«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى غسان فلسطين..رحل مخلفا تراثا للأجيال
نشر في محيط يوم 08 - 07 - 2008


رحل مخلفا تراثا للأجيال
محيط - سميرة سليمان
غسان كنفاني
"إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح..وإنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه"
استشهد غسان كنفاني صاحب هذه الكلمات قبل خمس وثلاثين سنة في الثامن من يوليو لعام 1972وعاش ستاً وثلاثين سنة فقط ، استشهد غسان وهو من حمل قنابل الكلمات لا البارود.

غسان مرتبط باغتصاب فلسطين ، وتذهب حينما تتذكره للإحساس بمعاناة المهاجر من أرضه لخيم الذل والهوان ، حيث اضطر للنزوح مع آلاف الفلسطينيين بعد نكبة 1948 ، كما اضطر للهرب مع عائلته للبنان ، يصف خوفهم أثناء رحلتهم وكيف أيقظه والده ونادي عليه ليأتي معه ويشهد دخول الجيوش العربية إلي فلسطين وكان والده يهتف بصوت مبحوح إلي الجنود الفارين، راكضا وراء سياراتهم المصفحة، ليرمي إليهم صور لبعض الأطفال الفلسطينيين الجوعي والحزاني.
حب فلسطين شهادته الأولي
"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية"
ولد غسان كنفاني في مدينة عكا الفلسطينية في التاسع من إبريل عام 1936 لأسرة متوسطة، وقد التحق والده بمعهد الحقوق في القدس في ظروف غير عادية إذ كان والده معارضا لذلك ولم يساعده ماليا فما كان منه إلا أن يتكل علي جهده الشخصي لتأمين حياته ودراسته، فكان تارة ينسخ المحاضرات لزملائه وتارة يبيع الزيت الذي يرسله إليه والده إلي أن تخرج كمحام.
غسان هو الوحيد بين أشقائه من مواليد مدينة عكا، فقد كان من عادة أسرته تمضية فترات الإجازة والأعياد في عكا، ويروي عن ولادته أن أمه حين جاءها المخاض لم تستطع أن تصل إلي سريرها قبل أن تضع وليدها، وكاد الوليد يختنق بسبب ذلك.
كانت فلسطين قضيته الأولى
عاش الطفل غسان مأساة اللجوء بكل تداعياتها وويلاتها وأحسها تماما كما الكبار الذين تركوا بلادهم قهرا، فانعكس إحساسه بالظلم علي أدبه فيما بعد، قائلا: أن الإرهاب قد يفجر مكامن الثورة في النفوس، فيموت الخوف الطبيعي وتحل مكانه إرادة جبارة لا تهادن.
كان من نصيب غسان الالتحاق بمدرسة الفرير بيافا ولم تستمر دراسته الابتدائية هذه سوى بضع سنوات فقد كانت أسرته تعيش في حي المنشية بيافا وهو الحي الملاصق لتل أبيب وقد شهد أولى حوادث الاحتكاك بين العرب واليهود التى بدأت هناك إثر قرار تقسيم فلسطين.
في عام 1948 أجبر وعائلته على النزوح فعاش في سوريا كلاجىء فلسطيني ثم في لبنان حيث حصل على الجنسية اللبنانية، أكمل دراسته الثانوية في دمشق وحصل على شهادة البكالوريا السورية عام 1952. في نفس العام التحق بكلية الأدب العربي في جامعة دمشق ولكنه انقطع عن الدراسة في نهاية السنة الثانية، وانضم إلى حركة القوميين العرب التي ضمه اليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953.
في أواخر عام 1955 التحق للتدريس في المعارف الكويتية وفترة إقامته في الكويت كانت المرحلة التى رافقت إقباله الشديد والذي يبدو غير معقول على القراءة وهى التى شحنت حياته الفكرية بدفقة كبيرة فكان يقرأ بنهم لا يصدق، كان يقول انه لا يذكر يوماً نام فيه دون أن ينهي قراءة كتاب كامل أو ما لا يقل عن ستمائة صفحة وكان يقرأ ويستوعب بطريقة مدهشة.
وهناك بدأ يحرر في إحدى صحف الكويت ويكتب تعليقا سياسياً بتوقيع "أبو العز" ، في الكويت كتب أيضاً أولي قصصه القصيرة "القميص المسروق" التى نال عليها الجائزة الأولي في مسابقة أدبية.
