المشهد التالي، لابد أن شهود عيان كثيرين يذكرونه، أو رأوه بأم أعينهم، كما أنه لابد أن بعض المصريين من أبناء القاهرةوالإسكندرية ومدن أخري، ممن عاشوا ثلاثينيات وأربعينيات وإلي حد كبير خمسينيات القرن العشرين يتخيلون مثل هذا المشهد. والمشهد كما ترويه شاهدتنا لوسيت لنيادو «سأقدمها لك بعد قليل» هو: بحلول المغرب، كان شارع الملكة نازلي، يزدحم برجال في قمة الأناقة، يسيرون في طريقهم للمعبد «اليهودي» حاملين حقائب من قماش الستان والقطيفة، تحوي شال الصلاة وكتب التلاوة وقلنسوة الرأس كان المشهد يعبر عن أسلوب في المعيشة، غاب الآن عن ذاكرة العالم، مشهد كان عنوانا علي قبول تلك المدينة العربية، لليهود المقيمين بها، حيث كان من الطبيعي أن يقطن المسلمون واليهود في ذات الأحياء، وفي نفس الشوارع، ونفس العمارات، وكانت العلاقات بينهما عادة متناغمة. تقول الشاهدة في موضع آخر: الأمر الذي جعل للقاهرة خصوصيتها، لقد كانت مدينة حاضنة للثقافات، متعددة، بالمعني الحقيقي للكلمة، ترحب بالغرباء وتتقبل الجميع بين جنباتها. وفي موضع ثالث: كان من المعتاد أن يستخدم الناس لغتين أو أكثر في المحادثة الواحدة، وحتي في الجملة الواحدة أحيانا، لأن القاهرة كانت أكثر المدن عالمية في العالم. وفي سياق حدث: أكثر المدن الجاذبة للأنظار علي وجه الأرض» - ملوك حلب هذه الآراء والملاحظات انتزعها من كتاب، صدر بالإنجليزية، ترجم إلي العربية منذ وقت قريب، وعنوان الكتاب «وقائع خروج أسرة يهودية من مصر - الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين» للكاتبة الصحفية المصرية الأمريكية اليهودية لوسيت لنيادو وهي ابنة أسرة يهودية، هاجرت أسرتها من حلب في أوائل القرن الماضي - ربما في سنة 1900 بالضبط - بعد قلاقل، مست أثناء اندلاعها الطائفة اليهودية، واستقرت الأسرة المكونة من الأب والأم وعشرة أبناء، أحدهم ليون والد لوسيت مؤلفة الكتاب، في القاهرة. وشقت الأسرة الكبيرة العدد، طريقها في مصر، وبنت، أو أعادت بناء نفسها، حيث كانت الأسرة من وجوه حلب أو بتعبير الأم، من ملوك حلب. والحق أن كل واحد من الأبناء والبنات العشرة، بني حياته بنفسه وحمله بحر الحياة إلي مسار مختلف، ولكن تظللهم جميعا سماء مصر. خمسون عاما، فوق هذه الأرض وتحت هذه السماء. وفي موجات الهجرة المتتالية، منذ نهاية الأربعينيات، للأجانب الذين كانوا يعيشون في مصر، تسلل أفراد هذه الأسرة واحدا وراء الآخر، تاركين مصر إلي بلدان أخري. ولم يبق منها غير ليون لنيادو وزوجته وأولاده الأربعة والذي لم يكن يتصور أنه يستطيع الحياة في مكان آخر غير القاهرة. ولكن ضغوطا متعددة، دفعته أخيرا إلي مغادرة مصر، سنة 1963، إلي وجهة لا يعرفها. وكانت باريس أول محطة حل بها مع أسرته، ضائعا، معدما، مفلسا، بلا جنسية، كان عليه أن يعيش علي الطعام والفرنكات التي تقدمها له مؤسسة خيرية يهودية، وهو الذي كان يفخر أنه كان يلعب القمار يوما مع الملك فاروق. قصة خروج هذه الأسرة اليهودية من مصر، هو ما ترويه ابنة ليون في كتابها الذي نتحدث عنه. والابنة لوسيت هي الصغري، وحين تركت مصر مع أسرتها كانت في السابعة من عمرها. وينقسم كتابها إلي قسمين، القسم الأول عن عصر القاهرة الذي يبدأ في شهادتها من سنة 1942 إلي سنة مغادرتهم سنة 1963، والقسم الثاني يغطي السنوات التالية من سنة 63 إلي اليوم في أمريكا. - شهادة طفلة ورغم أن الشاهدة تركت القاهرة، وهي في السابعة من عمرها، ولم تعد لها بعد ذلك، إلا في زيارة