لوسيت لينيادو هى الطفلة المصرية ذات الأعوام الستة التى عاشت رحيل أسرتها عن مصر عام 1963، وأبوها ذو ال63 عاما يقف على ظهر المركب الراحل إلى أوروبا يصرخ «رجعونا مصر»، تعتقد لوسيت أن أباها قد أدرك حينها أن حياته قد وصلت إلى نهايتها، وأنه لن يكون بمقدوره التواؤم مع عالم ما بعد القاهرة. «لوسيت» هى الطفلة التى آلمها ترك قطها «بسبس» وراءها، والتى عندما عادت إلى القاهرة بعد أربعين عاما سألت عن القط ولم تتوصل إلى شىء، إنها الطفلة التى أحبت أباها ذا البدلة الشركسكين البيضاء، الذى عشق القاهرة وظل فى أمريكا محتفظا بحقيبة سفر صغيرة بجانبه منتظرا العودة إلى مدينته فى أى لحظة، وهو ما لم يحدث. لوسيت هى مؤلفة «الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين: وقائع خروج أسرة يهودية من مصر»، الذى صدر بالإنجليزية عام 2007، وصدرت طبعته العربية أوائل 2010 عن «دار الطنانى للنشر» فى ترجمة رائعة، والكتاب هو سيرة ذاتية لهذه الأسرة المصرية اليهودية، التى كان عمادها الأب الأنيق ميسور الحال عاشق القاهرة الذى استمتع بمباهجها وطبيعتها الكوزموبوليتانية المتسامحة قبل الرحيل الاضطرارى، لكن السياسة والحرب والاستعمار البغيض وبزوغ الكيان الصهيونى العنصرى حولت تلك الصورة الجميلة إلى مشهد صراع وتشتت راحت ضحيته أسر يهودية لم تعرف، ولم ترغب إلا فى مصر وطنا لها. كان عام 1963 ليس فقط نهاية حياة أسرة «ليون» فى مصر، ولكنه أيضا نهاية الجزء الرغد المرتاح من حياتها، وبداية الفقر والعوز والعيش على المعونة فى أمريكا، بلد الأحلام، فهذا الثرى المصرى يضطر فى الرابعة والستين من عمره أن يسرح بصندوق ربطات عنق فى أنفاق المترو الأمريكية، كى ينفق على أسرته، ويظل محتفظا بقيمه الشرقية المحافظة وطعامه المصرى وصوت أم كلثوم فى منفاه الأمريكى غير الفاخر. وكما يستعرض الكتاب الحياة فى مصر بين 1943 و1963، فهو يتعرض أيضا للثقافة الأمريكية، التى تلفظ الأب المسن، الذى يصر على أنه «عربى» فتتأكد الباحثة الاجتماعية الفظة أن المجىء إلى أمريكا بالنسبة لهذا الرجل ليس فرصة مأمولة ولكن محنة أليمة، إنها الثقافة التى تجعل الأب والأم ينتهى بهما العمر فى دور رعاية مسنين باردة بلا قلب بعد أن اختطفت بقيمها البراجماتية الأبناء وألهتهم، وعندما تعود «لوسيت» إلى مصر عام 2005، وتذهب إلى بيتها القديم فى شارع الملكة نازلى (رمسيس حاليا) وتصر الجارة العجوز، التى تتذكر العائلة، أن تقيم معها «لوسيت» أثناء وجودها فى مصر، تقول لوسيت «وهكذا أعطيت الفرصة للعودة والانتقال مرة أخرى لشارع الملكة نازلى، وجريت لأحتضن السيدة العجوز، وفى هذه اللحظة أمسكت بيدى بين يديها، فأدركت شوق والدى اليائس للعودة إلى القاهرة، وإحساسه بالقنوط، الذى ألقى باللوم فيه على الزهور (الأمريكية)، التى لا رائحة لها والبشر الذين انعدمت فى قلوبهم الرحمة». فى العشرين صفحة الأخيرة لم تتوقف عيناى عن ذرف الدموع، لا أعرف إن كنت أبكى هذا الأب وتلك الأسرة التى أدخلتنى السيرة إلى حياتهم، أم كنت أنعى مصر منتصف القرن أم هو تأكيد الكتاب على دفء وجمال القلوب فى بلدى.