يمثل ديوان "تأطير الهذيان" منعطفاًَ جديداً في تجربة مؤمن سمير الشعرية المتسعة. ففيه مما يجعله مختلفاً عما سبقه من أعمال، الكثير.. حيث يعيد الشاعر توظيف تقليد "الرثاء" التراثي الشهير، ولكن علي نحو ينطلق فيه من المعطيات الجمالية التي تحافظ عليها قصيدته لتصنع تمايزها واختلافها عن قصيدة الجيل الذي ينتمي إليه. إذ أنه بالإمكان أن نلتمس في القصيدة هنا عدداً من الملامح الأساسية المؤطرة لما يسمي " الرؤية الحيوية". وهذه الملامح هي: اللجوء للمرجعية الذاتية، المرجعية الخارجية الزائفة، الإيقاع الذاتي، كسر التراتبية الأنطولوجية وتفكيك المركز. أولاً: ذاتية الإشارة: حيث من المفترض أن تقوم القصيدة الشعرية، إما بالإحالة إلي نص آخر أياً كان أو إلي واقع "فوق نصي" كالوقائع السياسية أو الاجتماعية أو التاريخية. لكن قصيدتنا الحالية تتخذ من ذاتها مرجعاً للدلالة، فالنص يفسر ذاته بذاته حيث أن ما يمكن أن نجده منشئاً لرمز شعري، سرعان ما يقوم النص بتعريته فيما يعد نوعاً من صنع الصدمة ومراجعة القراءة وتحفيز عملية التعدد في الاستجابة والتأويل. ففي الديوان، مثلاً، تأتي صورة الحجر، لا بوصفه جماداً، بل في صورة إنسانية، مما يدعو للشك في شيئيته: "كنت حبة واحدة/ وكان الحجر صغيرا/ً لا يصل إلي الكتف". ويتدعم ذلك المعني الذي يبدو فيه الحجر وكأنه رمز للمرثي عليه، حين يقول النص: الحجر/ وقد قارب النضوج/ أخذ يوسع لنفسه/ قليلاً قليلاً... ثم.... فدخل بقدميه الطويلتين/ واختنقت أنا ولا تتكشف هذه الموازاة إلا لاحقاً حين يتوجه الشاعر بالخطاب إلي "كمال" المرثي عليه/ الأساس، قائلاً: يا صديقي/ حجر ثقيل يفسد إتمام الطريق/ فاخلعني/ من ثقب الوسادة كذلك الحال بالنسبة للجارة التي بذكائها الفطري: ربطت بيننا سريعاً/ بعد أن ركّبت القساوة/ في ضلوع الألياف ثم إنها: استحلبت/ من عمقها/ ليمتلأ ريقها بالمشاعر/ والحجر يمسك أنفاسه/ حتي تملّك من فمها/ وانطلق وكأن هذه الجارة تلد الحجر: " كمال"، وبذا يمكن أن تكون هي الأم التي: تقضي صلواتها/ في مصالحة القسوة فالقسوة التي هي علامة ظهور الجارة لأول مرة بالقصيدة، هي علامة الاستدلال علي هويتها كأم. وهكذا فإن هوية الذوات لا تتضح إلا من خلال المرجعية الذاتية، الأعمق والأبعد، وذلك بالأساس. ثانياً: المرجعية الكوزموبوليتانية: في الكتابة ما بعد الكولوينالية، غدت رموز الاستعمار محل سخرية، والسخرية محملة بنوع من النرجسية الذاتية حيث تسقط الحدود بين الشرق والغرب وحيث تُنزع القداسة عن الرموز الثقافية الغربية علي نحو ما نجد من وصف شكسبير بالوغد وبافتقاد العبقرية: ثم لا تنسوا هذا الوغد "شكسبير"/ يطلق اقتراحات حامضة، لا يزال../ لا تصدقوا أنه عبقري../ " هاملت " جاري أنا. أو أن يكون "سلفادور دالي " من أهل الجوار: وهل إذا صنعت قدراً ضئيلاً من الموسيقي/ لأسد فتحة في الباب الخلفي/ كي لا تتسرب الحلقة المنقوشة بالدم أكون فناناً بقدر "سلفادور"/ الساكن خلف بيتنا المتهدم؟/ دالي يا رجل وهكذا تتسع الرؤية، بالتجاور والكونية، وتصنع الشعرية حيويتها وتجاوزها. ثالثاً: الإيقاع الذاتي: وهو ما يتولد عن بنية النص ذاته، وليس خارجاً عليه كما نجد في إيقاع قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية. مثال ذلك حركة الأرجوحة ذات الطرفين، إذ يرد مشهد شعري كامل يدور حول الأرجوحة ويتحرك المشهد الذي يدور بين طرفين في العادة، في تتابع مدهش.. وهو ما يعني أن القصيدة تتحرك وفق الحركة المتأرجحة علي النحو التالي: فتي