و فى الكويت أيضاً ظهرت عليه بوادر مرض السكري وكانت شقيقته قد أصيبت به من قبل وفي نفس السن المبكرة مما زاده ارتباطاً بها وبالتالي بابنتها الشهيدة لميس نجم التى ولدت عام 1955.
فأخذ غسان يحضر للميس في كل عام مجموعة من أعماله الأدبية والفنية ويهديها لها وكانت هى شغوفة بخالها محبة له تعتز بهديته السنوية تتفاخر بها أمام رفيقاتها ولم يتأخر غسان عن ذلك الا فى السنوات الأخيرة بسبب ضغط عمله، عام 1960 حضر غسان إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية .
بالإضافة إلى عمله في مجلة الحرية أخذ يكتب مقالاً أسبوعيا لجريدة "المحرر" اللبنانية لفتت مقالاته الأنظار إليه كصحفي ومفكر وعامل نشيط للقضية الفلسطينية فكان مرجعاً لكثير من المهتمين.
عام 1961 كان يعقد فى يوغوسلافيا مؤتمر طلابي اشتركت فيه فلسطين وكذلك كان هناك وفد دنماركي كان بين أعضاء الوفد الدانمركي فتاة تدعي "آن" كانت متخصصة في تدريس الأطفال، قابلت هذه الفتاة الوفد الفلسطيني ولأول مرة سمعت عن القضية الفلسطينية.
واهتمت الفتاة اثر ذلك بالقضية ورغبت فى الإطلاع عن كثب على المشكلة فشدت رحالها إلى البلاد العربية مرورا بدمشق ثم إلى بيروت حيث أوفدها أحدهم لمقابلة غسان كنفاني كمرجع للقضية وقام غسان بشرح الموضوع للفتاة وزار وإياها المخيمات وكانت هى شديدة التأثر بحماس غسان للقضية وكذلك بالظلم الواقع على هذا الشعب ولم تمض على ذلك عشرة أيام إلا وكان غسان يطلب يدها للزواج وقام بتعريفها علي عائلته كما قامت هي بالكتابة إلى أهلها وقد تم زواجهما عام 1961ورزقا بفايز وليلي.
ثم أصبح غسان رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها(ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أصدرت الجبهة جريدة ناطقة باسمها حملت اسم ( الهدف ) وترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقا رسميا باسم الجبهة.
هكذا كان غسان في أعوامه الستة والثلاثين التي عاشها يسابق الوقت في العمل حتي ذهب البعض إلي القول بأن غسان كنفاني " كان يكتب رواية ويكمل رسم لوحة وينهي مقالا ويقرأ روايات ليكتب فيها نقدا أدبيا وكانوا يقولون إن كنفاني واحد من هؤلاء الذين يضاعفون الوقت وهم ينتجون".
كاتب يصنع جيلا
" ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة. وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة.. إن الإنحياز الفني الحقيقي هو: كيف يستطيع الانسان أن يقول الشيء العميق ببساطة ".
وصفه الشاعر الفلسطيني محمود درويش قائلا: " كان الفلسطيني الوحيد الذي أعطى الجواب القاطع الساطع، وكانت الشهادة شهادة، وكأنه أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخم الدم، وفي وسعنا أن نقول أن غسان قد نقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم، كان غسان كنفاني يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب ولكنه كان يعرف أيضا أن قيمة هاتين المسألتين مشروطة لإنتاج الفن بإتقان تطبيق المسألة الأخرى كيف يكتب".
كاتب وهب القضية حياته

وصف النقاد قصص غسان كنفاني أنها أشبه بالمرايا التي يتقاطع فيها الذاتي مع الموضوعي لتشكل خلفية أساسية لمأساة الشعب الفلسطيني، كان انتاجه غزيرا فمن قصصه ومسرحياته نذكر: "موت سرير رقم 12"، "أرض البرتقال الحزين"، "رجال في الشمس" ، "الباب"، "عالم ليس لنا"، "ما تبقى لكم"، "أم سعد"، "عائد إلي حيفا"، ومن بحوثه الأدبية: " أدب المقامة في فلسطين المحتلة"، "الأدب العربي المقاوم في ظل الاحتلال"، و"في الأدب الصهيوني"، ومن مؤلفاته السياسية: "المقاومة الفلسطينية ومعضلاتها"، بالإضافة إلي مجموعة كبيرة من الدراسات والمقالات التي تعالج جوانب معينة من تاريخ النضال الفلسطيني وحركة التحرر الوطني العربية (سياسياً وفكرياً وتنظيميا).
