منح الفيسبوك فضاء واسعاً من الحرية للجميع. كشف عن وجوه أخري لمشاهير السياسة والفن والثقافة والرياضة، ولكن الأهم من ذلك أنه فتح المجال أمام الأشخاص العاديين ليتحوّلوا إلي نقاد لكل ما يحدث حولهم. إنهم يكتبون حول الأمور التي تضايقهم، ويسخرون من الأوضاع الخانقة والضغوط التي تحاصرهم. إنهم ينقسمون في الأغلب حول معظم الموضوعات المطروحة، وهو ما يعني أن الفيسبوك تحوّل فعلاً إلي فضاء للديموقراطية التعددية الغائبة التي نبحث عنها علي أرض الواقع لا في خيال الإنترنت.. ولكن للأسف يوجد من يريد مصادرة الخيال. لقد انطلقت دعاوي غريبة في الفترة الأخيرة يقودها مسئولون رسميون في الصحف والفضائيات للمطالبة بتقنين ما يحدث علي الفيسبوك، بداعي أن النقاشات الديمقراطية عليه تصبّ في مصلحة الغرب الذي يراقب ويدين ما يحدث، وكأن هذا الغرب ينقصه الفيسبوك حتي يلمّ بما يجري، ولأن تهمة التخوين أصبحت السيف المشهر في وجه أي معارض، فقد تحوّل الشباب المعارضون إلي خونة وجواسيس وعملاء علي الفيسبوك ينبغي تحجيمهم والقضاء عليهم.. لقد أصبح المناخ العام في مصر صعباً وضاغطاً وخانقاً، وكل يوم يخسر العقلاء أرضاً جديدة في معركتهم من أجل حرية التعبير.. والمؤسف أن الدولة لا تنتبه إلي أنّها أثناء محاولاتها لتكميم الأفواه تنمو في السرّ طحالب التطرف ثم تتحول إلي كيانات مفزعة تصعب مواجهتها ولا يتم الخلاص منها إلا بخسائر فادحة. ومهما قيل عن الحراك الذي أحدثته الصحف المستقلة إلا أنّ الواقع يقول إنها ما تزال محكومة بقبضة الدولة وبتدخلات أصحاب رأس المال، ولهذا السبب فإنّ محاصرة الإنترنت ورقابته سيعني مزيداً من التراجع علي مستوي الحريات. لقد أصدرت مؤسسة "حرية الفكر والتعبير" تقريراً خطيراً حول حرية الفكر والإبداع يعرض الزميل أحمد وائل أهم ما جاء فيه خلال هذا العدد. التقرير ركّز علي التهمة الأساسية التي أصبحت تكئة لمصادرة الأفكار، نقصد تهمة خدش الحياء العام. إنها كلمة مطاطة وواسعة والتذرع بها يسيء إلي مصر في المقام الأول، وهي تشبه كثيراً من الجمل المحفوظة والمكررة التي يستخدمها الرقباء، ومنها الإساءة لثوابت الأمة، بدون أن يقولوا ما ثوابت الأمة. الثوابت الكبري واضحة وعظيمة ولا يمكن لأحد المساس بها، ومن بينها الحدود المصرية، والجيش العظيم، والدستور.. رقباء الدولة منتشرون في الهواء، وهم يستخدمون اللغة ذاتها التي يستخدمها شيوخ التطرف. إنهم يتحدثون أيضاً عن ثوابت الأمة، وكل شخص يفسّر هذه الثوابت علي هواه. إنها التهمة الجاهزة للنيل من أي مبدع أو مفكر يخرج علي النص. الدولة أصبحت الأب السياسي، إنها تقف ضد من يحاول طرح وجهة نظر مختلفة سياسياً، والشيوخ نصّبوا أنفسهم أباً للدين، أما الجنس فآباؤه متعددون ومن كافة الأطياف الرسمية وغير الرسمية، ومن يكسر تابو سيتم كسر رقبته فوراً! التراث نفسه لم يسلم من دعاوي المصادرة، وما حدث مع ألف ليلة وليلة أكبر دليل علي ذلك. أصحاب الدعوي كانوا عدداً من المحامين من المفترض أنّ مكانهم هناك في قاعات المحاكم، ولكن أصبح أمراً عادياً أن يتدخل أي شخص فيما لا يعنيه. لم يُعمل هؤلاء عقولهم وإلا لعرفوا أنهم يريدون أن يقولوا للعالم إن العصر الذي ظهرت فيه ألف ليلة كان أكثر حرية من العصر الذي نعيش فيه! لقد أصبح الكلام عن تراجع الحريات مسألة سخيفة في عصر تداخل العوالم، ولا بد أن يفهم من يصادرون ويقمعون ويلغون هوامش الحريات أنهم أكبر الخاسرين لو أنهم يريدون اللحاق بالحضارة الحديثة.