تعاون بين القومي للإعاقة والقومي للطفولة لدعم الأطفال ذوي الإعاقة ورفع وعي المجتمع    بالصور.. جامعة الفيوم تكرم المتفوقين من أبناء أعضاء هيئة التدريس والإداريين    "حافظوا على الحوائط".. رسالة مدير تعليم القاهرة للطلاب قبل العام الجديد    صندوق التنمية الحضرية "500 ألف وحدة سكنية سيتم طرحها خلال المرحلة المقبلة"    السعودية تضخ حزمة استثمارات فى مصر بمجالات السياحة والصناعة والعقارات    اعتمادات مالية جديدة لاستكمال أعمال رصف عدة شوارع في مطروح    مصر والإمارات توقعان 5 مذكرات تفاهم لتعزيز التعاون بقطاع الطيران المدني    وزير الخارجية يبحث مع نظيره السعودي تعزيز التعاون الأمنى و الاقتصادى بين البلدين    لأول مرة.. عمدة لندن يصف الوضع في غزة بالإبادة الجماعية    أمريكا: كشف هوية المشتبه به في حادث مقتل 3 رجال الشرطة في بنسلفانيا    التشكيل الرسمي لمواجهة نيوكاسل يونايتد ضد برشلونة في دوري أبطال أوروبا    بيراميدز يهرب من فخ زد بفوز مثير في الدوري    مباشر مباراة برشلونة ونيوكاسل اليوم (0-0) في دوري أبطال أوروبا 2025-2026    النيران الصديقة تنقذ ليفركوزن من الخسارة في دوري أبطال أوروبا    منتخب مصر للميني فوتبول يكتسح باكستان بثلاثين هدفًا في مونديال السيدات    رسميا.. المقاولون العرب يعلن رفض استقالة مكي من تدريب الفريق    جوردون يقود تشكيل نيوكاسل أمام برشلونة في دوري أبطال أوروبا    حبس عامل بتهمة قتل زوجته ذبحا في الفيوم بسبب خلافات أسرية    رفع الرايات الحمراء.. الإسكندرية تغلق شواطئها الجمعة والسبت بسبب اضطراب البحر    أزمة جديدة تلاحق شيرين عبدالوهاب أمام المحكمة.. ما الاتهامات الموجهة لها؟    أحدث ظهور للفنان عادل إمام رفقة الكاتب الصحفي أكرم السعدني    سلاف فواخرجي تروج لعرض فيلمها «سلمى» بمهرجان بغداد غدا    عودة إلى الجذور    مواقيت الصلاه في المنيا اليوم كل ما تحتاج معرفته    الإعلام وتنمية الأسرة المصرية.. ورشة عمل لتعزيز الوعي بالصحة الإنجابية ورؤية مصر 2030    من أسرة واحدة.. إصابة 4 أشخاص في انقلاب سيارة ملاكي بالإسماعيلية    أحلام الكلب وربيع اليمامة    رئيس «العربية للتصنيع» يبحث مع وزير دفاع جامبيا أوجه التعاون المقترحة    التمثيل العمالي بجدة يبحث مطالب 250 عاملًا مصريًا بشركة مقاولات    الرئيس الكازاخي لوفد أزهري: تجمعني علاقات ود وصداقة بالرئيس السيسي    ما حكم تبديل سلعة بسلعة؟.. أمين الفتوى يجيب    الهولندي أرت لانجيلير مديرًا فنيًّا لقطاع الناشئين في الأهلي    بروتوكول تعاون بين كلية التجارة جامعة أسوان ونادي مستشاري النيابة الإدارية بالقاهرة    الكابينة الفردي ب850 جنيهًا.. مواعيد وأسعار قطارات النوم اليوم الخميس    ليس صلاح.. كيليان مبابي يتوقع الفائز بجائزة الكرة الذهبية    قصة مدينة عملاقة تحت الأرض.. يبلغ عدد سكانها 20 ألف نسمة    «هربانة منهم».. نساء هذه الأبراج الأكثر جنونًا    أمينة خليل بإطلالة أنيقة بالأسود في تكريمها بمهرجان ميدفيست مصر- سر اللوك    ضبط 280 كيلو لحوم فاسدة بأختام مزوّرة في حملة للطب البيطري بسوهاج    سحب 961 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    الإمام الأكبر يكرِّم الطلاب الأوائل في حفظ «الخريدة البهية»    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 18-9-2025 في بني سويف    هل تواجد امرأة في بلكونة المسجد وقت العذر الشرعي يُعتبر جلوسا داخله؟.. أمين الفتوى يوضح    محافظ سوهاج.. يفتتح الكورنيش الغربي بعد التجديد    فيديو.. وزير الصحة: جامعة الجلالة أنشئت