ارتبط أدب غسان كنفاني بالمقاومة الهادفة إلي تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني ومواجهة عدوانه وارهابه وقتله للفلسطنيين مما جعل الموضوع الرئيس في أبحاثه ورواياته وقصصه ومسرحياته فلسطين التي صارت فيها الحياة إلي العذاب والفناء والموت تحت وطأة الصهاينة أعداء هذه الحياة.
وعن مزايا أدب المقاومة في قصصه يقول النقاد:
أسس كنفاني لقصة المقاومة وطورها فصارت هناك مقاومة فلسطينية، فهو قاص ينهض بالقيم الوطنية والقومية ويعبر عن قلق الوجود والدفاع عن المصير الفلسطيني، وأول هذه الدلالات التعبير عن معاناة الفلسطينيين في المنفي في قصص مجموعته "موت سرير رقم 12" التي تقيم حوارا مع الذات المؤرقة والمعذبة في خضم المشكلات الاجتماعية والسياسية، وثانيها مأساة المنفي الفلسطيني حنينا وعذابا لدي استحضار أرض المأساة الفلسطينية ببعديها الوجودي والتاريخي، وهذا واضح في غالبة قصص مجموعته "عالم ليس لنا"، فأبانت قصة "جدران من الحديد" وجع الاحتضار عند التماثل مع طير صغير سرعان ما كف عن الطيران، وتماثل الوصف الفلسطيني مع الصقور التي لا يهمها أين تموت، أما الغزالات فتحب أن تموت عند أهلها.
ووجد الراوي في قصة "عشرة أمتار فقط" أن ما يجري من وقائع مروعة "لن يصلح العالم قط"، وأظهرت قصة "علبة زجاج واحدة" سجن حياة الفلسطيني بالترميز، "نحن نتحرك داخلها ولكننا لا نغادر.. نحن ننتقل من طابع إلي آخر، ولكننا لا نغادر.." وتداخل الرمز مع الماء في محاولة للخلاص في قصة "الشاطئ" فقد كانت البقعة الجافة تقع علي بعد ذراع واحد فقط، ورغم ذلك فقد كانت تبدو بعيدة جدا بالنسبة للقطة البيضاء التي كانت تقاوم الغرق بصخب وجنون، فيما بدأت الأجواء تقصف بالرعد.
بقراءة أعمال غسان كنفاني الروائية: يتبين لنا خط غسان الاستراتيجي الواضح في رصده حركة الإنسان الفلسطيني بعد عام 1948م، بدءاً بالبحث عن الأمن النفسي والاقتصادي والاستقرار، مروراً بالبحث عن الهوية الضائعة، وانتهاءً بالثورة الفلسطينية المسلحة.
يمكن القول إن شخصيات غسان في روايتيه " رجال في الشمس "، " وما تبقى لكم؟" بينت أن الإنسان لا يمكن أن يعيش في الحياة دون جسر، ومن ثم لا يمكن أن يكون للحياة معنى، إلا بوجود رابط، وإذا فقد الإنسان هذا الجسر، أو الرابط أصبحت حياته مهددة بالموت إذا لم يقم علاقة جيدة بالحياة، ولذا انفصمت عرى الحياة بين أبطال " رجال في الشمس " وبين الواقع القائم لافتقادهم الجسر الذي يربطهم، وأصبح الموت هو البديل الطبيعي لحياتهم كما يرى د. إحسان عباس في دراسته "غسان كنفاني إنساناً وأديباً ومناضلاً".
وضع غسان كنفاني بطله سعيد في رواية " عائد إلى حيفا " في دائرة مشاعره المضطربة، وهو يرى بيته الذي ينكره لأول مرة بعد عشرين عاماً، ثم يتطور بمشاعره وأفكاره ليتمكن من محاورة الإسرائيلي دوف اليهودي بالتبني أو خلدون ولده وهو على اقتناع بأن ولده خلدون أو دوف سينكره كما أنكرته الأرض.
لقد دفع الكاتب بطله إلى قضية أخرى ساهمت إلى حد كبير في تشكيل رؤية الجانب العربي من الحوار، وهو يرد على دوف الذي لام عليه لأنه تخلى عنه وهو صغير، كما اتهمه بالقصور، لأنه تخلى عن محاولات البحث عنه كغيره من الآباء الذين نزحوا، وتركوا أبناءهم خلفهم، بل رماه بالجبن كما رمى غيره من العرب الذين كفوا عن محاولة العودة. كما أثار دوف في وجهه الإنسان العربي، وذرفه الدموع ليسترد مفقوداً أو ليجترح معجزة تعيد إليه طفلاً أو وطناً.