خاطفة، وهي في الخمسين من عمرها، إلا أنها نجحت في تقديم شهادة موثقة وعميقة ونابضة بالأحداث والوقائع. فهي تروي ما بقي في أعماقها من ذكريات ومشاهدات وأحداث الطفولة من ذلك الزمن البعيد، ثم تستكمله من أفواه الشهود الآخرين، وما كانوا يروونه في غربتهم عن أيام مصر، ومن مصادر عديدة أخري لعل أهمها الصور الفوتوغرافية. ولا أعرف باحثا أو كاتبا، كانت الصور العائلية أحد مصادره الرئيسية كما تبدو في هذه السيرة الذاتية البالغة العذوبة. وإذا كان أوضح تجليات هذه السيرة، هو التعبير عن الشعور بفقدان الفردوس، لدي اليهود الذين تركوا مصر والحزن علي أجمل الأيام، فإن الصور كانت غالبا هي من أبيات هذه القصيدة الحزينة.تأملت صاحبة السيرة مطولا إحدي الصور التقطت في ساحة المعبد، بمناسبة الاحتفال بعملية ختان، ووالدها يقف وسط الصورة مع حشد من الضيوف الذين تجمعوا علي شكل نصف دائرة أمام نوافد المعبد الإيطالية المزخرفة الجميلة وكتبت بعد تأمل طويل: «ظل هذا المشهد يبعث في النفس السعادة أنظر إليه دائما علي أنه آخر صورة سعيدة ليهود مصر». يقول لنا ناشر الكتاب - دار الطناني للنشر - في تقديمه الرصين والواعي للكتاب: إنه كتاب في الحب وفي المصير، وهو ليس كتابا عن الطائفة اليهودية المصرية والأحداث السياسية تعد مثلا فقط خلفية ساهمت في تشكيل الأجواء التي تدور الأحداث فيها دون أن يكون الهم الذي شغل اهتمام الكاتبة أو الرسالة التي أرادت إيصالها. ولكني لا أراه كذلك، إنه عن كل ذلك وأكثر، ودائما بنفس الدرجة والتأثير والعنفوان. لقد رسمت صورة لوالدها وأسرتها، فأبدعت حتي لكأننا رأيناهم وعشنا معهم وأكلنا علي مائدة جدتهم ظريفة التي كانت كل دمائها حلبية فقد عاشت عائلتها في حلب مئات السنين، وتعاطفنا مع أمها إيديث وأحسسنا بإحساسها العميق - أي الأم - بالتعاسة والضعف، أما جدتها لأمها ألكسندرا فقد نالت إعجابي وتقديري العميق رغم غرابة أطوارها، أما الأب ليون فهو بطل الفيلم بلا منازع. وكانت قاهرة ما قبل 52، حاضرة بكل جمالها ونظافتها وسحرها في أرجاء المسيرة، وكأنها لم تنس أحدا لو لحظة في ذلك العصر أو مبني أو كافيتريا أو دار سينما. القاهرة التي لم تعش فيها غير سنوات الطفولة الأولي قدمتها حتي ليحس قارئ اليوم من فرط اختلاف الصورة أنها تتكلم عن مدينة أخري، وطوال عمرها كانت أي مقارنة هي لصالح القاهرة. بعد شهور من القلق والضياع في باريس حملتهم الباخرة كوين ماري إلي أمريكا، وتتذكر كانت الثقافة الراقية والأدب واللياقة الرائعة التي سادت السفينة مناسبة لنا، فأخيرا رأينا عالما مثل عالم القاهرة حيث البشر مهذبون، ويتمتعون بالصبر بل وأكثر من ذلك كانوا ودودين ولطفاء، يبذلون جهدهم ليغمرونا بالعطف والاهتمام. - 80 ألف يهودي أما حياة الطائفة اليهودية في مصر، والظروف التي أحاطت بخروج أفرادها من مصر فقد كان 80 ألف يهودي يعيشون في مصر - فكأن الكتاب مكرس لهذه القضية. إن العناصر الأساسية لقضية الخروج هذه، حاضرة في هذه السيرة الذاتية، ولكن ببراعة وسلاسة، ومن خلال الأسرة والبيت التي أعادت بقلمها إحياءه كما كان منذ عقود. وكانت الوقائع والسلوك التلقائي هو الذي يشرح ما تريد أن تقول، واقرأ مرة ثانية الفقرة التي وضعناها في بداية الحديث عن رحلة الذهاب الأسبوعية إلي المعبد. أما التحسر علي مصر، والبكاء علي فراقها، وهو الخيط الأكثر وضوحا في عرضها «لمأساة» الخروج فاقرأ عنه المثل التالي: ما أن استقر بهم المقام علي ظهر الباخرة التي أقلتهم من