يقول إدواردو جاليانو :سنحن في نهاية الأمر ما نفعله لنغير من أنفسنا جاليانو الذي يسير بلا تعب عبر أنواع أدبية مختلفة، مشيداً عبارات تمتد جذورها في أعماق الذات، وحافظاً لذاكرة منسية لقارة عاشت تحت أسوار القمع ما يقرب من 500 سنة، هو نفسه الرجل الذي يتمتع بالطزاجة والرقة المفرطة. رجل أبوي وبسيط وعميق، يتحدث ببطء كرجل شرقي طيب. يتحدث هنا عن الكتابة والطفولة وثورات العالم العربي واليسار. في مرات عديدة، أكدت أنك لا تزال تخاف من الورقة البيضاء، ولا تزال تعاني في الكتابة كأنها المرة الأولي، هل يعتبر هذا السبب وراء حيوية كتابتك؟ يبدو كذلك. أشعر بنفس الرهبة الأولي. هذا دليل علي أني لم أحال إلي المعاش ولم أصر بيروقراطياً. في نفس اللحظة التي أجلس فيها للكتابة، ترتجف ركبتاي، أتنفس بصعوبة، يجف فمي كما المرة الأولي. إنها مثل عدم فقدان الرغبة في ممارسة الحب، بل كما الشعور كأنها المرة الأولي. علي هامش مرور الوقت، والكتب الكثيرة التي كتبتها، كل صفحة بيضاء هي دوماً الصفحة الأولي، المرة الأولي، هكذا أساعد كتابتي لتهرب من الروتين. وما هي الذكري التي تحتفظ بها سراً؟ كنت طفلاً متصوفاً. كان لدي يقين بنوع من الواجب الروحي. وكنت متأثراً جداً بتعليمي الكاثوليكي. لكن في مراهقتي كتبت أنني خُلقت للخطيئة (يضحك). أيضاً، مثل كل أبناء أوروجواي، تمنيت أن أكون لاعب كرة قدم لكنها محاولات باءت بالفشل. وهكذا أبحرت بلا مياه، حتي بدأت في محاولات الرسم والكتابة. كنت في الرابعة عشرة عندما نشرت لأول مرة كاريكاتورات سياسية، في جريدة سول الاشتراكية الأسبوعية. لكنني لم أتطور في الرسم كثيراً وبدأت في الكتابة والشعور بالخوف من الورقة البيضاء ولا يزال هذا الخوف يطاردني. وماذا تبقي من هذا الطفل وهذا التكوين المبدئي في علاقتك الناضجة بالكتابة؟ أظن أن المرء هو خلاصة كل هذه الطرق، أن المرء يسير في الحياة ضارباً بعصاه كما الأعمي حتي يعثر علي شيء يطوقه ويشغف به. أكثر ما ترك أثراً فيّ هي رغبات الرسم التي ملأتني ولا تزال.هذه الرغبات استطعت التعامل معها لأنني أرسم عندما أكتب. عندما أسرد حدثاً، أو أصف شعوراً أو فكرة، يجب أن أغمض عينيّ وأري الحكاية كما الصورة. إن لم أستطع تحويلها لصورة، لا أستطيع كتابتها. وما هي المحاور والعناصر الأساسية في عملك؟ الحرية، قبل أي شيء. لم أجبر نفسي أبداً علي كتابة شيء، كتبت ولا زلت أكتب ما أشعر به. والمرات النادرة التي أجبرت فيها يدي علي ارتكاب تلك الخطيئة التي لا تغفر، لم أشعر أبداً براحة. والنتيجة: لم تكن كتابة تلقائية ولا حقيقية. مع السنين اكتسبت الحق في كتابة ما أشعر به حقاً، والحق أنني محظوظ لأن ميولي تتفق مع عملي. أعيش مما أكتب، في حين أن معظم الناس تعيش عكس رغبتها، تؤدي نشاطات ليس لها علاقة بما يودون أن يقوموا به. وكيف تتطور عملية الكتابة؟ كل نص أكتبه، كبيراً أو صغيراً، من تلك النصوص التي أحب كتابتها، هي نتاج وساوس كثيرة. أكتب وأمسح. خوان رولفو هو من علمني ذلك، وهو كاتب مثير للإعجاب وصديق حميم. تعرفنا منذ سنوات طوال، وسرنا معاً طرقاً طويلة، وعشنا معاً لحظات الثرثرة والصمت. بعد ذلك أصبح لي أسلوبي الخاصة. أركّب موزايكو ببلاطات صغيرة، بألوان متعددة، تكوّن مع الوقت حكاية كبيرة عندما أضم بعضها إلي بعض. كتاب كبار، من أيديولوجيات متعددة، كانت أحكامهم المسبقة ونظرتهم الفردية للعالم، بل وحتي وضعهم السياسي، تميّز أعمالهم بالعمق والقوة. في حالة الأدب المتورط في الواقع: كيف يمكن ضمان ألا تبقي الكلمة سجينة للواقع اليومي؟ أنا أصنع أدباً متورطاً، إنه أدبي. وأشعر أنني متورط جداً في مهنة الأدب لأنها بالنسبة لي مهنة تضامنية. الخطر يكمن دائماً في الخطاب النميمي، في تحويل ما أكتبه إلي منشور وهذا لا فائدة منه إطلاقاً، لأن الكاتب ينتهي كاتباً لرسائل من أجل المقتنعين. ولا شيء غير هذا. الأدب الذي يصل بالفعل هو الأدب الذي يحمل غموضاً، كهرباء الحياة، أدب محمّل بالأفكار بالداخل، لكن لا يجب أن تُلاحظ إلا ضمنياً. لهذا أقول دائماً إنني أحاول كتابة أدب شعوري-عقلي. لغتي تود أن تكون قادرة علي جمع العقل والقلب لأن الأدب عندما يصير عقلاً فقط يتعرض لخطر أن يصبح بارداً، وعندما يعتمد علي الشعور وحده يتعرض لخطر أن يكون منمقاً. كيف تحلل ما يحدث حالياً في الشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا؟ وما هي مسؤولية الغرب تجاه هذه الأحداث؟ إنها مفاجأة محفزة جداً. تبدو لي رائعة هذه النار التي سارت في الهشيم كما العدوي وليس بوسع أحد أن يوقفها. المثير أنها تولدت من ضرب بائع خضروات وفواكه متجول في شوارع تونس وتحولت لنار شعبية تحرق أنظمة السلطة في عالم غاية في الطغيان وعدو للحرية. إنها نيران التحرر التي يتقدم معها بشر ملوا من كونهم لا شيء. إنها طريقة يقولون من خلالها إن لهم حقوقاً، إنهم موجودون ويريدون القضاء علي هذه الأنظمة الشمولية والعبثية، هذه الديكتاتوريات التي رضعت من ثدي الولاياتالمتحدة وأوروبا لثرائها البترولي. أخيراً، ما هي التحديات التي تواجه اليسار الحالي؟ يجب علي اليسار أن ينافس بالتنوع. عليه أن يرمي وراء ظهره الدوجمات والحقيقة الوحيدة والراديكاليين وأن ينفتح علي تعدد الواقع. وأري أنه تقدّم كثيراً في هذا السياق. لقد تلاشت الأفكار المضحكة مثل التي كانت تري أن النساء ستتحرر تلقائياً عندما تمسك الطبقة العاملة بزمام السلطة. وصارت فكرة لا يدافع عنها أحد لأنه من الواضح أن النساء يدافعن عن أنفسهن بأنفسهن. هناك دوجما أخري أيضاً فقدت مصداقيتها وهي أن الرد الوحيد علي هيمنة السوق هي هيمنة الدولة، فهيمنة الدولة أدت إلي البيروقراطية العامة في هذه البلدان. لحسن الطالع، التاريخ لا يقول زوداعاً، بل يقول:سإلي اللقاءس والخبرات تبعت من جديد وتتحول.