بسبب سوء الأحوال الجوية.. قرار هام حول موعد الامتحانات بجامعة جنوب الوادي    ننشر المؤشرات الأولية لانتخابات التجديد النصفي بنقابة أطباء الأسنان في القليوبية    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    قبل عودة البنوك غدا.. سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 27 إبريل 2024    مصر ستحصل على 2.4 مليار دولار في غضون 5 أشهر.. تفاصيل    صندوق النقد: مصر ستتلقى نحو 14 مليار دولار من صفقة رأس الحكمة بنهاية أبريل    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    بالصور.. رفع المخلفات والقمامة بعدد من شوارع العمرانية    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    جماعة الحوثي تعلن إسقاط مسيرة أمريكية في أجواء محافظة صعدة    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل    شهداء وجرحى جراء قصف طائرات الاحتلال منزل في مخيم النصيرات وسط غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    قطر تصدر تنبيها عاجلا للقطريين الراغبين في دخول مصر    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    تصرف غير رياضي، شاهد ماذا فعل عمرو السولية مع زملائه بعد استبداله أمام مازيمبي    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    نداي: أهدرنا العديد من الفرص ضد دريمز.. والجماهير تنتظر وصولنا لنهائي الكونفدرالية    كولر: النتيجة لا تعبر عن صعوبة المباراة.. لم أر مثل جمهور الأهلي    عبد القادر: تأهلنا للنهائي بجدارة.. واعتدنا على أجواء اللعب في رادس    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    السيطرة على حريق في منزل بمدينة فرشوط في قنا    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    تعرض للشطر نصفين بالطول.. والدة ضحية سرقة الأعضاء بشبرا تفجر مفاجأة لأول مرة    تعطيل الدراسة وغلق طرق.. خسائر الطقس السيئ في قنا خلال 24 ساعة    الأمن العام يكشف غموض 14 واقعة سرقة ويضبط 10 متهمين بالمحافظات    برازيلية تتلقى صدمة بعد شرائها هاتفي آيفون مصنوعين من الطين.. أغرب قصة احتيال    %90 من الإنترنت بالعالم.. مفاجأة عن «الدارك ويب» المتهم في قضية طفل شبرا الخيمة (فيديو)    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    دينا فؤاد: تكريم الرئيس عن دوري بمسلسل "الاختيار" أجمل لحظات حياتي وأرفض المشاهد "الفجة" لأني سيدة مصرية وعندي بنت    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    طريقة عمل كريب فاهيتا فراخ زي المحلات.. خطوات بسيطة ومذاق شهي    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    بلاغ يصل للشرطة الأمريكية بوجود كائن فضائي بأحد المنازل    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    ناهد السباعي تحتفل بعيد ميلاد والدتها الراحلة    سميرة أحمد: رشحوني قبل سهير البابلي لمدرسة المشاغبين    أخبار الفن| تامر حسني يعتذر ل بدرية طلبة.. انهيار ميار الببلاوي    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غزال يبشر بزلزال...
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 04 - 2016

من الطبيعي أن يكون دمه قد جف. ومن الطبيعي أن يكون اصدقاؤه قد عادوا إلي لغتهم. ومن الطبيعي أن نستعيد قدرة الكلام عنه كما نتحدث عن الانهار التي اخترقتنا وذهبت.
وهذا ما يحدث لي: أيام وأيام أحاول فيها ان أعتاد هذا (الطبيعي) لأكتب عنه في هدوء. ولكنه يطردني عن الورق، فإن حبره لم يجف. هو الذي يمنعني من أن أفي بوعدي، هو الذي يمنعني عن الكتابة.
الكتابة! كم نتساءل: ما هي؟ ونتعثر. ذباب كثير يحط فوق الكلام الجميل. وكأنه الفلسطيني الوحيد الذي أعطي الجواب القاطع الساطع، وكانت الشهادة شهادة، وكأنه أحد النادرين الذين اعطوا الخبر زخم الدم. وفي وسعنا ان نقول: ان غسان كنفاني قد نقل الخبر إلي مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم.
