوجعة.. يضحك.. تنظر إليه في عتاب رقيق.. تتمصمص في حسرة وألم: شقي زي أبوك يقفز الصغير للخارج مهللا مشاكسا.. تتلجلج الدار صياحا وشقاوة.. تستلقي ثانية علي سريرها.. تنظر إلي السقف بقوة تخترقه. تكتشف ما وراءه.. تبدو كأعجاز نخل هاوية.. تتحسس فراشها.. باردا.. متأوها.. البرودة تسري في أوصالها فتقبض علي لحافها بقوة.. تضغط علي جفنيها.. تحاول النعاس. اغتربت عيناها... تضطرب في رأسها الذكريات.. تحاول طرحها بعيدا.. تداهمها.. فتذوب مع الماضي من جديد. أتخجلين مني؟ أنا حبيبك.. اقتربي تفر منه هاربة.. تضج وجنتايها دما.. يمسك بها علي حين غرة و..... يشربان من كئوس الهوي. يستيقظان من نشوتهما وفستانها الأبيض ملقي بجانبها.. تحتضن وسادتيها في سعادة..أما هو يعاود الانقضاض.. في رفق يحتضنها.. يسحقها بين ذراعيه.. فيتلاشيا من فرط تأوهاتهما تتفادي قرصاته تحت لحافهما العريض.. تضحك بملء فمها.. بينما جسدها يتهزهز من فرط امتلائه.. يغمرهما الدفء.. والحرارة تشتد.. يقطران عرقا. تتسلل البرودة إلي جسدها.. تشتد قبضتها.. البرد يقرص أضلعها.. تفيق.. لقد سكن الأولاد.. نامت الجدران.. وتهامس أنينها. مسحت قطرات العرق المنهمرة علي جبينها بأكمام جلبابها.. وتمنت أن تسكن هي الأخري. كان كلما ضاقت عليه الأرض يقيم في احد مساجدها يصلي ويتعبد.. يقولون إن نعشه أحيط بهالة من النور.. صار يعدو محلقا كالسحاب والناس وراءه يهللون. تحت حرقة الشمس وصخب الباعة راح يدق الأرض بخطا بطيئة منهكة وشعره أشعث من فرط تلاعب الهواء به.. يحمل أحمال داره البسيطة كالجبال في كفيه.. العرق يتصبب انهارا علي صدره.. دخل متجهما.. جاف الحلق.. مشتت النظرات.. تائه الحركات.. تراخت أطراف ثم........ تهاوي. في صحن الدار تتمصمص النسوة.. يضربن الأكف يتبادلن الأقاويل.. تجول نظراتهن المتفحصة في اركان الدار والعيال شعلة من النار تهب تتحرك هنا وهناك.. الأعين تتلصص.. وأدمع تفيض.