لا تزال ملفات حقوق الإنسان تثير الكثير من الجدل والاختلاف في وجهات النظر،ليس فقط بين المواطنين العاديين،بل حتي بين الخبراء والمتخصصين،ومع انطلاق المراجعة الدورية لملف مصر أمام المجلس الدولي لحقوق الإنسان خلال شهر مارس الجاري،يتصاعد الحديث عن العديد من الملفات الحقوقية،وهو ما يتزامن مع اهتمام دولي بالقضايا الحقوقية في مصر. »الأخبار» حاورت د. حافظ أبو سعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان،وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان،والخبير الحقوقي الذي قضي سنوات طويلة معايشا ومساهما في الحركة الحقوقية المصرية ناشطا ومحاميا وباحثا،وفي هذه الحوار يقدم أبو سعدة وجهات نظره بشأن التعامل مع الآليات الدولية لحقوق الإنسان،وكيف يمكن التعامل مع ما تبديه تلك المنظمات من ملاحظات،ويؤكد ضرورة التفاعل الإيجابي مع تلك الملاحظات،وتعزيز الثقة في منظمات المجتمع المدني المصرية،والمنظمات الحقوقية في القلب منها،إضافة إلي اتخاذ اجراءات تدعم تحسين ملف مصر في حقوق الإنسان،وإلي تفاصيل الحوار. الهجوم علي المؤسسات الحقوقية المصرية لا يحقق المصلحة الوطنية ومطلوب تعزيز الثقة نعم نحتاج وزارة لحقوق الإنسان وتجربة المغرب خير دليل إعادة النظر في قانون الجمعيات الأهلية خطوة إيجابية جدا.. وننتظر التفعيل بداية لماذا كل هذا الاهتمام الدولي بحقوق الإنسان،حتي تصور البعض أن هناك مبالغة في هذا الاهتمام؟ عالمية حقوق الإنسان من المبادئ الدولية الراسخة،لكن ربما في عام 2007 كانت هناك نقطة تحول جوهرية،وهي إقرار آلية المراجعة الدورية لاوضاع حقوق الإنسان في مختلف دول العالم،فقبل ذلك التاريخ كانت المراجعة انتقائية،وباختيار عشوائي،لكن مع إقرار الأممالمتحدة لتلك الآلية من خلال تأسيس المجلس الدولي لحقوق الإنسان،صار الاهتمام العالمي بقضايا حقوق الإنسان اكبر وأكثر عمقا،حيث تشمل تلك الآلية 192 دولة أعضاء الأممالمتحدة،وكل دول العالم تذهب إلي المجلس الدولي كل أربع سنوات لتقدم ما يشبه كشف حساب حول أوضاع حقوق الإنسان بها،حيث تقدم الحكومة تقريرا،والمجالس الوطنية المعنية بحقوق الإنسان تقريرا،كما يتم استعراض تقارير من المنظمات الدولية والوطنية حول اوضاع حقوق الإنسان بتلك الدول،ومدي توافقها مع المعايير الدولية،ويحدث نقاش موسع حول الملاحظات او الانتهاكات،وكذلك حول الإجراءات الجاري اتخاذها لمواجهة تلك الانتهاكات. في كل مكان لكن في المقابل،هناك من يري أن هذا الاهتمام غير متوازن فيما يتعلق ببعض الدول ومنها مصر،حيث تستخدم حقوق الإنسان كأداة لشن حملة للهجوم علي الدولة لأهداف سياسية،وليس لأهداف حقوقية .. ما رأيك؟ أنا مختلف بعض الشيء مع توصيف الحملة علي مصر،فما يجري علي المستوي الدولي هو توجيه ملاحظات أو انتقادات،لكنه ليس حملة وفق تقديري الشخصي،لأن ذلك يحدث مع مختلف الدول في العالم،ومنها دول كبري وعريقة في المجال الحقوقي مثل الولاياتالمتحدة،عندما وجهت لها انتقادات لاذعة بشأن معتقل جوانتانامو وما يجري فيه من انتهاكات لحقوق الإنسان،كما تم توجيه الكثير من الانتقادات لدول أوروبية بارزة فيما يتعلق بقضية السجون السرية واستخدام دول أخري لإجراء تحقيقات مع متهمين باستخدام التعذيب،وبالتالي فإن المشاكل الحقوقية موجودة في كل الدول،والملاحظات والانتقادات أيضا موجودة،لكن المهم ان نتعامل مع تلك الانتقادات بجدية وبالتوضيحات اللازمة،لكن التعامل بحساسية ربما لا يحقق الهدف،رغم ان تلك الحساسية موجودة لدي الكثير من الدول،ومن بينها دول كبري،ولا تقتصر علينا فقط في مصر.. فالمطلوب هو