فيه حسم لتعدد اشكال سوء الفهم والتفاهم. وفي كتابته سطوة اليقين. من يتقن قراءته يطرح الاسئلة علي مستويات مختلفة.
هنالك من يعتبر الحياة اتهاما وخيانة، فيثني الكتابة عن فعاليتها لان الحرية لا تأتي بغير الموت!.. ومن هنا، يتحول الموت لدي هؤلاء إلي هدف في حد ذاته. (أنت متهم إلي أن تثبت موتك). داء شاع في حياتنا الفلسطينية. فاتخذ الفاشلون فينا جثث الشهداء متاريس وخنادق وقاعات محاكم. أطلقوا النار علي الذات مرة، وانتظروا رصاص الاعداء، مرة أخري، ليكون معيار الجدارة. هذا الطراز ذاته من النظر إلي الحركة وإلي الاشياء يحول جثة غسان كنفاني إلي قاعدة لاغتيال الكتابة. وهي، بذلك تجرد كاتبنا الكبير من أية قيمة خلاقة عدا الموت.
وهنالك، هنالك من يعطي الكتابة قدسية الانفصال، وشرعية الطلاق عن المغامرة، والاحتيال علي الحياة والخطر. هنالك من يعتبر الكتابة غاية في حد ذاتها.
ولكن غسان كنفاني هو كاتب الحياة. كان يكتب لانه يحيا. وكان يحيا لانه يكتب ويحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني لتكون مكان المستقبل. لم يكن الموت هدفه لانه لم يكن عاجزا عن الحياة في الكتابة، ولانه لم يكن بعيدا عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري التي تبلور حياتها في الصراع، وكان توحده في الفعل الكتابي، والذي يبلغ حد التصوف، نوعا من استرداد حياته في حياة شعبه وصياغتها في مسري الحلم العظيم.
لقد سقط غسان كنفاني في ميدان الصراع. سقط وهو يسيطر علي موقعه الكتابي.. وقد اغتاله الاعداء لانه حل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلا سيعثر علي اداة التعبير عن فاعليته في السلاح. ولذلك، فإن الدفاع عن غسان كنفاني، امام اخطاء من لا يري فيه غير موته، هو دفاع عن الكتابة وعن الحياة.
ويعرف الكاتب الثوري ان اداة التعبير عن فاعليته الاجتماعية تأخذ شكل الكتابة لانها تميزه وسلاحه. وليس بوسع الكتابة ان تحقق أثرها النضالي الا اذا كانت كتابة ناجحة، فالفن الرديء الذي يروج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقل ضررا عن السلاح الرديء. وقد كان غسان كنفاني فعالا ومؤثرا باتقانه مهنة الكتابة، بخصوصيته الفنية الجميلة، وبطريقة توظيفه هذا الجمال. وليس بانقلاب المعادلة.
لن نلتقي به بعد.. لن نسمع مزيدا من تعليقاته الساخرة علي الذين يأتون إلي الكتابة بفضيلة القضية. ولكنه يقتحمنا دائما بقوة كلماته التي لا تموت. كم كتب الفلسطينيون وماتوا. ولكن حبرهم كان يجف مع دمهم. كتابته هو قد تكون هي النادرة النادرة التي تصلح للقراءة بعد العودة من جنازة كاتبها. وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ من غسان كنفاني.
لماذا هو.. لا سواه؟ تلك هي الهدية. ذلك هو النجم. هو الموهوب الذي عرف كيف يربي موهبته وفي أي نهر يضعها.
لقد تمكن غسان كنفاني من أداء دوره، لان له دورا، ولانه مؤهل، فنيا، للقيام بهذا الدور. كان نتاج رحلة العذاب الفلسطيني من السقوط المتمثل في وعاء المخيم حتي الصعود المتمثل في واقعية البندقية. وفي عمله الكتابي الذي مارس من خلاله دوره الاجتماعي والوطني تاريخ الحركة الفلسطينية في قلب فنان. لقد كان ثوريا من حيث هو كاتب ثوري. لم تنتزع هذه الصفة من لحظة الاستشهاد.
كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب. ولكنه كان يعرف أيضا ان قيمة هاتين المسألتين مشروطة، لانتاج الفن، باتقان تطبيق المسألة الاخري: كيف يكتب؟
لم تسلم كتابة غسان من الاتهام حين ارتقي بشكله الكتابي من حالة السكون الوصفي إلي حالة ارقي وأصعب بتأثير تعقد القضية التي تحتويه. ولم تسلم من مواجهة هذا السؤال الابدي: من يفهم هذا الاسلوب؟ لم يكن غسان كنفاني سهلا كما يبدو لقرائه السطحيين. صحيح انه كرس كل طاقته الخلاقة ونشاطه الاجتماعي في خدمة قضيته الكبري. وصحيح ان هذه القضية، بجماهيرها واشكال صراعها، كانت هدفه العظيم. ولكن الكتابة، كقضية، كانت أيضا هاجسه. وان التعامل مع سؤال مثل (قضية الكتابة) جعله قادرا علي التطور الدائم وحيا إلي هذا الحد.
لم يستطع غسان كنفاني ان يكون مؤثرا وفعالا الا لانه كان كاتبا محترفا... حتي في كتابته الصحفية أو اليومية كان شديد الخصوصية والتميز والاتقان. رشيقا ومتوترا كغزال يبشر بزلزال.
كان ممتلئا بحيوية نادرة في هذا الجيل. كان مسكونا بكهرباء لاتنضب. ولم يترك لنشاطه الواعي مجالا واحدا للراحة. لم يقض اجازة لاستعادة قواه بين رواية وأخري، أو عمل وآخر. لم يذهب للامتلاء بالتأمل من أجل تنفيذ عمل كتابي جديد. كان يجدد وقوده الابداعي بتبذير قواه. كان يتزود بالطاقة تلقائيا، فالذاكرة الجماعية لاتستنزف. وكان يستعيد ملء طاقاته بعمليات تفريغها الدائم.
هل كان حقا يشعر بموته المبكر. فأطلق ينابيعه إلي هذه الدرجة من الاسراف؟ هل كان هاجس الموت يستدرجه لصب طاقاته في وقت قصير؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية - البداية دافعا لتناول كل اشكال التعبير من قصة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث، ليسجل دمه علي أصابعنا وذاكرتنا؟ وهل كان يسبق الموت إلي الحياة في الكتابة؟
ربما. وربما كا هذا السباق أحد أجمل تجليات (الانانية) الخلاقة والتفاني في آن واحد. انها شكل نادر من اشكال تحقيق حياته في سياق تبذيرها في حياة الآخرين. وهكذا تتحول أنانية الفنان إلي نهر كريم.
ان الذين عرفوه، عن كثب، كانوا يعرفون مدي حيويته وقدرته الثمينة علي العمل. وكانوا يعرفون ايضا حرصه المرهف علي تحقيق ذاته الفنية. كان يقوم بكل الاعمال العامة طيلة النهار. وفي آخر الليل... في أول الفجر كان يذهب إلي كتابته "الخاصة"، إلي كتابته الفنية، فلم يكن متاحا له ان يتخصص بشكل علني، كان يحترف الكتابة سرا، لماذا؟ لانه فلسطيني.. ببساطة لانه فلسطيني.
لم يقل أحد ان الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم. سأقول: ان الفلسطينيين لا يرحمون ادباءهم. ذلك من فرط ايمانهم بفاعلية الادب الذي قدم لهم، ومنهم، تعويضا عن مهانات، عندما فقدوا كل شيء ولم يملكوا الا كلمات. وذلك لانه استمد منهم القوة ليؤسس لهم العلاقة. نادرا ما يسطو الوطن،كما يسطو علي أدب الفلسطينيين. ولذلك، يدرك الفلسطينيون، وبحق، انهم هم الذين خلقوا ادباءهم.. ولذلك ايضا يطالبونهم دائما بالمواطنية المثالية وبالطاعة الفولاذية، ولا يسمحون لهم ان يكونوا أقل من جنود أو قديسين. ومن هذه العلاقة الصارمة، من هذه المطالبة التي تشل كل شيء يجد الاديب الفلسطيني نفسه "يسرق" حرفة الادب سرا.
