حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا تموت الكاتبات كمداً ؟ 10
الكاتبات المبعدات عن أدب المقاومة
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 06 - 2016

في الكتاب النثري الأول الذي صدر للشاعر محمود درويش عام 1971 عن دار العودة، كتب الناشر في تصديره للكتاب :"إننا خارج حدود الوطن المحتل نستطيع أن نقول ضد إسرائيل كل ما نشاء، ولكن قولنا هذا ليس فيه جرأة ولا بطولة، ولكن عندما تقال كلمات حادة وقاطعة بمستوي ما قاله محمود درويش، فإنها تمثّل كل الجرأة والرجولة الذهنية والعقائدية..."، وتوقفت كثيرا عند هذا المصطلح الغريب الذي يقول :"الرجولة الذهنية والعقائدية"، وإقران ذلك بالجرأة.
ولكنني عندما تأملت الاستخدامات المتعددة لمعني وسياقات مفهوم الرجولة، كما رأينا في كثير مما سقته من أمثلة في الحلقات السابقة، تلك الرجولة المقرونة بالقوة والشهامة والجدعنة، وأن المرأة كائن مسلّ وطريف ويلعب كل الأدوار المكملة والترفيهية، وكما ذكرت إحدي الكاتبات أن دورهن في تظاهرات 1968 في باريس كان يقتصر علي إعداد الأكل والقهوة وتنظيف المقرات، وتجهيزها لتكون صالحة لاجتماعات الرجال.
إذن فمفهوم الرجولة، لا ينفصل بأي شكل من الأشكال عن مفهوم الذكورة والفحولة والقوة والوحشية، تلك الصفات الوحشية، والتي تكرّست، وتم تدشينها وتجميلها في الأدب والسينما والثقافة بشكل عام.
وبالطبع عندما يصدّر الناشر كتاب محمود درويش بهذه الكلمات، فهو لا ينطلق من فراغ، ولا نستطيع أن ندينه، فهو يتحرك في إطار تصورات سائدة وقوية التأثير، للدرجة التي لا يستطيع باحث أو شاعر أو ناشر أن يري أي فكرة خارج إطار تلك التصورات التي صنعت في معامل التاريخ السلطوية السابقة، وعلي مدي قرون بعيدة، كان التمييز المتنوع فيها هو السيّد الأعلي في كل مجال.
لذلك خرجت المرأة الكاتبة والشاعرة والفنانة التشكيلية والمخرجة خارج مفهوم المقاومة، وها هو الكتاب الرائد والأهمّ عن "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال "1948 1968" للكاتب الاستثنائي غسان كنفاني، يتجاهل الكاتبات في فلسطين المحتلة بضراوة لا تليق بكاتب مثل غسان العظيم.
فعندما يستعرض غسان كنفاني الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة لم يذكر اسم شاعرة أو كاتبة أو فنانة تشكيلية، رغم وجود كثيرات داخل وخارج الأرض المحتلة، وإن انعدمت هناك كاتبات وشاعرات، فذلك يعني أن هناك خللا في مسألة المقاومة برمتها، فماذا تعني المقاومة دون وجود نساء ؟، أم هن مشغولات بتطريز الكوفيات والأعلام وجميع الأمور المنزلية.
ويسترسل غسان في عرض قصص وحكايات تخص الفلسطينيين في الأرض المحتلة، دون أن يستدعي قصة أو حكاية واحدة من حكايات فلسطين تخص المرأة عموما، عاملة أو طالبة أومعلّمة أو كاتبة وغير ذلك من وظائف ومهمات، ودوما يبدأ غسان سرد قصصه ب:"كان الفلسطينيون..."، دون أن يخصص حكاية تقول :"كانت الفلسطينيات..."، وغسان هنا معذور، لأنه كان محاطا بمفاهيم تستبعد المرأة من شرف الانتساب إلي فكرة المقاومة، والمفهوم لا يتسع إلا للرجل، وكتب المؤرخ الفلسطيني ابراهيم فؤاد عباس مقالا في صحيفة الوطن السعودية بتاريخ 11نوفمبر 2015 عنوانه :" أدب المقاومة الفلسطينية..الجذور والسمات والتطورات"، وتذكر فيه المرأة كعنصر مشارك، وليس عنصرا أساسيا، فهو يقول بعد أن استعرض أدباء المقاومة الرجال :"شاركت المرأةالفلسطينية الرجل علي الساحة الأدبية، كما علي الساحة النضالية...."وهكذا، وذكر بالتالي بضعة أسماء نسائية، وكأنهن يقمن باستكمال عمل الرجال في المقاومة.