التفاعل البناء مع أية ملاحظات توجه إلينا،فعلي سبيل المثال في القضية الأخيرة المتعلقة بتنفيذ عقوبة الإعدام بحق المدانين باغتيال المستشار هشام بركات،كانت الانتقادات توجه إما بالتشكيك في نزاهة المحاكمة،أو في رفض الإعدام في حد ذاته كعقوبة،وبالتالي كان يمكن الرد علي الانتقادات من الجانبين بسهولة،اولا من خلال توضيح كافة الضوابط والضمانات الحقوقية والقضائية التي حصل عليها المتهمون خلال سير القضية. ولكن كثيرا من المنظمات الدولية تبدو منحازة ضد مصر،وهذا واضح من تقاريرها المتعلقة بالأوضاع في مصر،وتركيزها علي أمور بعينها،وإغفالها العديد من الجوانب الإيجابية التي تتحقق.. ما رأيك؟ أنا غير متفق مع اتهام المنظمات الدولية لحقوق الإنسان بالانحياز ضدنا،ففي النهاية هذه المنظات ليس دورها أن تشيد بالإيجابيات،لكن ان تركز علي المخالفات،وغالبا ما تتناول تقارير الانتهاكات الموجودة في أي دولة،حتي تسلط الضوء عليها سعيا لاتخاذ اجراءات لتجنبها،لكن للاسف تجاهل تقارير تلك المنظمات،والتعامل معها كخصم يضيع علينا فرصة مهمة للتواصل معها والرد علي ما تثيره من ملاحظات،فلابد ان تكون هناك قنوات اتصال مفتوحة دائما مع تلك المنظمات،وان نمدها بالمعلومات التي تعبر عن وجهة النظر الوطنية،وأن نصحح لها ما قد تقع فيه من خطأ،لكن للاسف عندما تعمل تلك المنظمات،تجد مصدرا واحدا للمعلومات وهو ضحايا الانتهاكات او أسرهم،او اي طرف آخر مستفيد من إثارة تلك الانتهاكات،بينما يكون صوت الدولة والمؤسسات الرسمية غائبا رغم أهميته في توضيح الكثير من الأمور،وتوضيح إذا ما كانت هناك مبالغات أو تضخيم لتلك الانتهاكات،أو الإشارة إلي الاجراءات التي يتم اتخاذها لمواجهة تلك الانتهاكات أو التحقيقات الجارية بشأنها،وأشير هنا علي سبيل المثال إلي طلب لجنة مناهضة التعذيب من مصر الرد علي بعض الملاحظات والشكاوي المقدمة من بعض المنظمات الأخري،ومنها منظمة الكرامة الممولة من قطر،والتي لا هدف لها سوي استهداف مصر والسعودية وتقديم شكاوي بصورة مبالغ فيها لتشويه صورة البلدين فيما يتعلق بملف التعذيب،وللاسف لم تتجاوب المؤسسات الرسمية مع مطالبات الرد المتكررة من جانب اللجنة الدولية المعنية بمناهضة التعذيب،فما كان من تلك اللجنة إلا ان أصدرت تقريرا أدان مصر واعتمد الاتهامات الموجهة إليها من المنظمة الممولة من جانب قطر،وهذا مجرد مثال علي ما يمكن أن يؤدي إليه عدم الاهتمام او التجاوب مع الآليات الدولية لحقوق الإنسان. في المقابل هناك تجربة ملهمة في هذا السياق،وهي تجربة دولة المغرب الشقيقة،والتي كانت لها علاقة متوترة مع الكثير من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان،وكانت تلك المنظمات تصدر الكثير من التقارير السلبية عن المغرب،إلي ان قامت المغرب بإنشاء وزارة لحقوق الإنسان،تولت مسئولية التفاعل الإيجابي مع تلك المنظمات والمشاركة في الآليات المختلفة لحقوق الإنسان،فباتت محل إشادة دولية. وزارة للحقوق هل يعني ذلك أننا بحاجة في مصر إلي وزارة لحقوق الإنسان؟ لم لا،حتي ولو كان ذلك بصورة مؤقتة بمعني ان تكون هذه الوزارة مكلفة بمهمة محددة وهي تصفية والانتهاء من كافة الملاحظات الجوهرية الخاصة بحقوق الإنسان وأن تقوم بالكثير من الجهد والتعاون مع المنظمات الوطنية والدولية،والرد علي اية ملاحظات ترد في التقارير الدولية بمعلومات موثقة ودقيقة،أو توضيح كافة الإجراءات التي تتخذها الدولة للتعامل مع تلك الملاحظات،بل يمكن ان تقوم تلك الوزارة او الجهة الموحدة المعنية بحقوق الإنسان ببناء علاقة طيبة مع تلك المنظمات،فلماذا لا نستضيف مثلا مقار لتلك المنظمات في مصر،بحيث يتم تسهيل التعامل معها،ولا تتحول إلي خصم. الفترة الماضية شهدت العديد من المتغيرات التي يراها المتخصصون في حقوق الإنسان تحولا نوعيا ايجابيا في مسار اهتمام الدولة بحقوق الإنسان.. هل تتفق مع هذا الرأي؟ بالتأكيد هناك الكثير من الخطوات الايجابية التي اتخذتها الدولة في سياق الاهتمام بحقوق الإنسان،وهي في تقديري خطوات جيدة،نحتاج إلي المزيد منها،ومن تلك الخطوات تشكيل لجنة وزارية عليا معنية بحقوق الإنسان تضم في عضويتها العديد من ممثلي مؤسسات الدولة المعنية،مثل وزارتي الداخلية والخارجية وغيرهما،إضافة إلي تفعيل دور قطاع حقوق الإنسان بوزارة الداخلية،واستجابة الدولة لمطالبات تعديل قانون الجمعيات الأهلية،وهذا التعديل في حد ذاته يعتبر نقدا غير مباشر للبنية القانونية التي قام علي أساسها القانون الحالي،والذي واجه العديد من الانتقادات من جانب منظمات المجتمع المدني كلها،وليس المنظمات الحقوقية وحدها،وقد أكد الرئيس السيسي نفسه أن الأجواء التي صدر فيها القانون كانت أجواء استثنائية،فالأوضاع السياسية والأمنية في البلاد لم تكن مستقرة،وكانت العديد من التهديدات تحيط بالدولة المصرية،لكن الآن مع استقرار الأمور ورسوخ مؤسسات الدولة،أعتقد أنه من المناسب عودة الأمور إلي طبيعتها،وهذا أمر كفيل بتحسين وضع منظمات المجتمع المدني وتفعيل دورها،دون الإخلال بحث الدولة ممثلة في وزارة التضامن في متابعة نشاط تلك المنظمات وما تحصل عليه من تمويلات. وكيف تري الوضع الراهن للمنظمات الحقوقية المصرية؟ معظم المنظمات المصرية أغلقت نتيجة التشدد القانوني في التعامل معها،والمواقف الهجومية علي دورها ونشاطها،وهو في الحقيقة اتهام سياسي لا أساس له في الواقع،ورغم أن هناك ما يقرب من 300 منظمة مسجلة،لكن الفاعل منها علي الأرض لا يتجاوز 10-15 منظمة فقط،وأري أننا لو أعطينا الثقة للمنظمات المصرية فإن ذلك من شأنه أن يدعم دورها،ويخلق قنوات اتصال فعالة مع المنظمات وآليات حقوق الإنسان الدولية،فضلا عن تعزيزه لمصداقية مصر وجديتها في التعامل مع حقوق الإنسان،فالكثير من الملاحظات التي يمكن أن تتضمنها التقارير الدولية يمكن أن تتعامل معها المنظمات المصرية وتتفاعل معها مؤسسات الدولة،ويتم الرد عليها في حينه،وساعتها لن تستطيع المنظمات الدولية التحجج بعدم تفاعل السلطات المصرية. التمويل الأجنبي وكيف تنظر إلي قضية التمويل الأجنبي،والاتهامات التي توجه إلي المنظمات المصرية التي تحصل علي هذا التمويل بأنها تنفذ أجندة الممولين،وليس الأجندة الوطنية؟ قضية التمويل الاجنبي أخذت أكثر من حجمها،وباعتراف القضاء في القضية 173 الشهيرة بقضية التمويل الأجنبي،فقد ثبت أن الاتهامات التي وجهت لتلك المنظمات لم تكن حقيقية،ويجب أن نعرف أن الأممالمتحدة نفسها اعتمدت علي المنظمات الأهلية في تعزيز حقوق الإنسان،وقد كان ذلك موضوع دراستي للدكتوراه،فقد لعبت المنظمات الأهلية في العالم الدور الأكبر في تعزيز حقوق الإنسان،وهناك آليات معتمدة ومعترف بها للتمويل في هذا الشأن،وبالنسبة لمصر فقد كانت الحكومة المصرية طرفا أصيلا في اتفاقيات التمويل التي تمت من جانب العديد من الجهات الأجنبية،فعلي سبيل المثال اتفاق الشراكة المصرية الأوروبية تضمن بنودا لتمويل بعض المؤسسات الحكومية،والمنظمات الأهلية،ومنها مثلا تمويل العديد من المشروعات الاقتصادية والتعاون في برنامج تحديث الصناعة. والحقيقة أن التمويل الأجنبي للمنظمات الأهلية لا يعد مصدر خطر،لأنها في النهاية تأثيرها محدود،أما الخطر الحقيقي فهو المال السياسي وتمويل الأحزاب