وفي النهار عليه أن يمارس اشكالا أخري للتعبير عن التزامه بسلطة الوطن!
هكذا كان غسان كنفاني يغتصب كتابته الفنية من الساعات المخصصة لنومه. ولم تكن الكتابة الا نتاج علاقته بفلسطين - الوطن والحلم والصراع والجماهير والمنفي. كان اكثر من كاتب.. لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف (للتمييز) بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا: كان كاتبا ومناضلا. ليس الامر في مثل هذا التفصيل فقد كان غسان كنفاني كاتبا مناضلا.
كثيرا ما يجابه الكاتب الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام: هل أنت كاتب أم مناضل؟. في مرحلة تاريخية معينة يحدد الكاتب المناضل بأنه الكاتب الذي يعبر عن حركة القوي الثورية.. عن حركة الجديد. وغالبا ما تكون أداة تعبير الكاتب عن اندماجه بقوي الثورة وهي الكتابة. وقد بقي غسان كنفاني مطاردا بهذا السؤال إلي ان بلغ الشهادة، فهزم السؤال وانتصرت كتابة غسان.
كان نشاطه الكتابي متعددا. والطريق التي سفك فيها دمه محرومة من الوصف. لقد رسم جسده الممزق حالات القضية الفلسطينية.. لقد حقق الاسطورة.
كم من صديق رثيت. ولكن لم أحس بأنني أرثي نفسي، فأعيد صياغة حياتي، الا عندما حاولت الامساك بطرف هذا البركان، غسان كنفاني، ماذا بوسعك أن تفعل؟ حقا، ماذا يوسعك ان تفعل؟ هكذا ينقض الكاتب علي نفسه في حضرة الكارثة التي لايردها قلم. ولعل مثل هذه الحالات التي تنتقص من جدوي الكلمة وقوتها في سياق المقارنة مع عناصر الطبيعة أو الفعل الهائل هو الذي خلق، منذ القدم، تقليد عقد المقارنة الظالمة بين الكلمة والفعل. ليس الخطأ، دائما، ان تقدم اجابة مخطئة. أحيانا وفي مثل هذه الحالة بالذات يأتي الخطأ من مجرد طرح هذا السؤال.
وان الموت حادث. ولكن هنالك نوعا من الموت يأخذ شكل الاجابة علي معضلة أو مقارنة. وهكذا يتحول مصرع الكتاب المناضلين إلي دلالات ورموز. وهكذا كان مصرع غسان كنفاني شهادة علي فاعلية الكتابة لا نفيا لها كما يتصور الميكانيكيون والعاجزون امام حركة العلاقات، كهؤلاء الصبية القادمين إلي اسم الثورة من اقاليم العجز والاحباط والقبح، ليصموا عاهاتهم علي الورق وعلي نفسية البشر، فيتهمون الفن بالردة، ويتهمون الحياة بالخيانة.
صديقي غسان! كم من صديق ودعت، ولكن لم أودع مرحلة من حياتي إلا في وداعك الاخير. كان آخر ما أنتظر من كوابيس هو ان أقدم لاعلانك السابق عن وجودي منذ عشر سنين. لقد ولدت قبل ذلك، ولكنك أنت الذي أعلن ميلادي. لم أقل لك: شكرا، فقد كنت أحسب العمر أطول.