وعودة إلي كتاب غسان كنفاني الذي استعرض الأدب المقاوم منذ ثورة 1936، فيذكر أسماء ابراهيم طوقان وعبدالرحيم محمود وآخرين، ثم يتحدث عن شعراء وأدباء ما بعد النكبة عام 1948، دون أن يذكر اسم واحدة من شاعرات وكاتبات فلسطين، وعلي رأسهن فدوي طوقان وسميرة عزام وسميرة أبو غزالة وغيرهن، رغم أنه كان أحد الذين أعدّوا ملفا جيدا عن القاصة والمناضلة سميرة عزام بعد رحيلها، وكان ذلك الملف في مجلة "الآداب" اللبنانية، وكتب فيه عدد من الكتاب والمفكرين والساسة، علي اعتبار أن سميرة عزام كانت إحدي القيادات السياسية الفلسطينية، وقدخاضت نضالات عديدة وعتيدة ضد الاحتلال الصهيوني.
وآفة الاستبعاد كما أكدّنا أكثر من مرة، قديمة جدا، وعلي المستوي الثقافي متغلغلة بشكل سلطوي وذكوري واضح، ومن المفترض أن ذلك الاستبعاد المألوف والسائد والعميق أن ينتهي أو يضمحل تدريجيا أو علي الأقل يتراجع عندما تكون هناك كوارث تحيق بالأوطان، ولكن هذا لم يحدث، فهاهي سميرة أبوغزالة تكتب في مذكراتها البديعة "مذكرات فتاة عربية"، والتي صدرت في القاهرة في عام 1962، وقدمت لها الدكتورة سهير القلماوي:"لا أستطيع ان أقول أن المجتمع الذي وجد بعد النكبة تقلّ أوزاره عن مجتمع ماقبل النكبة، ومع أن النفوس أخذت تنظر بعين أكثر بصيرة وأوسع إدراكا، لكن نظراتها لا تزال وجلة خائفة تحدّق فترة وتغمض أخري، فلا يزال الرجل هو المشرّع والوزير وربّ الأسرة والقاضي والحاكم، ولا تزال معظم الفتيات ويقبعن وراء الحجاب وإن كان البعض قد استبدلته بغطاء يحجب الشعر دون الوجه، ومازالت الفتاة ترافق أمها في الاستقبالات الشهرية التي كانت كل أسرة تخصص لها يوما من أيام الأسبوع أو الشهر.."، وتسترسل أبو غزال استعراض أوضاع المرأة في فلسطين المنكوبة، تلك الأوضاع التي تؤبد أدوار المرأة عموما، وتستبعدها عن الأعمال ذات التأثير في مصير الوجدان والوطن عموما.
ورغم ذلك فهناك من استطعن اختراق كل أشكال تلك التربية، والقفز بدرجات متفاوتة فوق الأسوار التي تحجب المرأة عن أعمال قيادية تحت الدعاوي التقليدية التاريخية والمعهودة، وعلي رأسهن الشاعرة فدوي طوقان، التي كتبت الشعر المقاوم منذ زمن بعيد، وقبل الظاهرة المهمة التي أطلق عليها ظاهرة "أدباء المقاومة"، ولكن عين السلطة الذكورية السياسية التمييزية، أرادت أن تفرض نوعا أبديا لقراءة الشاعرات والناثرات، ورغم أن رصيد فدوي طوقان في القصيدة المقاومة كبير، إلا أن الناقد الكبير رجاء النقاش نشر رسائل الناقد الراحل أنور المعداوي العاشقة لها، ولتضاف فدوي طوقان إلي طابور الشاعرات المعشوقات، وأنا لست ضد نشر الرسائل، ولكنني لست مع تأبيد النظر إلي فدوي وغيرها من كاتبات وشاعرات في نطاق محدود، وهو نطاق العاطفة والحنان الأنثوي والرثاء الذي أجادت فيه النساء حسب جميع الزعومات الذكورية الأبدية.
