مجدي العفيفي [email protected] نحن نلهو بالآداب والفنون وهم يوظفونها عسكرياً وسياسياً! نعم.. نحن نلهو بالآداب، ونسخر من الفنون، ونستخف بالفكر والمفكرين، ونسفه الإبداع والمبدعين، ونعبث في سياق التحقير من شأن الدنيا والتعامل معها ، بالفهم المغلوط للتوصيف القرآني علي أنها لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، مع أن هذا التصوير جاء في معرض المدح والإقبال علي إعمار الكون وليس الذم في حركة الحياة، ذلك الذم الناتج عن التصور الوهمي الساذج من قبل الذين يزعمون أنهم يتحدثون بتوكيلات من السماء! فالدنيا إذا أقبلت .. بلت، وإذا أدبرت ..برت، وإذا أوحلت.. حلت، وإذا ..وإذا ... إلي آخر هذه القائمة من التفكير الخرافي، فلا عجب إذن أن نظل في مؤخرة العالم: منبوذين، مهمشين، مهشمين، لا وزن لنا، ولا حول ولا قوة، اللهم إلا التشدق بالماضي السحيق والعيش عالة علي الآباء والأجداد، وفي ذلك عار علينا عظيم. إن الآداب والفنون عناوين متحضرة للشعوب الحية المتحركة النابضة بالحياة والراكضة نحو الحياة، والناهضة بالإقلاع نحو المستقبل، وهذه النوعية من الشعوب والأمم تفخر بأدبائها وشعرائها وفنانيها ومثقفيها ومفكريها، فهم القوة الناعمة التي هي أحدّ من السيف وأقوي من كل سلاح، وأمضي من كل وسيلة فتاكة، وهم الثوار الحقيقيون في كل مجتمع، وثورتهم أغني حصاداً وأقوي تأثيراً، وثورة الفكر ليست كثورة السياسة، علي حد تعبير أستاذنا الفيلسوف د. زكي نجيب محمود- فيها قعقعة المصفحات وهزيم الطائرات وهتاف يثير غبار الطريق، وصياح يهز أمواج الصوت والصورة في أجهزة الإذاعة، لكنها ثورة فكر يغلب أن تجيء كقطرات الماء تنصب علي الجلمود الأصم فتحسبها واهنة بلا أثر، وإذا بالأيام تمضي فإذا الجلمود الأصم قد تفسخ وأرهف السمع ليتلقي الرسالة، والعجب أن ثورات الفكر بصوتها الخافت الهادئ، هي التي تحرك النفوس- علي مدي الزمن القصير أو الطويل- لتثور بذلك الهتاف والقعقعة والهزيم في دنيا السياسة والاجتماع (ثقافتنا في مواجهة العصر، ص178.) وثورة الفكر والفن والأدب، ثورة دائمة، قائمة، لا تأخذها سنة ولا وهن، ولا ينبغي، وكم تعبت أصوات المبدعين في هذا العصر بالذات، من خطورة النظرة السطحية للأدباء والشعراء والفنانين، ولاتزال دعوة »يوسف إدريس: أهمية أن نتثقف ياناس..« هادرة رغم الزحام والضجيج وإغراءات التسطيح وغسل العقول الذي هو أخطر من غسل الأموال، بثقافة الصورة التي يساء استخدامها كثيراً خاصة في أجواء حياتنا بكل تناقضاتها ومتناقضاتها، وهاهي غضبة الشاعر نزار قباني: الشعر ليس حمامات نطيرها نحو السماء، ولا ناياً، وريح صبا لكنه غضبٌ طالت أظافره ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا واسمع إلي صرخة الشاعر محمود درويش: قصائدنا بلا لون ولا طعم ولا صوت إذا لم تنقل المصباح من بيت إلي بيت إذا لم يفهم البسطا معانيها فأولي أن نذرِّيها ونخلد نحن للصمت! وها هم حملة مصابيح التنوير والاستنارة لا يكفون عن تنبيه المجتمع وإيقاظ الوجدان ومحاورة الفعل بالثقافة وإبداعاتها التي هي دلالة وميزة العبقرية الإنسانية والسر الكامن وراء كل ما نمارسه، فهي الأبقي في الأذهان حين يطوي النسيان كل شيء! نحن نذكر المتنبي ولا يهمنا ذكر كافور الاخشيدي وسيف الدولة، ونذكر شكسبير ولا نذكر صاحب البلاط والحكم، نذكر المبدعين في مصر ولا نستدعي الساسة والسياسيين أو صنّاع الحياة المادية، لأن الأدباء والشعراء والفنانين هم الروح والسر والجمال والمنظومة التي تخترق الزمان والمكان، أثراً وتأثيراً بشظاياها وقوتها ونورها ونارها. فما بالنا الآن.. أو ما بال هؤلاء الذين ينظرون شزراً إلي الإبداع خاصة الأدب والفن، ولا يخجلون إذا علموا أن غيرنا في هذا العالم يوظفون الآداب والفنون ، بمهارة ودهاء، توظيفاً سياسياً وعسكرياً واجتماعياً لخدمة استراتيجياتهم علي المدي البعيد قبل القصير؟ لذلك يحكمون العالم ويتحكمون فيه بطرف خفي وبأصابع ظاهرة وباطنة، كأن العالم بما فيه ومن فيه قطع شطرنج؟. جاء في البروتوكول الثاني عشر من «بروتوكولات حكماء صهيون« ما يلي:«الأدب والصحافة هما اعظم قوتين تعليميتين خطيرتين. وصناعتهما هما أشد عوامل التهذيب، ولهذا السبب ستشتري حكومتنا العدد الأكبر من الدوريات. وبهذه الوسيلة سنعطل التأثير السييء لكل صحيفة مستقلة، ونظفر بسلطان كبير جداً علي العقل الانساني. واذا كنا نرخص بنشر عشر صحف مستقلة فسنشرع حتي يكون لنا ثلاثون، وهكذا، ويجب ألا يرتاب الشعب أقل ريبة في هذه الإجراءات. ولذلك فإن الصحف الدورية التي ننشرها ستظهر كأنها معارضة لنظراتنا وآرائنا، فتوحي بذلك الثقة إلي القراء، وتعرض منظراً جذاباً لأعدائنا الذين لا يرتابون فينا، وسيقعون لذلك في شركنا، وسيكونون مجردين من القوة." وتتحدث عن التوظيف الأدبي في السياق الصحفي "يجب علينا أن ننظم صحافتنا بعناية كبيرة.وباسم الهيئة المركزية للصحافة Central Commission Of the Press سننظم اجتماعات أدبية،وسيعطي فيها وكلاؤنا دون أن يفطن إليهم شارة للضمان countersigns وكلمات السرPasswords. وبمناقشة سياستنا ومناقضتها. ومن ناحية سطحية دائمة بالضرورة. ودون مساس في الواقع بأجزائها المهمة سيستمر أعضاؤنا في مجادلات زائفة شكلية feigned مع الجرائد الرسمية. كي تعطينا حجة لتحديد خططنا بدقة أكثر مما نستطيع في إذاعتنا البرلمانية وهذا بالضرورة لا يكون إلا لمصلحتنا فحسب، وهذه المعارضة من جانب الصحافة ستخدم أيضاً غرضنا، إذ تجعل الناس يعتقدون أن حرية الكلام لا تزال قائمة، كما أنها ستعطي وكلاءنا Agents فرصة تظهر إن معارضينا يأتون باتهامات زائفة ضدنا، علي حين أنهم عاجزون عن أن يجدوا أساسًا حقيقياً يستندون عليه لنقض سياستنا وهدمها.هذه الإجراءات التي ستختفي ملاحظتها علي انتباه الجمهور ستكون أنجح الوسائل في قيادة عقل الجمهور، وفي الإيحاء إليه بالثقة والاطمئنان ، وبفضل هذه الإجراءات سنكون قادرين علي إثارة عقل الشعب وتهدئته في المسائل السياسية، حينما يكون ضرورياً لنا أن نفعل ذلك. وسنكون قادرين علي إقناعهم أو بلبلتهم بطبع أخبار صحيحة أو زائفة، حقائق أو ما يناقضها" والدخول الي عالم الأدب يكون مشروطا في منظورهم" كل أعضاء الصحافة مرتبطون بأسرار مهنية متبادلة علي أسلوب النبوءات القديمةAncient oreles ولا أحد من الأعضاء سيفشي معرفته بالسر، علي حين أن مثل هذا السر غير مأمور بتعميمه. ولن تكون لناشر بمفرده الشجاعة علي إفشاء السر الذي عهد به إليه، والسبب هو انه لا أحد منهم يؤذن له بالدخول في عالم الأدب،ما لم يكن يحمل سماتMarks بعض الأعمال المخزية Shady في حياته الماضية. وليس عليه أن يظهر إلا أدني علامات العصيان حتي تكشف فوراً سماته المخزية. وبينما تظل هذه السمات معروفة لعدد قليل تقوم كرامة الصحفي بجذب الرأي العام إليه في جميع البلاد، وسينقاد له الناس، ويعجبون به". حاول أن تحدق- بلا جهد ولا عناء- لتري مطابقة التصورات للتصديقات في الهيمنة والسيطرة علي عالم اليوم بسلاح "الأدب "وسلاح "الإعلام". هل تريدون مثلاً عملياً وعلمياً؟! ممكن.. وليكن من »أحفاد صهيون« الذين لا يلعبون ولا يعبثون ولا يمزحون بأسلحة القوة الناعمة، وإنما يتعاملون معها