الآن نقول: أدب الأرض المحتلة ونسكت!! ولكن الحالة كانت تختلف عامئذ، فقد كنا مجموعة من شباب دون الثلاثين تفتقر إلي أدني مقدمات الرد العملي علي الهزائم التي يعاصرها وعينا وعارنا. كنا نحاول كتابة الشعر دون ان نعي انه شعر، كنا نصرخ، نتوجع، نحتج، فلم نملك اداة تعبير أخري. كانت أغلبية مواطنينا تسخر منا، لانها تعرف طفولتنا ومراهقتنا وصبانا معرفة لايليق بها الاعجاب، صبيان يكتبون شعرا. وكان لقب "شاعر" طموحا قاسيا يعذب. وفي أحسن الاحوال كان بعض المعلمين يقول: مبتدئون لهم مستقبل. حتي العدو نفسه لم يكن يكترث بنا بشكل جاد. وفي الامسيات الشعرية التي كنا نقيمها في القري كان الفضول والاعتبار السياسي وبنات المدرسة هي التي تشجعنا. فقد كان الشعر "المعتبر".. الشعر المقبول، آنئذ لدي الناس والصحف هو الشعر القادم من الخارج.. هو الشعر المصنوع خارج الارض المحتلة. وكانت النجوم الشعرية الرائجة في العالم العربي هي ذاتها الرائجة لدي صحف العدو باستثناءات قليلة. ولم نسأل يومها: كيف يسلك الشعر كل هذه القدرة علي الاحتيال فيكون مطرب الاضداد؟
وبقينا مجهولين..
إلي ان قام غسان كنفاني بعمليته الفدائية الشهيرة: الاعلان عن وجود شعر في الارض المحتلة، فانقلبت العلاقة داخل الارض المحتلة وخارجها، ومشي التطرف إلي نقيضه المتطرف: لا شعر الا في الارض المحتلة!!.
الفضيحة معروفة. ولا أضيف هنا جديدا. وسأعترف بأن شهادتي لاتتمتع بأية قيمة عدا قيمة الاعتراف: نحن الذين كنا نكتب ما سماه غسان "شعر المقاومة" لم نكن نعرف اننا نكتب "شعر مقاومة" وقد دهشت، قبل سواي، بهذا الشغف السياسي بما نكتبه. كل شيء قابل للتفسير كأن نقول: مرحلة تاريخية معينة انفتحت فيها النفسية العربية الجريح علي تقديس كل ما يرد من أرض فلسطين. ولكن.. ولكن بعضنا داخ من اللذة، وبعضنا صار يصمم القصائد لحناجر المذيعين، وبعضنا خاف المسئولية وقلق وبعضنا أدرك انها موجة وتنكسر ولايبقي من هذا الزبد غير الشعر الحقيقي. ويومها.. يومها كتبت: "انقذونا من هذا الحب"..
ولكننا نعرف جيدا ان محاولات الغاء الشعر العربي الثوري كله بواسطة خطب حماسية أو بكائيات يكتبها شباب في الارض المحتلة، قيمتهم الفنية الاساسية هي انهم يعيشون في الارض المحتلة، قيمتهم الفنية الأساسية هي أنهم يعيشون في الأرض المحتلة، ليست من صنع غسان كنفاني.
إن ما فعله غسان هو كسر الحصار المضروب حول أوضاع العرب في الأرض المحتلة، واضاءة كل موضوع صمود يمارسه ابناء الشعب الفلسطيني هناك. وكان الشعر، ولايزال، أحد وسائل التعبير عن هذه المواقع وعن هذا الصمود.
كان اكتشاف العرب بأن العرب في فلسطين المحتلة يتكلمون اللغةالعربية ويحبون بلادهم ويكرهون الظلم اكتشافا مذهلا.. مذهلا حتي الخزي. ومع ذلك اتاح هذا الاكتشاف للصوت العربي القادم من هناك سعادة الاحساس بالانتشار والتغلب علي الاسوار، وكان وعي أصحاب هذا الصوت بوجود من يستمع إليهم حافزا لنموه وتطويره لدي البعض، وعقبة امام تطويره لدي البعض الاخر الذي اكتفي بالجغرافيا موهبة غير قابلة للمناقشة.
لقد دل غسان كنفاني الرأي العام العربي علي ادب الارض المحتلة. واما المبالغات واختلال الموازين فتلك مسألة تخص الذين درسوا ما قدمه غسان، لم تكن لفظة "مقاومة" رائجة في الشعر هناك قبل ان يطلقها غسان عليه. وهكذا أيضا دل المسمي علي اسمه...