وكما فعل القدماء مع الخنساء، واختصارها في قصيدتها التي رثت فيها أخاها صخر، وكما فعل العقاد مع عائشة التيمورية في رثاء ابنتها توحيدة، فعل الناقد شاكر النابلسي في كتابه :"فدوي طوقان والشعر الأردني المعاصر" الصادر في القاهرة عام 1966، ولا أعرف لماذا نسب شعرها إلي الأردني، ربما لأنها أقامت في الأردن بعض الوقت، فلم يخرجها من قوس أدب المقاومة فقط، بل إنه أخرجها من القوس الفلسطيني كله.
وفي فصل عنوانه :"الخنساء..وفلسفة الرثاء"، يعقد مقارنة بين الخنساء وفدوي طوقان، علي اعتبار أن الرثاء نوع من الندب علي الموتي، وهذه كما يزعمون دوما وظيفة نسائية بامتياز، وهم ينسون قصائد أحمد شوقي وحافظ ابراهيم والعقاد نفسه في رثاء سعد زغلول، والشعر العربي مكدس ومزدحم في جميع أنواع الشعر، خاصة شعر الرثاء، وقد برع فيه رجال علي درجات عظمي، ولكن بعض النقاد خصّوا به الشاعرات، وكأنهن يكتبن من أجل ذلك الندب.
يستعرض النابلسي بشكل سريع تاريخ شعر الرثاء في الشعر العربي، فذكر المتنبي وابن الرومي، وقرر أن النماذج التي كتبها شعراء رجال قليلة جدا، وقال عن المتنبي إنه عندما كتب الرثاء في ولديه وجدته، راح يمدح نفسه، ويتطوح بمزاياها، دون أي ندب أو سخط علي مافعله الموت به.
ويسترسل مقارنا بين الخنساء وفدوي قائلا : "والرثاء رابط يربط شاعرة بني
سليم..الخنساء..بشاعرتنا فدوي طوقان بالإضافة إلي الرابط الظرفي فالخنساء شاعرة فقدت أخويها معاوية وصخر، وفدوي شاعرة فقدت أخويها أيضا ابراهيم ونمر.."، ويستطرد الناقد في رصد معالم الحزن البالغ الذي تتسم به قصائد فدوي، عاقدا مقارنة بين الشاعرتين، ولا ننكر أن الباحث هنا ينتصر لفدوي في مواجهة الخنساء، ولكنه يضع الشاعرتين في طائفة الندابات، وعندما يتناول شعر فدوي طوقان الآخر، يسلّط عليه كل أسلحته الفتّاكة، وكأن الكتاب جاء من أجل تصفية الشاعرة كشاعرة.
فعن ديوانها الأول "وحدي مع الأيام" الصادر في القاهرة عام 1955 يقول النابلسي :"فالقصائد التي في وحدي مع الأيام لم تكن قصائد توافرت فيها الوحدة الكاملة، بدلالة أن حذف بيت أو بيتين أو ثلاثة من القصيدة لا يؤثر علي معني القصيدة مطلقا، وحتي لو بقيت القصيدة ذات بيت أوبيتين أو ثلاثة، لأوفت بالغرض الذي تبتغيه فدوي..."، وبالطبع يحاول الناقد أن يجد أدلته في القصائد، وهذه طريقة انتقائية في النقد، لا تخضع لرصد ومنهج علميين، بل إنها تعتمد علي البعد التذوقي الذي يختلف من ناقد إلي آخر.