بكل جدية وعلمية، وبكل أدواتهم المحملة بالخبث والمكر والدهاء، وصولا إلي التمكين، وقد تمكنوا... الأمثلة أكثر من أن تحصي، حتي حكايات جحا وشخصيته نسبوها الي التراث اليهودي، بل صنعوا لأنفسهم ما يسمونه »الفولكلور الاسرائيلي« ولعل الدكتور »أحمد مرسي« أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة، أكثر من فضح هذه الممارسات المتمسحة في العلم، فأي باحث يسمع مصطلح الفولكلور الاسرائيلي، يضحك ساخرا، وهناك دراسات صهيونية شتي بكل اللغات الحية قاموا بها ليوهموا العالم بأن اللغة العربية أصلها عبري! بل إن رقصة الدبكة الشامية هي رقصة إسرائيلية تعبر عن الصمود في الأرض الصهوينية المقدسة!وحتي أكلة الفول والطعمية المصرية أصلها إسرائيلي!. أرأيتم.. وإني لأستذكر لحظات زمنية عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد، أن هرول النقاد والمترجمون الصهاينة لترجمة أعمال توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم من الكتّاب المصريين.. وكتبت أحاديث وتحقيقات في صفحة "أخبار الأدب" بالأخبار عام 1979 عن تهافت الصهيونيين علي ترجمة روائع كتّابنا ومبدعينا، وكان الناقد الصهيوني "ساسون سوينج" هو "المجنّد" من قبل الآلة الصهيونية العسكرية والسياسية والإعلامية لقيادة هذه العملية الثقافية، وكان يجيئ إلي القاهرة ليتسكع في طرقات الدور السادس من "الأهرام" حيث مكاتب كبار المفكرين، وكان يصر علي المجيء يوم الخميس بالذات لعله يظفر بلقاء أحد أدبائنا الكبار وهم يلتقون أسبوعياً في ذلك اليوم في مكتب توفيق الحكيم، فكانوا يتركونه وحيداً، منبوذاً، وأكثرهم كان "يوسف إدريس" الذي كان يرفض بشدة أن يسمح له بالدخول والحوار! وأثارت هذه التحقيقات الثقافية موجة من الغضب والسخط في الأوساط الصهيونية آنذاك، وسجل الدكتور ابراهيم البحراوي هذه الأصداء عندما كان يعد صفحة "كيف تفكر اسرائيل" بجريدة الأخبار ! واضرب مثلاً بتجربة قام بها ذلك الناقد في الستينيات قبل نكسة 1967 من خلال جامعة تل أبيب، إذ استخلصوا معطيات الهزيمة من روايات ، فمن خلال تحليل رواية زقاق المدق لنجيب محفوظ اكتشفوا أن الشباب الجالس طوال اليوم علي المقاهي هو شباب عاطل لا يقدر ولا يقبل علي الحرب، وفي قصة »اللعبة « ليوسف ادريس ومن خلال أدوات الاستدراك اللغوية »لكن وإنما وإلا وغير أن« أشاروا الي الخلخلة في بنية المجتمع المصري، ومن خلال روايتي »الأرض والفلاح« لعبد الرحمن الشرقاوي استنتجوا أن بنية الفلاح المصري ضعيفة فهو لا يشرب ولا يأكل من الأنعام التي يربيها في منزله، ومن ثم لا يمكنه أن يجند عسكريا، واستقطروا من شعر الزهد والتصوف عند صلاح عبد الصبور وغيره رؤية الهروب من الواقع خوفا واستسلاما وعدم مواجهة. انه التهافت في الظاهر، لكنهم رفعوا هذه الإشارات إلي القيادة السياسية التي بدورها ترفعها الي الآلة العسكرية!. متي نفيق؟ ونكف عن لعبة الاستهزاء بالآداب والفنون فلانتخذها هزواً؟ حتي اقتحمونا في عقر دارنا؟! ونحن نتمثل قول الإمام أبي حامد الغزالي، قبل أكثر من ألف عام: ما أشد حماقة من تدخل "العقارب" بيته وهو يبحث عن مذبة يطرد بها "الذباب"؟! أفيقوا أيها الملأ .. يا من تعيشون خارج العصر، وتغتالون التاريخ، لتظلوا ماكثين عالة علي القدامي وفي حالة من الخشونة والتدني الثقافي في التعامل مع القوة الناعمة. الحرب القائمة.. هي حرب ثقافية، والمعركة القادمة هي معركة الأدب والفن وليس الدين، فالدين ثابت مكين وله رب عظيم يحفظه ويحميه. الحرب الثقافية أشد ضراوة، وأخطر تأثيراً، ونتائجها مرعبة. فهل من مُدّكِر؟!.