السياسي،فهذا هو الخطر الذي لا يمكن الموافقة عليه،لأن توجيه العمل السياسي وفق املاءات الممولين يمثل خطرا وإخلالا بمبدأ الاستقلال الوطني،فضلا عن أن أي حزب يمكن أن يصل إلي السلطة ويتولي الحكم،وبالتالي لن يكون ولاؤه وطنيا،أما تمويل المنظمات الأهلية وخاصة الحقوقية فهو أمر لا خوف منه لأن عمل تلك المنظمات يقتصر علي تقديم الملاحظات والرد عليها،وفي النهاية يمكن أن تكون هناك آلية وطنية لتمويل تلك المنظمات محليا،لأن عملها في النهاية يعزز حركة حقوق الإنسان،وهذه الحركة تخدم كما قلت الوطن والمواطن. مصر استطاعت تحقيق العديد من الانجازات فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية،فهل نحن مقصرون في تقديم تلك الانجازات للعالم،ولماذ التركيز الغربي فقط علي الحقوق المدنية والسياسية؟ بالفعل مصر استطاعت تحقيق الكثير من الانجازات المهمة فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية،مثل الحق في السكن،ومواجهة المناطق العشوائية وتوفير البديل الآمن لتلك الفئات،وأيضا فيما يتعلق بتوفير مبادرات الحياة الكريمة للكثير من الفئات الأكثر احتياجا والمهمشين،ورغم وجود ضغوط ونواقص في تلك الحقوق،وبخاصة فيما يتعلق بتأثير ارتفاع الأسعار علي العديد من الفئات،لكن ما تحقق أمر إيجابي بالفعل،ونحن مقصرون حقيقة في ترويجه وتقديمه للعالم،وربط ما تحقق بالأجندة الحقوقية التي تشير إلي أهمية تلك الحقوق في توفير الحياة الكريمة للمواطن،وهي في المقام الأول حق إنساني. أما فيما يتعلق بالتركيز الغربي علي الحقوق المدنية والسياسية،فهذا امر طبيعي ومتفهم،لن تلك الحقوق هي أساس منظومة حقوق الإنسان،والكثير من الدول الغربية تري في تلك الحقوق مثل حرية الرأي والتعبير والمشاركة السياسية والسلامة الجسدية مؤشرا علي جدية الدولة في احترام حقوق الإنسان،ويجب ان ندرك ان الكثير من الدول الغربية والقوي الكبري لها مصالح في مصر،واستقرار مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي مسألة مهمة لتلك الدول التي تريد أن تضمن استقرار الأوضاع في الداخل المصري. الملف الحقوقي وكيف من وجهة نظرك يمكن لمصر أن تقوم بتحسين صورتها في مجال حقوق الإنسان،ونتفادي الكثير من الملاحظات التي توجه في هذا الشأن؟ أولا نحن بحاجة إلي الاعتراف بأهمية حقوق الإنسان،وأن نعطيها اولوية في خطابنا السياسي،وهناك مجموعة من القضايا الحقوقية التي يمكن تحسين وضعنا بها،ومنها ملف حرية الرأي والتعبير،فلا يمكن التوسع في تعقب الرأي المخالف،بل طالما التزم هذا الرأي بحدود حرية الرأي والتعبير فهو مباح ولا يخالف القانون،كما يجب تفعيل بنود الدستور التي تنص علي إلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر،وهناك أيضا تحسين ملف مصر في مكافحة التعذيب. وكيف يمكن الاستفادة من المراجعة الدورية لملف مصر أمام المجلس الدولي لحقوق الإنسان في تحقيق تقدم إيجابي؟ أولا ينبغي أن يتم تقديم تقرير حكومي شفاف يعترف بأوجه القصور ويقدم رؤية جادة للتجاوب مع الملاحظات الموضوعية،كما ينبغي أن نقدم رؤية واقعية للتوصيات التي سبق لنا وأن قبلنا بها من المراجعات الدورية السابقة،فقد تم تقديم 320 توصية،قبلت منها مصر 220،واعترضت علي العدد المتبقي إما لعدم وضوح الصياغة،أو لعدم تناسب تلك التوصيات مع الشريعة الإسلامية أو لثقافة المجتمع المصري،ويجب ان تكون لتلك المراجعة فرصة لحوار بناء ومتعمق بين الدولة وبين المنظمات الأهلية،فلابد أن نعترف بأن هناك فجوة في رؤية العديد من القضايا بين الجانبين،والحوار وحده كفيل بسد تلك الفجوة او تضييقها علي الأقل.