لقد برهن غسان كنفاني في رواية " أم سعد " إن الإنسان موقف وقضية في دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، وبين أن معنى القضية لم يعد مشكلة فردية تتعلق بمنزل، أو شجرة، أو ولد، سواء لإنسان المعتقل، أو لإنسان المنفى.
أرض البرتقال الحزين
"أرض البرتقال الحزين"، تحكى قصة رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية، "موت سرير رقم 12"، استوحاها من مكوثه بالمستشفي بسبب المرض.
"رجال في الشمس" استوحاها من حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت واثر عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة ووصفها هى تلك الصورة الظاهرية للأحداث أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين فى تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش مثبتاً أنهم قد ضلوا الطريق، فى قصته "ما تبقي لكم"، التي تعتبر مكملة "لرجال في الشمس"، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي.

وتجدر الإشارة إلى أن أبطال أعمال غسان كنفاني الروائية ليسوا أبطالاً بالمفهوم التقليدي، بل كانوا من البسطاء الذين لا يفلسفون الأمور، وبمعنى آخر كانوا من عامة الشعب الفقراء الذين احتك بهم وتعامل معهم غسان كثيرا.
أيضا هناك عدد كبير من المقالات الصحفية التي كان يوقعها بأسماء متعددة ( فارس فارس، غسان كنج، أبو فايز، وغيرها..) إضافة إلي اسمه، وفي تعدد الأسماء كان يكمن توق غسان لمضاعفة الوقت، فتعددها هو تعدد للأعمار كما كان يعتقد.. إذ يبوح لصديقه الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور قائلا: ( ربما كان الاسم الواحد كالعمر الواحد لا يكفي لإخراج كل ما يموج في الداخل ).
أصدر غسان كنفاني ثمانية عشر كتاباً، وكتب مئات المقالات في الثقافة والسياسة وكفاح الشعب الفلسطيني، في أعقاب اغتياله تمّت إعادة نشر جميع مؤلفاته بالعربية، في طبعات عديدة، وجمعت رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ومقالاته ونشرت في أربعة مجلدات، وتُرجمت معظم أعمال غسان الأدبية الى سبع عشرة لغة ونُشرت في أكثر من 20 بلداً، وتمّ إخراج بعضها في أعمال مسرحية وبرامج إذاعية في بلدان عربية وأجنبية عدة، كما تحولت بعض أعماله الروائية إلي أفلام سينمائية، وما زالت أعماله الأدبية التي كتبها بين عامي 1956 و1972 تحظى اليوم بأهمية متزايدة.
على الرغم من أن روايات غسان وقصصه القصيرة ومعظم أعماله الأدبية الأخرى قد كتبت في إطار قضية فلسطين وشعبها فإن مواهبه الأدبية الفريدة أعطتها جاذبية عالمية شاملة، وكثيراً ما كان غسان يردد "الأطفال هم مستقبلنا" لقد كتب الكثير من القصص التي كان أبطالها من الأطفال جعلت منه كما قال جبرا ابراهيم جبرا: "صوتاً من أهم أصوات هذا العصر".
كان غسان كنفاني روائيا محترفا ومبدعا نال عام 1966 جائزة أصدقاء الكتابة في لبنان لأفضل رواية عن روايته "ماتبقي لكم" كما نال جائزة منظمة الصحفيين العالميين عام 1974 وجائزة القوت التي يمنحها اتحد كتاب آسيا وافريقيا عام 1975، ويؤكد النقاد أن رواية "رجال في الشمس" تعتبر الانجاز الأدبي الأكثر تأثيرا في أعمال غسان كنفاني وفيها يحاول أن يبلغ رسالة أن علي الفلسطينيين في جيل المسئولية الراسخة بأن يبقي فلسطينيا وأنه لا بديل عن العودة إلي الوطن وإلي جانبها هناك "عائد إلي حيفا" وتعتبر الرواية الأكثر تأثيرا .
من قصة "إلى أن نعود"
و أحس و هو يصافح الإنسان الذي ودعه قبل أن يذهب إلى مهمته أنه لا زال في المعركة التي بدأت منذ زمن بعيد..و سمع صوته :
- ماذا؟ هل انتهى كل شيء على ما يرام؟
و هز رأسه في إعياء و عاد يسمع صوت الرئيس:
- هل أنت تعب؟
و هز رأسه نفيا و همس بصوته العميق المجروح:
- هل أعددت مهمة صباح الغد؟
و وصله صوت رئيسه من بعيد:
- و لكنك لا تستطيع أن تتابع غدا.. يجب أن تستريح..