في وقت قياسي وبتكليف رئاسي مباشر    سرقتها أخصائية ترميم.. الداخلية تتمكن من ضبط مرتكبى واقعة سرقة أسورة ذهبية من المتحف المصرى    211 مليون دولار إيراد سنوي لرسوم عملهم في مصر 2023 بزيادة 753% عن عام 2014.. تحرير 3676 محضراً خلال 5 أيام لمنشآت لديها أجانب دون تراخيص    ملك إسبانيا في الأقصر.. ننشر جدول الزيارة الكامل    سرداب دشنا.. صور جديدة من مكان التنقيب عن الآثار داخل مكتب صحة بقنا    التأمين الصحي الشامل: 495 جهة حاصلة على الاعتماد متعاقدة مع المنظومة حتى أغسطس 2025    «أنتي بليوشن» تعتزم إنشاء مشروع لمعالجة المخلفات البحرية بإستثمارات 150 مليون دولار    دافعو الضرائب البريطانيون يخسرون 400 مليون جنيه في صندوق إنقاذ للشركات الناشئة خلال كورونا    مصر وروسيا تبحثان سبل التعاون بمجالات التعليم الطبي والسياحة العلاجية    الهلال الأحمر يدفع بأكثر من 80 ألف سلة غذائية للأشقاء الفلسطينيين عبر قافلة «زاد العزة» ال 40    ملك إسبانيا: المتحف الكبير أيقونة مصر السياحية والثقافية الجديدة    نائب وزير الصحة تتفقد وحدة طب الأسرة ومركز تنمية الأسرة بقرية بخانس بقنا    أخبار مصر: اعترافات مثيرة لداهس المسن بسيارة دبلوماسية، سيناريو تنازل الخطيب عن صلاحياته، الذهب يتهاوى وارتفاع سعر الجبن    "أكسيوس": المباحثات الإسرائيلية السورية بشأن اتفاقية أمنية بين البلدين تحرز تقدما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى غسان فلسطين ..رحل مخلفا تراثا للأجيال
نشر في محيط يوم 10 - 07 - 2007


رحل مخلفا تراثا للأجيال

"إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح..و إنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه"
استشهد غسان كنفاني صاحب هذه الكلمات قبل خمس وثلاثين سنة في الثامن من يوليو لعام 1972وعاش ستاً وثلاثين سنة فقط ، استشهد غسان وهو من حمل قنابل الكلمات لا البارود.

محيط: سميرة سليمان
غسان مرتبط باغتصاب فلسطين ، وتذهب حينما تتذكره للإحساس بمعاناة المهاجر من أرضه لخيم الذل والهوان ، حيث اضطر للنزوح مع آلاف الفلسطينيين بعد نكبة 1948 ، كما اضطر للهرب مع عائلته للبنان ، يصف خوفهم أثناء رحلتهم وكيف أيقظه والده ونادي عليه ليأتي معه ويشهد دخول الجيوش العربية إلي فلسطين وكان والده يهتف بصوت مبحوح إلي الجنود الفارين، راكضا وراء سياراتهم المصفحة، ليرمي إليهم صور لبعض الأطفال الفلسطينيين الجوعي والحزاني.
حب فلسطين شهادته الأولي
"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية"
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا الفلسطينية في التاسع من إبريل عام 1936 لأسرة متوسطة، وقد التحق والده بمعهد الحقوق في القدس في ظروف غير عادية إذ كان والده معارضا لذلك ولم يساعده ماليا فما كان منه إلا أن يتكل علي جهده الشخصي لتأمين حياته ودراسته، فكان تارة ينسخ المحاضرات لزملائه وتارة يبيع الزيت الذي يرسله إليه والده إلي أن تخرج كمحام.
غسان هو الوحيد بين أشقائه من مواليد مدينة عكا، فقد كان من عادة أسرته تمضية فترات الإجازة والأعياد في عكا، ويروي عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل إلي سريرها قبل أن تضع وليدها، وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك.
عاش الطفل غسان مأساة اللجوء بكل تداعياتها وويلاتها وأحسها تماما كما الكبار الذين تركوا بلادهم قهرا، فانعكس إحساسه بالظلم علي أدبه فيما بعد، قائلا: أن الإرهاب قد يفجر مكامن الثورة في النفوس، فيموت الخوف الطبيعي وتحل مكانه إرادة جبارة لا تهادن.
كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة الفرير بيافا ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التى بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين.
في عام 1948 أجبر وعائلته على النزوح فعاش في سوريا كلاجىء فلسطيني ثم في لبنان حيث حصل على الجنسية اللبنانية، أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952. في نفس العام التحق بكلية الأدب العربي في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، وانضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه اليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953.
في أواخر عام 1955 التحق للتدريس في المعارف الكويتية وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التى رافقت إقباله الشديد والذي يبدو غير معقول على القراءة وهى التى شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة فكان يقرأ بنهم لا يصدق، كان يقول انه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ستمائة صفحة وكان يقرأ ويستوعب بطريقة مدهشة.
وهناك بدأ يحرر في إحدى صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسياً بتوقيع "أبو العز" ، في الكويت كتب أيضاً أولي قصصه القصيرة "القميص المسروق" التى نال عليها الجائزة الأولي في مسابقة أدبية.
و فى الكويت أيضاً ظهرت عليه بوادر مرض السكري وكانت شقيقته قد أصيبت به من قبل وفي نفس السن المبكرة مما زاده ارتباطاً بها وبالتالي بابنتها الشهيدة لميس نجم التى ولدت عام 1955.
فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها وكانت هى شغوفة بخالها محبة له تعتز بهديته السنوية تتفاخر بها أمام رفيقاتها ولم يتأخر غسان عن ذلك الا فى السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله، عام 1960 حضر غسان إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية .
بالإضافة إلى عمله في مجلة الحرية أخذ يكتب مقالاً أسبوعيا لجريدة "المحرر" اللبنانية لفتت مقالاته الأنظار إليه كصحفي ومفكر وعامل نشيط للقضية الفلسطينية فكان مرجعاً لكثير من المهتمين.
عام 1961 كان يعقد فى يوغوسلافيا مؤتمر طلابي اشتركت فيه فلسطين وكذلك كان هناك وفد دنماركي كان بين أعضاء الوفد الدانمركي فتاة تدعي "آن" كانت متخصصة في تدريس الأطفال، قابلت هذه الفتاة الوفد الفلسطيني ولأول مرة سمعت عن القضية الفلسطينية.
واهتمت الفتاة اثر ذلك بالقضية ورغبت فى الإطلاع عن كثب على المشكلة فشدت رحالها إلى البلاد العربية مرورا بدمشق ثم إلى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية وقام غسان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات وكانت هى شديدة التأثر بحماس غسان للقضية وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج وقام بتعريفها علي عائلته كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها وقد تم زواجهما عام 1961ورزقا بفايز وليلي.
ثم أصبح غسان رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها(ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أصدرت الجبهة جريدة ناطقة باسمها حملت اسم ( الهدف ) وترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقا رسميا باسم الجبهة.
هكذا كان غسان في أعوامه الستة والثلاثين التي عاشها يسابق الوقت في العمل حتي ذهب البعض إلي القول بأن غسان كنفاني " كان يكتب رواية ويكمل رسم لوحة وينهي مقالا ويقرأ روايات ليكتب فيها نقدا أدبيا وكانوا يقولون إن كنفاني واحد من هؤلاء الذين يضاعفون الوقت وهم ينتجون".
كاتب يصنع جيلا
" ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة. وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة.. إن الإنحياز الفني الحقيقي هو: كيف يستطيع الانسان أن يقول الشيء العميق ببساطة ".
وصفه الشاعر الفلسطيني محمود درويش قائلا: " كان الفلسطيني الوحيد الذي أعطى الجواب القاطع الساطع، وكانت الشهادة شهادة، وكأنه أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخم الدم، وفي وسعنا أن نقول أن غسان قد نقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم، كان غسان كنفاني يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب ولكنه كان يعرف أيضا أن قيمة هاتين المسألتين مشروطة لإنتاج الفن بإتقان تطبيق المسألة الأخرى كيف يكتب".

وصف النقاد قصص غسان كنفاني أنها أشبه بالمرايا التي يتقاطع فيها الذاتي مع الموضوعي لتشكل خلفية أساسية لمأساة الشعب الفلسطيني، كان انتاجه غزيرا فمن قصصه ومسرحياته نذكر: "موت سرير رقم 12"، "أرض البرتقال الحزين"، "رجال في الشمس" ، "الباب"، "عالم ليس لنا"، "ما تبقى لكم"، "أم سعد"، "عائد إلي حيفا"، ومن بحوثه الأدبية: " أدب المقامة في فلسطين المحتلة"، "الأدب العربي المقاوم في ظل الاحتلال"، و"في الأدب الصهيوني"، ومن مؤلفاته السياسية: "المقاومة الفلسطينية ومعضلاتها"، بالإضافة إلي مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات التي تعالج جوانب معينة من تاريخ النضال الفلسطيني وحركة التحرر الوطني العربية (سياسياً وفكرياً وتنظيميا).