الإسكندرية، حتي صاح أبي: رجعونا مصر.. وظل أبي يصيح بتلك العبارة، لقد فقد القدرة علي كبت مشاعره، وأصبح ذلك الرجل الذي كانت حياته مثالا للأناقة ولآداب المجتمع فاقداً اللياقة، وكان يصرخ بهذه العبارة حين يكون وحيداً ويصيح بها أمام الركاب، سيان عنده أن نكون معه أو يكون بمفرده يستوي في ذلك أن نكون في قمرتينا بالأسفل، أو نكون علي ظهر المركب.. الغريب في الأمر أن أحدا لم يعلق أو حتي يتعجب من رؤية ذلك العجوز الغاضب، الذي كان يصرخ أحيانا هاتفا بتلك العبارة أو ينتحب بها في صوت خفيض «رجعونا مصر» لقد كان ينفث بما تجيش به صدورهم. - ما هو دورهم؟ وأكتفي بهذا المثل، وهناك في الكتاب الكثير الذي يحمل هذا المعني. إن المتابع لقضية اليهود المصريين، من الباحثين والمؤرخين سيجد في كتاب لوسيت أو لولو اسم الشهرة المعروفة به - مادة نفيسة تعينه علي صياغة رأيه أو وجهة نظره. ومن بين الأسئلة التي يدور حولها الجدال: إلي أي حد كان وجود هذه الجالية له مردود إيجابي. وإذا رسمت لولو صورة واضحة لأبيها من جميع النواحي، فهمنا منها أن نظرته للمرأة كانت النظرة الشرقية، التي لا تري في المرأة شريكا، وسجلت كيف كان أبوها يعامل أمها بقسوة واستهانة ثم أردفت أنه ليس كل أعمامي علي هذه الشاكلة، بل علي العكس، ولا كل الجالية اليهودية، ثم انتهت إلي: كان لليهود أسلوب حياة مختلف، إذ كانوا يشاركون في إخفاء التألق علي الحياة الاجتماعية في مصر الأربعينيات والخمسينيات مثلهم في ذلك مثل الأجانب، فإذا خرجوا في المساء لم يخرجوا فرادي، بل مع زوجاتهم، وإذا كانت الأمسية راقصة، قام الرجال بمراقصة قريناتهم وإذا ذهبوا لمشاهدة الراقصات الجميلات اللاتي كن يؤدين رقصاتهن عندما يعلن ليل القاهرة عن انتصافه كانت الزوجات يجلسن بجوار أزواجهن يستمتعن بمشاهدة العرض الراقص وهن يضحكن ويصفقن بحرارة تماما مثلما يفعل أزواجهن. ويمكن فهم هذا من زاوية أثرهم في دفع عجلة التحديث. ولكن الوجه الآخر للسؤال هو هل كان يمكن أن تظل حياة آلاف اليهود في مصر، بنفس الوتيرة، بعد قيام إسرائيل وما تبع ذلك من صدامات وهزات وزلازل في المنطقة لا تزال أنقاضها قائمة إلي اليوم. ثم إن الموقع الذي كان يحتله ليون وعائلته هو في قمة الهرم الاجتماعي أي أن المسافة بينه وبين أغلبية الشعب المصري أبعد ما تكون أنه بتعبير ابنته هو مع الضباط الإنجليز حين كانوا يملكون القاهرة، وكان هو يملكها جنبا إلي جنب معهم. ولكن العنصر الذي يستحق منا مناقشة شجاعة وأمانة هو ألم يكن ممكنا التعامل معهم بطريقة أكثر رشدا وعقلانية بدلا من هذه النهاية التي تصفها الشاهدة الموهوبة علي هذا النحو. وأثناء صعودنا السفينة طلب منا أحد مفتشي الجمارك أن نقوم بالتوقيع علي آخر ورقة رسمية وكانت استمارة معروفة باسم «خروج بلا عودة» وقعنا عليها، كانت تعهدا منا بأن نغادر مصر وألا نعود إليها أبدا هل كان من اللائق والحس بالتاريخ وتمثل روح مصر أن يتم التصرف علي هذا النحو.. إن مقاربة هذا السؤال ستظل مطروحة وهي ليست مراجعة للماضي، بقدر ما تتعلق بالحاضر والمستقبل. ويستحق مترجمو الكتاب مصطفي الطناني ومدحت مقلد وعفت عبدالفتاح كل تقدير وامتنان وكذلك الطناني صاحب دار النشر. والإساءة الوحيدة من الناشر هي التعليق الذي كتبه المهندس الأديب محمد حسين يونس، فليس له مبرر ولا يحمل أي إضافة أو إضاءة أو تفسير، غير حرصه علي التشعلق بكتاب قادر علي الوقوف وحده بكبرياء ونموذج للإتقان والتجويد والإنجاز والصدق مع النفس والآخرين.