واذا كان غسان كنفاني قد شمل، بهذه الصفة، كل من كتب باللغة العربية في الارض المحتلة، فلأن افراحه بما يجد كانت تشمل الكتاب واشباه الكتاب، والمقاومين واللامقاومين، لأن أفراحه كانت تشمل اللغة العربية في فلسطين المحتلة. ولذلك، يمكن لفت الانظار الان إلي ان بعض الاسماء الواردة في مقالات غسان كنفاني عن الادب في الارض المحتلة لا تحتل اكثر من فاصل هامشي في حياة العرب هناك، وبعضها يحتل هامشا سلبيا يتناقض مع تقدير الوهلة الاولي.
وفي الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السر عما يكتبه كتاب الارض المحتلة العرب، كان يدرس نقيض هذه الكتابة واحدي مواد محاوراتها: الكتابة الصهيونية ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين. وبكلمات أخري: كان يدرس فاعلية الكتابة لدي العدو. فقدم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية. وكان بذلك جديدا وكاشفا ورائدا كعادته.
واذا كانت الصورة التي قدمها غسان عن الادب الصهيوني تفتقر إلي تصوير بعض الجوانب المهمة، فذلك يعود إلي اعتماد غسان علي النصوص الانجليزية المختارة من الادب العبري. واذا كانت هذه النصوص المنتقاة وحدها كفيلة بالتدليل علي الدور التدميري للثقافة الصهيونية، فكم ستكون الصورة حالكة حين نطلع علي الاصل العبري الصريح الذي لايراعي متطلبات الحرص علي الرأي العام خارج الوطن المحتل!..
ان دراسة غسان تتمتع بقدرة كبيرة علي التقاط الجوهري وادراك الخصائص الاساسية للادب الصهيوني، وتشكل حافزا لدي دارسي اللغة العبرية لمواصلة خط الكشف الذي اسسه غسان كنفاني.
وقد يكون من المفيد ان نعرف ان الادب الصهيوني هو إحدي وسائل غسل الدماغ الذي يتعرض له طلبتنا العرب في الارض المحتلة. ولذلك فانه يحمل امكانية تشكيل المكونات الثقافية للشاب العربي الواقع تحت الاحتلال، بغض النظر عن اتجاه رد فعله عليه، فهو قد يؤثر في شده إلي مقدمات التعايش علي نمط الحياة الاسرائيلية ومن ثم إلي التخاذل أو التساهل تجاه ادعاء الحق الصهيوني علي أرض فلسطين، ومن ناحية ثانية يؤثر في شده إلي موقع الرفض لكل جوانب الحياة والفكر الصهيونيين.

ويا صديقي غسان!
ان البياض امامي كثير. ودمك الذي لا يجف مازال يلون. لقد ودعت مرحلة من حياتي حين كنت أودعك. جئت ورأيت. ورأيتك كيف تذهب. لقد اتسعت مساحة الارض المحتلة ولم يعد ذلك ميزة. ودورة السجون تدور.. تودع وتستقبل. وكل أرض تري استشهاد ابناء شعبي. ونحن مطاردون في كل مكان. والكاتب ملعون ومتهم بالحياة والكتابة. والوطن هو الوطن ولم تكتب فيه حرفا واحدا. وأين هي الارض غير المحتلة في الكون وأين هي الارض المحتلة في الثورة؟
وياصديقي غسان!
لم تتناول طعام الغداء الاخير. ولم تعتذر عن تأخرك.
تناولت سماعة التليفون لالعنك كالمعتاد: "الساعة الثانية ولم تصل! كف عن هذه العادة السيئة".
ولكنهم قالوا لي: قد انفجر!
والآن، أكتب إليك دون ان اخشي يد كمال ناصر التي خطفت رثائي لك. وقال مازحا: لا تنشر هذا الكلام عن غسان كنفاني. هذا الكلام يليق بي.. وسأقتل قريبا.
كان يمزح؟ نعم. ولكنه انفجر ايضا.
لا أحد يحيا لنفسه كما يشاء.
ولكننا نراك في كل مكان.. تحيا فينا ولنا.. وأنت لا تدري، ولا تعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.