ارتبط أدب غسان كنفاني بالمقاومة الهادفة إلي تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني ومواجهة عدوانه وارهابه وقتله للفلسطنيين مما جعل الموضوع الرئيس في أبحاثه ورواياته وقصصه ومسرحياته فلسطين التي صارت فيها الحياة إلي العذاب والفناء والموت تحت وطأة الصهاينة أعداء هذه الحياة.
وعن مزايا أدب المقاومة في قصصه يقول النقاد:
أسس كنفاني لقصة المقاومة وطورها فصارت هناك مقاومة فلسطينية، فهو قاص ينهض بالقيم الوطنية والقومية ويعبر عن قلق الوجود والدفاع عن المصير الفلسطيني، وأول هذه الدلالات التعبير عن معاناة الفلسطينيين في المنفي في قصص مجموعته "موت سرير رقم 12" التي تقيم حوارا مع الذات المؤرقة والمعذبة في خضم المشكلات الاجتماعية والسياسية، وثانيها مأساة المنفي الفلسطيني حنينا وعذابا لدي استحضار أرض المأساة الفلسطينية ببعديها الوجودي والتاريخي، وهذا واضح في غالبة قصص مجموعته "عالم ليس لنا"، فأبانت قصة "جدران من الحديد" وجع الاحتضار عند التماثل مع طير صغير سرعان ما كف عن الطيران، وتماثل الوصف الفلسطيني مع الصقور التي لا يهمها أين تموت، أما الغزالات فتحب أن تموت عند أهلها.
ووجد الراوي في قصة "عشرة أمتار فقط" أن ما يجري من وقائع مروعة "لن يصلح العالم قط"، وأظهرت قصة "علبة زجاج واحدة" سجن حياة الفلسطيني بالترميز، "نحن نتحرك داخلها ولكننا لا نغادر.. نحن ننتقل من طابع إلي آخر، ولكننا لا نغادر.." وتداخل الرمز مع الماء في محاولة للخلاص في قصة "الشاطئ" فقد كانت البقعة الجافة تقع علي بعد ذراع واحد فقط، ورغم ذلك فقد كانت تبدو بعيدة جدا بالنسبة للقطة البيضاء التي كانت تقاوم الغرق بصخب وجنون، فيما بدأت الأجواء تقصف بالرعد.
بقراءة أعمال غسان كنفاني الروائية: يتبين لنا خط غسان الاستراتيجي الواضح في رصده حركة الإنسان الفلسطيني بعد عام 1948م، بدءاً بالبحث عن الأمن النفسي والاقتصادي والاستقرار، مروراً بالبحث عن الهوية الضائعة، وانتهاءً بالثورة الفلسطينية المسلحة.
يمكن القول إن شخصيات غسان في روايتيه " رجال في الشمس "، " وما تبقى لكم؟" بينت أن الإنسان لا يمكن أن يعيش في الحياة دون جسر، ومن ثم لا يمكن أن يكون للحياة معنى، إلا بوجود رابط، وإذا فقد الإنسان هذا الجسر، أو الرابط أصبحت حياته مهددة بالموت إذا لم يقم علاقة جيدة بالحياة، ولذا انفصمت عرى الحياة بين أبطال " رجال في الشمس " وبين الواقع القائم لافتقادهم الجسر الذي يربطهم، وأصبح الموت هو البديل الطبيعي لحياتهم كما يرى د. إحسان عباس في دراسته "غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومناضلاً".
وضع غسان كنفاني بطله سعيد في رواية " عائد إلى حيفا " في دائرة مشاعره المضطربة، وهو يرى بيته الذي ينكره لأول مرة بعد عشرين عاماً، ثم يتطور بمشاعره وأفكاره ليتمكن من محاورة الإسرائيلي دوف اليهودي بالتبني أو خلدون ولده وهو على اقتناع بأن ولده خلدون أو دوف سينكره كما أنكرته الأرض.