الأرجوحة (وهو كمال علي الأرجح) مقابل جماعة الرفاق: فتي الأرجوحة/ يجلس في المنتصف/ الهواء يشيلنا/ لندخل قاربه/ وندرك ثم الأرجوحة في مقابل الفتي: الأرجوحة مكتنزة/ ....../ وهو يمتلك رأساً / فيها ندوب وعساكر ومطر وكذا صواميل الأرجوحة مقابل جماعة الرفاق: الصواميل/ التي نعبث فيها كل مساء/ بعد أن يستلقي إلي الوراء كصخرة _/ تنتظر قرارنا/ لتطير وتنتظم مع الطيور/ ونحن نأبي/ كي نجرب حماستنا وهكذا يمضي الإيقاع بالتناوب إلي نهاية المشهد، مدللاً علي طبيعة الإيقاع الذاتي، الخاصة، في القصيدة. رابعاً: كسر التراتبية الأنطولوجية:- تُعرف الأنثربولوجيا مفهوم "الرؤية الحيوية "علي أنها الرؤية الفكرية للمذهب الحيوي، وفيها يؤمن البدائي بأن العالم واحد ولا فارق وجودياً يميز الإنسان عن غيره، وفيما يبدو أن قصيدة النثر، في هذا المثال الذي نحن بصدده، تنحاز لتلك الرؤية، وربما يرد ذلك لمناكفة الرؤية التنويرية القائلة بمركزية الإنسان وعلو كعبة علي باقي الموجودات، ووفق تلك الرؤية يفعل البشر أفعال الحيوان والأشياء، والأشياء تمارس حياة البشر، علي أن ذلك ليس نوعاً من تقديس الأشياء (الفيتشية)، وإنما بناء مساواة غير متحققة علي أرض الواقع، لذلك ليس ثمة ما يدعو للدهشة في أن تأكل الذات لحم المرثي عليه، الذي قد يكون في إحدي التجليات، الذات نفسها: لحم الكتف/ غالباً (مشفّي) من الدهن/ أقضم/ وأُغمض عيني/ وأبكي وهو ما نجده حيال البلاطات التي يمر عليها الطفلان مؤمن وكمال وأقرانهما، حيث تشاركهما اللعب واصطناعه: البلاطات/ حقود/ ونفوسها ليست صافية/ تخبئ كل واحدة عن الأخري/ مقداراً من الخطوات علي أمل/ أن تجلب الأنظار/ وتتسبب كل يوم/ في تمثيلية/ الوقوع/ المحببة للجميع وكذلك دُمي المحلات التجارية، لها نفس مشاعر الخوف التي نكنها للأمطار، والفستان يزهو لأنه حك فتيلاً لساقي المرأة، وتصير الذات الشاعرة قطة سوداء يبرق صوتها وعينها، بل ويصل التجاوب بين الإنسان والأشياء حد أن عكاز المرثي عليه: تنظر له/ فيقفز جذلاناً/ ويحمل عن ظلالك/ حقائب الهدايا فالعكاز الواقع خارج صورة الميت يحيي ذكراه، بتصور أن ظلاله تحمل الحقائب الممتلئة بالهدايا التي يحتاج لمن يحملها عنه.. وهو الذي يتقدم ليفعل هذا، بكل بساطة وطبيعية. خامساً: تفكيك المركز: إن قصيدة النثر هنا ليست قصيدة الديالوج القائم علي الحوار بين طرفين، الحوار الموضوعي بين رؤي العالم، لكنها تصطنع لوناً من المونولوج، يصطبغ بطابع حواري مزيف بين الذات والآخر من أجل أن تتفكك المركزية. فالحوارية الزائفة هي نتاج علاقة ذات بآخر، ليس بآخر بالضبط، بل هو شبيه بالذات، لأن القصيدة هنا لا تُعني بالثنائيات الضدية، ولذلك من الصعوبة بمكان رسم صورة للآخر المختلف، بل هناك الذات، المركزية، التي لها سماتها، وكونها محور العالم التخييلي للنص ومحله المختار. إن الديوان يتخذ من "كمال" محوراً للرثاء. لكن "كمال" ليس بالفرد الذي له هوية محددة بل يبدو وكأنه حقيقة وجودية تتخذ كل الصور الممكنة، البشرية والطبيعية. فهو في صيغته البشرية يمثل كل الأحباب والأعداء من الصديق والأستاذ والوالد إلي الحبيبة والجد والمرعب.. الخ، وفي صورته الطبيعية حجر عثرة في الطريق إلي الحياة، وتتبعثر هوياته المتعددة فوق مساحة الديوان ويتم استدعائها في أي وقت وفي كل حال وهكذا يتأتي مركز النص مفككاً أو ما قد يبدو تجسيداً لنقص ذلك ال"كمال": المفهوم، الذي يلح النص عبر حيويته ودراميته وفرادته الفنية، علي كونه محض مفهوم وهمي خدعنا طويلاً..