و دون أن يفكر أجاب:
- بل أستطيع..
- إلى متى تحسب أنك تستطيع أن تواصل على هذه الصورة؟
قال و هو يسند رأسه على كيس المتفجرات:
- إلى أن نعود.."
قرار موجز
وفي قصة "قرار موجز" عن عبد الجبار.. الذي التحق بالمقاومة بكل كيانه مشحوناً بإرادته ولم يدفع لها دفعاً.. في كل بقعة ومعركة وعلى مدار القصة.. يتلو عبد الجبار قراراته :
قرار موجز : " ليس المهم أن يموت الانسان، قبل أن يحقق فكرته النبيلة، بل المهم أن يجد لنفسه فكرة نبيلة قبل أن يموت.."
قرار موجز : " إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالباً للفهم بل تحتاج للإحساس." .
قرار موجز : " إن الشجاعة هي مقياس الاخلاص .." .
قرار موجز : " إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف ".
قرار موجز : " ليس المهم أن يموت أحداً.. المهم أن تستمروا. ومات ". هكذا ختم عبد الجبار.
وهناك روايات لم تكتمل لغسان كنفاني ومنها "الأعمي والأطرش" وجاء فيها :" أن المعجزة ليست أكثر من الجنين الغريب الذي ينمو في رحم اليأس، ثم يولد في غير توقع من أحد ليُضحي جزءاً من الأشياء، تبدو ثمة ، ناقصة دونه. المعجزة إنما تجترح من القاع".
أيضا من الروايات التي لم تكتمل "برقوق نيسان"، بالإضافة إلي فكرة مكتملة كانت في ذهنه في الفترة الأخيرة لقصة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر فى جراج البناية التى يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر".
حيث لم يستطع الأديب الراحل أن يكملها إلي أن هز انفجار كثيف منزله في الحازمية في شهر يوليو عام1972 حيث انفجرت القنبلة التي زرعت في أسفل سيارته من قبل الموساد ولكن حياة غسان كنفاني ما تزال متواصلة من خلال أعماله، كيف لا وهو صاحب عبارة " بالدم نكتب لفلسطين".
لا تمت قبل أن تكون ندا!
"إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين".
كان مسرح الانفجار منطقة الحازمية، عندما كان غسان كنفاني يدير محرك سيارته. تناثرت أشلاؤه. اختلطت أشلاؤه بأشلاء ابنة اخته لميس التي كانت قد استقرت الى جانبه. عثر على جزء من يده على سطح إحدى الأبنية المجاورة. لم يكن الهدف قتله فقط، بل بتر يده بالتحديد تلك اليد التي كتبت تندد بالاحتلال والمحتلين.

اعترفت إسرائيل رسميا بغطرسة ووحشية بأنها هي التي اغتالت الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث قام مجرمو "الموساد" بزرع عبوة ناسفة في سيارته عام 1972.
جاء الاعتراف الرسمي الاسرائيلي بارتكاب جريمة الاغتيال في مقال نشره ايتان هابر مدير مكتب اسحاق رابين في يديعوت احرونوت الصادرة عام 2005 وكشف المسئول الإسرائيلي السابق أسرار العديد من جرائم الاغتيالات الوحشية التي نفذتها اسرائيل .
علي الرغم من استشهاد غسان عن عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين ومشوار طويل ومرير مع المرض..فقد ترك أضعاف ما تستوعبه تلك السنين القليلة.. ترك مشاعل مضيئة مازالت تغوص في معانيها أقلام وعقول أكثر من أن تحصي.
كان غسان يستقيظ كل صباح علي صوت ينبعث من داخله يقول : "لك شئ في هذا العالم فقم" أعرفته! وبهذا كان يعايش التحدي والبحث المتواصل عن وطن وسماء حرة للكلمات الطليقة بحث في أعماق الكلمات عله يجد تفسيرا لللغز الغريب والذي يجعل من فلسطين جمرة نار تحرقه وتعذبه وهو في المقابل يبادلها حبا متفردا المعاني.
إن غسان رحل عنا بالصورة الحية لكنه ما زال شامخا في زمن الأقزام لنحيي ذكره في قلوبنا وقلوب الأجيال القادمة ولتكن ذكراه شمسا تضئ سماءنا السوداء، ولا ننسي قوله " لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي..أو أقتلع من السماء جنتها..أو أموت أو نموت معا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.