لقد دفع الكاتب بطله إلى قضية أخرى ساهمت إلى حد كبير في تشكيل رؤية الجانب العربي من الحوار، وهو يرد على دوف الذي لام عليه لأنه تخلى عنه وهو صغير، كما اتهمه بالقصور، لأنه تخلى عن محاولات البحث عنه كغيره من الآباء الذين نزحوا، وتركوا أبناءهم خلفهم، بل رماه بالجبن كما رمى غيره من العرب الذين كفوا عن محاولة العودة. كما أثار دوف في وجهه الإنسان العربي، وذرفه الدموع ليسترد مفقوداً أو ليجترح معجزة تعيد إليه طفلاً أو وطناً.
لقد برهن غسان كنفاني في رواية " أم سعد " إن الإنسان موقف وقضية في دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وبين أن معنى القضية لم يعد مشكلة فردية تتعلق بمنزل، أو شجرة، أو ولد، سواء لإنسان المعتقل، أو لإنسان المنفى.

"أرض البرتقال الحزين"، تحكى قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية، "موت سرير رقم 12"، استوحاها من مكوثه بالمستشفي بسبب المرض.
"رجال في الشمس" استوحاها من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت واثر عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة ووصفها هى تلك الصورة الظاهرية للأحداث أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين فى تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش مثبتاً أنهم قد ضلوا الطريق، فى قصته "ما تبقي لكم"، التي تعتبر مكملة "لرجال في الشمس"، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي.

وتجدر الإشارة إلى أن أبطال أعمال غسان كنفاني الروائية ليسوا أبطالاً بالمفهوم التقليدي، بل كانوا من البسطاء الذين لا يفلسفون الأمور، وبمعنى آخر كانوا من عامة الشعب الفقراء الذين احتك بهم وتعامل معهم غسان كثيرا.
أيضا هناك عدد كبير من المقالات الصحفية التي كان يوقعها بأسماء متعددة ( فارس فارس، غسان كنج، أبو فايز، وغيرها..) إضافة إلي اسمه، وفي تعدد الأسماء كان يكمن توق غسان لمضاعفة الوقت، فتعددها هو تعدد للأعمار كما كان يعتقد.. إذ يبوح لصديقه الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور قائلا: ( ربما كان الاسم الواحد كالعمر الواحد لا يكفي لإخراج كل ما يموج في الداخل ).
أصدر غسان كنفاني ثمانية عشر كتاباً، وكتب مئات المقالات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني، في أعقاب اغتياله تمّت إعادة نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة، وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربعة مجلدات، وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية الى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً، وتمّ إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة، كما تحولت بعض أعماله الروائية إلي أفلام سينمائية، وما زالت أعماله الأدبية التي كتبها بين عامي 1956 و1972 تحظى اليوم بأهمية متزايدة.
على الرغم من أن روايات غسان وقصصه القصيرة ومعظم أعماله الأدبية الأخرى قد كتبت في إطار قضية فلسطين وشعبها فإن مواهبه الأدبية الفريدة أعطتها جاذبية عالمية شاملة، وكثيراً ما كان غسان يردد "الأطفال هم مستقبلنا" لقد كتب الكثير من القصص التي كان أبطالها من الأطفال جعلت منه كما قال جبرا ابراهيم جبرا: "صوتاً من أهم أصوات هذا العصر".
كان غسان كنفاني روائيا محترفا ومبدعا نال عام 1966 جائزة أصدقاء الكتابة في لبنان لأفضل رواية عن روايته "ماتبقي لكم" كما نال جائزة منظمة الصحفيين العالميين عام 1974 وجائزة القوت التي يمنحها اتحد كتاب آسيا وافريقيا عام 1975، ويؤكد النقاد أن رواية "رجال في الشمس" تعتبر الانجاز الأدبي الأكثر تأثيرا في أعمال غسان كنفاني وفيها يحاول أن يبلغ رسالة أن علي الفلسطينيين في جيل المسئولية الراسخة بأن يبقي فلسطينيا وأنه لا بديل عن العودة إلي الوطن وإلي جانبها هناك "عائد إلي حيفا" وتعتبر الرواية الأكثر تأثيرا .
من قصة "إلى أن نعود" :
و أحس و هو يصافح الإنسان الذي ودعه قبل أن يذهب إلى مهمته أنه لا زال في المعركة التي بدأت منذ زمن بعيد..و سمع صوته :
- ماذا؟ هل انتهى كل شيء على ما يرام؟
و هز رأسه في إعياء و عاد يسمع صوت الرئيس:
- هل أنت تعب؟
و هز رأسه نفيا و همس بصوته العميق المجروح:
- هل أعددت مهمة صباح الغد؟
و وصله صوت رئيسه من بعيد:
- و لكنك لا تستطيع أن تتابع غدا.. يجب أن تستريح..