ثم عن ديوانها الثاني "وجدتها" يقول :"أما بالنسبة للديوان الثاني، فجملته عبارة عن تحول نفسي من المحاريب الصوفية إلي عالم منطلق، وهذا التحول تم بطريقة بسيطة لا تكثيف فيها ولا تركيز...وحتي قصيدتها وجدتها التي تعتبر أكثر قصائد الديوان تركيزا وتكثيفا جاءت ضحلة فيما لو قيست بأي قصيدة من القصائد العربية المعاصرة ذات المحتوي المثقل بقضية وجودية معمقة..".
هذا تحامل واضح علي الشاعرة وشعرها، جاء دون مقارنات واقعية ببعض ماكان يكتب في تلك الفترة 1957، ولو استعرض الناقد القصيدة بشكل موضوعي ومحايد ودون تحامل، لخرج بنتائج مختلفة عن الأهداف التي كان يضعها قبل أن يكتب دراسته تلك.
وذلك الترصد الذي يتتبع الكاتبات والشاعرات، كاد يكون مرضا متفشيا في النقد العربي المعاصر، ويضاف إلي ذلك مفهوم المقاومة نفسه الذي يضيق علي أشكال مواجهة العدو الصهيوني علي وجه الخصوص، وبأشكال معينة، وينسي ذلك النقد، جميع القصائد التي كتبتها طوقان قبل ظهور محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم، وانتزعت إلي حد كبير من القصائد روح المقاومة عموما، فالمقاومة كمفهوم عام، بعيدا عن وجود المحتلّ الصهيوني من عدمه، ورغم ذلك فهناك قصائد لفدوي طوقان تنطبق عليها جميع الشروط التي تخيّلها النقاد لإعطائها صك المقاومة والوطنية الفلسطينية والعربية.
ففي قصيدة "نداء الأرض" المنشورة في ديوان "وجدتها" عام 1957، تقول في سياقها :
(سأرجع لابد من عودتي
سأرجع مهما بدت محنتي
وقصة عاري بغير نهاية
سأنهي بنفسي هذي الرواية
فلابدّ، لابد من عودتي
وظلّ المشرّد عن أرضه
يتمتم : لا بد من عودتي
وقد أطرق الرأس في خيمته
وأقفل روحا علي ظلمته
وأغلق صدرا علي نقمته
ومازالت الفكرة الثابتة
تدوّم محمومة صامتة
وتغلي وتضرم في رأسه
وتلفح كالنار في حسّه
سأرجع لابد من عودتي).
هذا نموذج وحيد من أشعار فدوي طوقان المبكرة، وتثبت أنها خاضت غمار الشعر المؤسس لظاهرة أدب المقاومة، والتي نسيها غسان كنفاني وآخرون، لنسبة تلك الريادة التأسيسية إلي آخرين.
ونحن إذ نتصفح جميع الصفحات التي تقرأ المرأة كشاعرة أوكاتبة أو غير ذلك، نلاحظ أن هناك بعض الترصد الواضح، وهذا الترصد يأتي أحيانا علي هيئة إشاعة في البداية، وسرعان ماتتناقله الصحف، ثم يتلقفه النقاد، ولو ضربنا مثالا بالكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، عندما كتبت روايتها "ذاكرة الجسد"، وحققت رواجا حقيقيا في ميادين التلقي العربي، وفي إحدي الجلسات المنفلتة، التقط أحد الصحفيين عبارة من الشاعر سعدي يوسف، وزعم ذلك الصحفي أن سعدي يعترف بأنه هو الكاتب الحقيقي للرواية، وتناقل الخبر في الصحف ووكالات الأنباء، واقترب الأمر من شكل الفضيحة، رغم أن سعدي نفسه نفي وأنكر ذلك الكلام، إلا أن الشائعة كانت أقوي من اعتراف سعدي ومن الحقيقة ذاتها.
