الشاعر رفعت سلام، أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات المثير للجدل حتي اليوم، يكتب الشعر في صمت، وتتميز قصيدته بالخروج عن الأطر التقليدية الثابتة للقصيدة، تمرد علي تقاليد القصيدة العربية، ورغم هذه السنوات الطويلة في الإبداع الشعري، فإنه لا يزال يبحث عن الشعر، ويرحل خلف أسئلته، معترفا بفشل الجميع حتي الآن في الإجابة عن السؤال الشامل: ماهية الشعر. عن محاولته البحث عن هذه الماهية، دار كتابه الأخير "بحثا عن الشعر"، الصادر عن هيئة قصور الثقافة، وكان لنا معه في "روزاليوسف" هذا الحوار: "بحثا عن الشعر" هو عنوان كتابك الجديد .. هل يحتاج الشعر إلي بحث؟ نعم يحتاج الشعر إلي بحث وتأمل طويلين بلا نهاية، لأنه كما قال العرب: الشعر فن صعب وطويل سلمه، ولم يفلح أحد حتي الآن في تحديد ماهية الشعر والإجابة عن بعض التساؤلات المثارة مثل: ما الذي يجعل نصا مكتوبا شعرا؟، ما العناصر التي إذا توافرت في نص ما اعتبرناه من الشعر؟ وهذه الأسئلة تحتاج الي مساءلة للواقع الشعري الراهن وقضاياه المطروحة، ويحتاج إلي الاجتهاد في طرح رؤية مغايرة للشعر في هذا الوقت، ورؤية مغايرة للتيارات الشعرية المختلفة وملامحها الأساسية ورموزها وعوالمها. لكن هناك من يري أن الشعر فقد سلطته وهالته بعد أن ركب موجته إناس كثيرون ليس لهم ثقافة شعرية .. ما رأيك؟ علاقة الشعر بالمجتمع ليست ثابتة ولا نهائية فالشاعر الذي كان صوتا للقبيلة في الماضي لم يعد كذلك في بداية القرن العشرين مع وجود حكومات تضم وزراء ومسؤلين عن المجالات المختلفة، لم يعد المجتمع بحاجة اليه في هذه الادوار وتغير دوره الي التعبير عن الافكار المشتركة والطموحات الجمعية داخل الوطن علي نحو ما نراه لدي احمد شوقي، فاليوم أصبح الشعر نوعا من الفنون الجميلة كالفن التشكيلي والباليه والموسيقي الكلاسيكية، وليس فنا جماهيريا كما كان من قبل، لكننا ما زلنا نتمسك بالدور القديم، ونبحث عنه وهو ما تجاوزه الزمن . أليست هذه القضايا من مهام الناقد وليس الشاعر؟ الناقد يكتب عما كان وفي أفضل الأحوال عما هو كائن أي ينظر في الإنتاج المتحقق، ليستخرج منه أو يطبق عليه قواعد معينة، أما كتابة الشعر فهي ذات طبيعة أخري هي كتابة في جوهر الشعر بما يتخطي في كثير من الأحوال المرحلة التاريخية هذه أو تلك، فهو ليس مرتبطا بالراهن، يكون مشدودا إلي ذلك الجوهر الكامن في مختلف التجار الشعرية، فهو لا يبحث عن قواعد ولا يصنف في خانات ولا مدي توافق نص معين مع قواعد معينة، وإنما يبحث عن جوهر الشعر في مختلف ما يتناوله من نصوص وتيارات، وأفكار ذلك ما قاله إليوت علي سبيل المثال في كتاباته النقدية وكذلك صلاح عبد الصبور. لماذا تنشب الحروب والمعارك بين الشعراء علي مدي الأجيال في حين تختفي هذه الحروب لدي كتاب الأجناس الأدبية الأخري؟ هذه المعارك أوضح في الشعر عن الأنواع الأدبية الأخري لأننا لا نزال نعتبر الشعر بوعي، أو بلا وعي فن العربية الأول بما يملك من تقاليد تصل إلي ستة عشر قرنا من الكتابة الشعرية العربية وهو ما لايتوفر بالنسبة للأنواع الأدبية الأخري التي نشأت في بدايات القرن العشرين مثل القصة والرواية والمسرح، لكن هذا التراث الطويل للشعر يجعل الخروج عليه بالغ الصعوبة علي نحو ما حدث في الخمسينيات حينما اتهم المحافظون كالعقاد وعزيز اباظة المجددون امثال صلاح عبد الصبور ومدرسته لا بالخروج علي الشعر فحسب وانما بالخروج علي اللغة والدين والتراث دفعة واحدة، فهي سمة تتعلق بمكانة الشعر في الثقافة العربية، فالقديم علي هذا النحو من الصعب زحزحته إلا بمعارك طاحنة، لأنه يوهم بأنه أصبح جزءا من الشخصية العربية، وبأن زحزحته أو تعديله تعني إهدارا لهذه الشخصية والهوية، وتلك مشكلة الفنون عميقة الجذور في الزمن والثقافة. هل يستطيع الشعر والكتابة تغيير الواقع، وإذا كانت الإجابة بنعم فأي نوع من التغيير؟ لم يذكر لنا التاريخ أن شاعرا نجح في تغيير النظام السياسي، أو أن قصيدة قد أطلقت مظاهرة، فهذا ليس دور الشاعر ولا القصيدة، التغيير الذي يحدثه الشعر هو تغيير في الأعمق، في ذائقة الإنسان وروحه لا في سطح المجتمع وأنظمته السياسية، لكننا مشغولون بطرح هذا السؤال في ثقافتنا العربية عموما عندما يفشل الساسة ومنظمات المجتمع المدني في تقديم أدوارهم أو تخون هذه الأدوار بما يشبه الركود عندئذ نبحث عن الشاعر ليقوم بما لم يقم به الآخرون. ما الأسئلة التي تحركك للكتابة والهواجس التي تسكنك وتحفزك علي الإبداع؟ هواجسي غامضة لا يمكن الامساك بها بشكل واضح فهناك نوع من الاحتشاد والقلق الذي يسكن لفترة ولا يريد ان ينزاح من الوعي وقد تفتح الباب له جملة عابرة أو لحن موسيقي أو كلمة في سياق غير شعري أصعب ما في الكتابة بالنسبة لي تلك الجملة الأولي التي يمكن أن أكتبها عشرين مرة قبل أن أستقر علي صياغتها النهائية، فالكتابة بالغة البطء والتردد والحذر إلي أن تبدأ في امتلاك زخمها الخاص مترافقة مع تكوين شكل أولي يمنح النص شكله النهائي . متي تمزق قصيدتك؟ لم يحدث أن مزقت نصا، وأجمع مسودات كل ما كتبت، فأنا استخدم القلم الرصاص والأستيكة وأعيد الكتابة علي نفس الورقة ولا استبعدها أو أمزقها، فإذا ما كتبت نصا لم يعجبني اتركه ولكني لا امزقه. ما علاقة دواوينك بعضها ببعض .. هل تشعر أنك تشيد صرحا وعالما متكاملا أم أن لكل ديوان استقلاليته التامة؟ لكل ديوان تجربته المستقلة في سياق شعري خالص بمعني يمكنك قراءة كل ديوان بشكل مستق عن الآخر بطبيعة الحال، وإذا أتيحت لك الفرصة لقراءة أعمالي كلها، ستجد بناء متكاملا رغم التميزات الداخلية، هل تتخيل أن يكون الطابق الثاني مختلفا عن الثالث، وهذا بدوره مختلفا عن الرابع دون أن ينهار البناء، وإذا لم تشعر بتمايز واضح في النص الجديد عما سبق، فإن الكتابة تتوقف من تلقاء نفسها، ولا أستطيع أكمالها، فالتكرار يوقفني عن الكتابة ذاتيا، وإذا لم يكن هناك جديدا فإن الكتابة لا تفتح لي أبوابها. جيل السبعينيات تفرقت به السبل وأصبح عدد أفراده أقل من أصابع اليد الواحدة .. فهل تعتقد أن هذه التجربة لفظت أنفاسها؟ من طبيعة الأمور في العملية الإبداعية أن تبدأ أي حركة بعدد كبير يتناقص تدريجيا الي اقل من اصابع اليد الواحدة وقد بدأ جيل السبعينيات في التصفية ابتداء من النصف الثاني من الثمانينيات، أي بعد نحو عشر سنوات تقريبا من انطلاقها ولم يكن منطقيا أن يستمر قرابة العشرين شاعرا بنفس الزخم والطاقة والحضور التي كانوا عليها في بداية انطلاقها، إذن فظاهرة جيل السبعينيات منتهية بانتهاء فترة الثمانينيات، ومن تبقي منهم آحاد وأفراد شعراء لا يمثل كل منهم إلا نفسه.