و دون أن يفكر أجاب:
- بل أستطيع..
- إلى متى تحسب أنك تستطيع أن تواصل على هذه الصورة؟
قال و هو يسند رأسه على كيس المتفجرات:
- إلى أن نعود.."
وفي قصة "قرار موجز" عن عبد الجبار.. الذي التحق بالمقاومة بكل كيانه مشحوناً بإرادته ولم يدفع لها دفعاً.. في كل بقعة ومعركة وعلى مدار القصة.. يتلو عبد الجبار قراراته :
قرار موجز : " ليس المهم أن يموت الانسان، قبل أن يحقق فكرته النبيلة، بل المهم أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت.."
قرار موجز : " إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالباً للفهم بل تحتاج للإحساس." .
قرار موجز : " إن الشجاعة هي مقياس الاخلاص .." .
قرار موجز : " إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف ".
قرار موجز : " ليس المهم أن يموت أحداً.. المهم أن تستمروا. ومات ". هكذا ختم عبد الجبار.
وهناك روايات لم تكتمل لغسان كنفاني ومنها "الأعمي والأطرش" وجاء فيها :" أن المعجزة ليست أكثر من الجنين الغريب الذي ينمو في رحم اليأس، ثم يولد في غير توقع من أحد ليُضحي جزءاً من الأشياء، تبدو ثمة ، ناقصة دونه. المعجزة إنما تجترح من القاع".
أيضا من الروايات التي لم تكتمل "برقوق نيسان"، بالإضافة إلي فكرة مكتملة كانت في ذهنه في الفترة الأخيرة لقصة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر فى جراج البناية التى يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر".
حيث لم يستطع الأديب الراحل أن يكملها إلي أن هز انفجار كثيف منزله في الحازمية في شهر يوليو عام1972 حيث انفجرت القنبلة التي زرعت في أسفل سيارته من قبل الموساد ولكن حياة غسان كنفاني ما تزال متواصلة من خلال أعماله، كيف لا وهو صاحب عبارة " بالدم نكتب لفلسطين".
لا تمت قبل أن تكون ندا!
"إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين".
كان مسرح الانفجار منطقة الحازمية، عندما كان غسان كنفاني يدير محرك سيارته. تناثرت أشلاؤه. اختلطت أشلاؤه بأشلاء ابنة اخته لميس التي كانت قد استقرت الى جانبه. عثر على جزء من يده على سطح إحدى الأبنية المجاورة. لم يكن الهدف قتله فقط، بل بتر يده بالتحديد تلك اليد التي كتبت تندد بالاحتلال والمحتلين.

اعترفت إسرائيل رسميا بغطرسة ووحشية بأنها هي التي اغتالت الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث قام مجرمو "الموساد" بزرع عبوة ناسفة في سيارته عام 1972.
جاء الاعتراف الرسمي الاسرائيلي بارتكاب جريمة الاغتيال في مقال نشره ايتان هابر مدير مكتب اسحاق رابين في يديعوت احرونوت الصادرة عام 2005 وكشف المسئول الإسرائيلي السابق أسرار العديد من جرائم الاغتيالات الوحشية التي نفذتها اسرائيل .
علي الرغم من استشهاد غسان عن عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين ومشوار طويل ومرير مع المرض..فقد ترك أضعاف ما تستوعبه تلك السنين القليلة.. ترك مشاعل مضيئة مازالت تغوص في معانيها أقلام وعقول أكثر من أن تحصي.
كان غسان يستقيظ كل صباح علي صوت ينبعث من داخله يقول : "لك شئ في هذا العالم فقم" أعرفته! وبهذا كان يعايش التحدي والبحث المتواصل عن وطن وسماء حرة للكلمات الطليقة بحث في أعماق الكلمات عله يجد تفسيرا لللغز الغريب والذي يجعل من فلسطين جمرة نار تحرقه وتعذبه وهو في المقابل يبادلها حبا متفردا المعاني.
إن غسان رحل عنا بالصورة الحية لكنه ما زال شامخا في زمن الأقزام لنحيي ذكره في قلوبنا وقلوب الأجيال القادمة ولتكن ذكراه شمسا تضئ سماءنا السوداء، ولا ننسي قوله " لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي..أو أقتلع من السماء جنتها..أو أموت أو نموت معا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.