استخدام مفهوم "النظام العام" كضابط وكحد للحريات والحقوق في النصوص الدستورية والقانونية يأتي عادة بدون تفصيل. ولكن هناك اجتهادات قانونية تحاول دائما تحديده وتطبيقه في موضوعات بعينها. ولكنه بالنسبة لي يبدو السلاح الخفي لسلطة المجموع أو من يدعون أن يمثلوهم لحفظ ما يعتقدون أنه أساس الاجتماع و"النظام" في المجتمع والدولة. ولكن الوجه الآخر منه يتضمن كل النوازع السلطوية لدي النخبة الحاكمة ولدي الجموع في إقصاء وضبط كل ما تراه خارجا عن "الجماعة". ولذلك خطوة مفهوم "النظام العام" أن عدم تحدده يجعله أداة في يد السلطة بأشكالها المختلفة، وفي يد اجتهاد من يمسك بزمامها. سواء السلطة التنفيذية أو القضائية أو التشريعية. مثلا القضاء المصري اعتبر مجرد ذكر ديانة البهائي في الأوراق الثبوتية إخلالا بالنظام العام. لأن تصور القاضي المجتهد أن "الاعتراف" بدين لاحق علي الإسلام انتقاص منه. وجعل الإسلام سلطة تحدد ما هي الأديان التي يمكن الاعتراف بها من عدمه. ولذلك مفهوم النظام العام هنا انحاز لفكرة سلطة السائد وسلطة ما يمت للأغلبية بصلة ولم ينحز لكون حرية العقيدة والمساواة بين المواطنين هي النظام العام. فالاجتهاد المستند لثقافة عامة ولتصورات الجماهير عن "الانضباط" و"النظام" يستخدم النظام العام كسلاح دائما ضد الهامشي والمختلف والجديد والمناوئ. النظام العام هنا هو المفهوم الأشمل - وبالتالي الأكثر غموضا - لتصورات عن ماذا يقيم هذه الدولة ويحفظ وحدة الشعب. وإذا لم يكن هناك قبول عام بين أفراد الشعب وبين النخب السياسية عن أن حريات وحقوق الأفراد هي أساس النظام. فإننا نظل دائما أسري لنظام ما متخيل تعبر عنه رغبات سلطوية لدي النخب والجمهور لضبط المجتمع والدولة وحفظ الاستقرار وتقييد المختلف حتي لا يمتلك فرصة لمنازعة السائد. وفي الواقع إن تيار "السلطوية الإسلامية" الممثل في الإخوان والسلفيين داخل التأسيسية لم يكتف بالإمكانية السلطوية في مفهوم "النظام العام" ويخشي أن يترك ذلك لاجتهاد القضاة ويحاول أن يدفع بالأزهر كمرجعية نهائية وأن ينثر في نصوص مختلفة أن حرية العقيدة التي تشمل حرية الممارسة مقصور علي الأديان السماوية وفي مادة أخري مقترحة ينص علي أن الأزهر مرجعية وفق مذهب أهل السنة والجماعة. وهذه النصوص والتقييدات كان يمكن ان تندرج كلها تحت التفسير السييء للنظام العام ولكن الرغبة السلطوية التي تمارس الآن ولا تريد أن تترك ذلك لاجتهاد قاض تريد أن تفصل أكثر وأكثر في تحديد "المركز" لتتمكن من إقصاء كل ما هو بعيد عنه ومختلف عنه. الميول السلطوية لا تصنع دستورا يعبر عن توافق ولكنها يمكن أن تكتب وثائق تكون ساحة صراعات مستمرة وتعبر فعلا عن "نظام" يراد إسقاطه مجددا.