وعندما خمد لهيب الإشاعة، صدر كتاب للناقد رجاء النقاش لإجراء مقارنة ظالمة بين رواية أحلام مستغانمي ورواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر، وعقد مقارنات مطولة بين الروايتين، لكي يثبت أن هناك تشابهات كثيرة بين الروايتين، ولا مجال هنا لقراءة ما كتبه النقاش، ورغم إيماني العميق بالأهمية الكبري للناقد الكبير رجاء النقاش، وتتلمذ كثير من المحررين الصحفيين علي مدي أجيال كثيرة، إلا أن هذا الكتيب جاء ظالما ومتعسفا إلي حد بعيد، وأود أن أنبّه إلي أن حديثي هذا لا يعني بالضرورة انتصارا للرواية أو لكاتبتها، ولكنني لاحظت أن تعسفا ما كان يترصدها بأشكال مختلفة، ومن أطراف عديدة، لمجرد أن روايتها فاقت سقف التوقع المسموح به للكاتبات، حيث إن أي كاتبة لو تجاوزت الحدّ المرسوم لها، أو لو اخترقت السقوف الواطئة المفترضة، كان الهجوم والتشويه والتشنيع والاتهامات الجزافية والملاحقات السلبية قائمة علي قدم وساق، رغم أن تلك الرواية من المفترض أن تثير حوارات من نوع آخر تتعلق بمضمون الرواية الوطني والتقدمي، والذي يصب بشكل أو بآخر بأدب المقاومة.
وهناك حكاية أخري قديمة تتعلق بالكاتبة الروائية سلوي بكر، عندما كانت مرشحة لعضوية اتحاد الكتاب المصري مع مجموعة من الكتّاب والمبدعين، وكان ضمن المرشحين القاص والناقد الراحل محمد محمود عبد الرازق، وفي اجتماع الجمعية العمومية، أثارت الكاتبة سلوي بكر أمرا كان مثيرا آنذاك، وهو يتعلق بمقال نقدي كتبه عبدالرازق، يشيد فيه بإحدي المجموعات القصصية، والتي كتبها كاتب إسرائيلي، وهو كان مديرا للإذاعة الرسمية في إسرائيل، واعتبرت الكاتبة سلوي بكر أن ذلك لا يسمي إلا بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وبالطبع وقف الكاتب محمود عبدالرازق، مهاجما سلوي بكر بشدة، دون أن يناقشها، أو يطرح وجهة نظر تكون أساسا لأي حوار، وأنهي هجومه عليها في حشد من الجمعية العمومية بأن قال لها :"أنت لا تفهمين في النقد ولا الإبداع، ولكنك تفهمين فقط في وصف البلبل"، مشيرا بذلك إلي رواية سلوي الشهيرة "وصف البلبل"، ومن الواضح طبعا المغزي الذي يقصده محمود عبدالرازق بهذه العبارة، رغم أن سلوي بكر لها إنتاج وفير يدخل في باب "أدب المقاومة".
ولكن النقاد دوما يترصدون الكاتبات، ويتم تجاهل معظم كتاباتهن، ومن الطبيعي أن تحدث إحباطات مهولة تصيب الكاتبات بالفتور الإبداعي، إذا صح التعبير، ومما يدفعهن دوما إلي طرق غير آمنة في الحياة عموما، وليست العزلة التي أصابت البعض مثل نجوي شعبان وسهام بدوي وغيرهما، أو الهجرة التي شملت ميرال الطحاوي وإيمان مرسال وزهرة يسري وصفاء فتحي ومي التلمساني واعتدال عثمان، مهما كانت الذرائع المعلنة والواقعية التي تبدو لنا علي السطح، لأن لو كل الكاتبات كن علي المستوي الطبيعي لتحققهن، ما كانت تلك الهجرات الكثيرة، والتي تندرج تحت لافتات عمل أو منحة دراسية، وغير ذلك من ظواهر استبعادية بشكل أو بآخر، إلا نتيجة لذلك المناخ السائد والمنهار، وهذا ما سوف نعالجه بالتفصيل في الكتاب الذي نعدّه في هذا الأمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.