"فلسطيني على الطريق" ليس مجرد عنوان لفيلم وثائقي، بل هو حالة وجودية تنبض بالذاكرة والوجع، رحلة متشابكة عبر الزمن والمكان، تستكشف الهوية الفلسطينية التي تظل حية رغم كل المحن، هذا الفيلم للمخرج إسماعيل الهباش ويشارك في عروض البانوراما الدولية، يرصد الطريق التي حملت على مر التاريخ قصص النضال والآلام، من الناصرة إلى جنين، مسافرًا على دروب تحولت من شرايين حياة إلى دروب آلام وشوك، حيث الجغرافيا ليست مجرد مساحة، بل ذاكرة محروقة وحكاية شعب على مفترق الطرق، يحكي الفيلم قصة الإنسان الفلسطيني الذي يواجه ظروفًا فريدة في التنقل والحركة، محاصرًا بين جدران الاحتلال والحواجز، لكنه في الوقت نفسه حاملا لرسالة التعايش مع الاحتلال من خلال موقفين مباشرين أحدهما مع الساكنة الإسرائيلية التي اعتبرت ان لها حق أصيل في المنزل بعد انتقالها إليه في عام 48، والأخر إجابة السؤال الذي يطرحه الفيلم عن ماهية تصرف السيد المسيح في اللحظة الآنية فجاءت الإجابة على لسان أحد ضيوف الفيلم أن المسيح سيواجه الدمار بالسلام، وهو طرح غير مقبول لدى كل فلسطيني يعيش واقع المقاومة والصراع اليومي لآخر نفس. هنا، يتحول الطريق إلى أكثر من مجرد مسار، فيصبح شاهدًا على صراعات الذاكرة، الكفاح، والأمل المستمر في وطن مفصول لكنه متحد في الروح. يروي الفيلم رحلة المخرج نفسه الذي يقطع الحدود بين "فلسطين 48" و"فلسطين 67" في محاولة لرأب الصدع الذي أحدثه الاحتلال، حيث تسقط المسافات وتتحول الطرق التي كانت شرايين حياة إلى دروب آلام تحيط بها الجدران الاستيطانية والحواجز العسكرية التي تعيق حرية الحركة وتخلق مأساة يومية. يحفل الفيلم بعدة مضامين هامة، أبرزها استحالة الحركة التي يعاني منها الفلسطينيون، ووحدة المصير التي توحد الفلسطينيين عبر الزمان والمكان، مع توثيق لحظة حرب الإبادة في غزة، حيث تتداخل الحياة اليومية مع ألم الاحتلال والانتظار المديد. حضور المخرج إسماعيل الهباش داخل العمل يمنحه بُعدًا عضويًا وإنسانيًا، إذ ليس مجرد راصد بل هو شخصية محورية، جسده معرض للخطر، وصراعه الشخصي مع مرض زوجته يضفي عمقًا عاطفيًا يتجاوز الوثائقي السياسي ليستحيل سردًا إنسانيًا نابضًا بالحياة. على الصعيد الفني، يعتمد الفيلم بذكاء على جماليات القلق، حيث يتحول إطار نافذة السيارة إلى نافذة على فلسطين الممزقة، تأثير بصري ينقل شعور اللاوصول والفضاء المحاصر، مع تصوير متقن للمشهد الطبيعي الفلسطيني الذي يبدو تائها بين نعومة الأرض وخشونة الاحتلال، يجمع الفيلم بين التأمل والواقعية، متجاوزًا الشعاراتية ليقدم تجربة سينمائية صامتة تحمل صرخات داخلية. إلا أن الفيلم يعاني من بعض نقاط الضعف، إذ أن حضور المخرج المستمر أمام الكاميرا في معظم المشاهد أحيانًا يخلق تشتتًا نفسيًا ويصرف الانتباه عن السرد، كما أن تعدد أدواره بسبب الظروف السياسية قد أضعف الجانب التقني للعمل، بعض المشاهد تفتقر إلى البرمجة الدرامية المتصلة، مما يؤثر على تماسك الأداء السينمائي العام، لكنه يبقى عملًا غنيًا بالمشاهد الوثائقية والإنسانية التي تحمل عبق التاريخ وتعبّر عن الوجع الفردي والجماعي في آن معًا. حضور الكاتب الراحل سلمان ناطور في الفيلم، والإشارة الصريحة إلى أن العنوان "فلسطيني على الطريق" مقتبس من كتابه، تضيف بعدا ثقافيا وتاريخيا عميق للعمل، وتخرجه من كونه مجرد وثائقي آني ليصبح حوارًا بين جيلين وزمنين مختلفين، ناطور، وهو كاتب فلسطيني من عرب 48، رسخ في كتاباته مفهوم أن الفلسطيني ليس مجرد عابر سبيل، بل كائن "على الطريق" بشكل دائم، تجسيدًا لحالة اللجوء، الترحال، والتفتيش المستمرة. ويؤكد الفيلم من خلال هذا الاقتباس البصري أن النص الذي كتبه ناطور لم يمت، لأن الواقع لم يتغير، ما يجعل "فلسطيني على الطريق" حالة وجودية تعبر عن الانتظار، القلق، وعدم الوصول المستمر، موثقة بصريًا المعاناة الفلسطينية عبر زمن الاحتلال والصراعات المستمرة. "فلسطيني على الطريق" هو صرخة بصرية هادئة تحمل رؤية إنسانية مميزة عن الهوية الفلسطينية المعذبة والمقاومة، حيث ينجح إسماعيل الهباش في تحويل رحلة شخصية إلى رمز للوطن والذاكرة والمعاناة، مجسدًا الروح الفلسطينية بين الألم والأمل، وتجربة لا تنسى عبر الزمن والمكان.