سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات الصباحية السبت 4 مايو 2024    المالية: الانتهاء من إعداد وثيقة السياسات الضريبية المقترحة لمصر    إزالة فورية لحالتي تعد بالبناء المخالف في التل الكبير بالإسماعيلية    بلينكن: حماس عقبة بين سكان غزة ووقف إطلاق النار واجتياح رفح أضراره تتجاوز حدود المقبول    الحوثيون يعلنون بدء المرحلة الرابعة من التصعيد ضد إسرائيل    لاعبو فريق هولندي يتبرعون برواتبهم لإنقاذ النادي    تشكيل مانشستر سيتي المتوقع أمام وولفرهامبتون    نظراً لارتفاع الأمواج.. الأرصاد توجه تحذير للمواطنين    إصابة 15 شخصًا في حادث سيارة ربع نقل بالمنيا    بعدما راسل "ناسا"، جزائري يهدي عروسه نجمة في السماء يثير ضجة كبيرة (فيديو)    حدث ليلا.. خسارة إسرائيل وهدنة مرتقبة بغزة والعالم يندفع نحو «حرب عالمية ثالثة»    أسعار اللحوم والدواجن والخضروات والفواكه اليوم السبت 4 مايو    اليوم، تطبيق أسعار سيارات ميتسوبيشي الجديدة في مصر    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    إغماء ريم أحمد فى عزاء والدتها بمسجد الحامدية الشاذلية    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    استقرار سعر السكر والأرز والسلع الأساسية بالأسواق في بداية الأسبوع السبت 4 مايو 2024    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إلياس سحاب: غسان كنفاني.. صحافي يبحث عن فلسطين
نشر في البديل يوم 08 - 07 - 2015

للصحافة في كل عصر، وفي كل بلد، "مدرسة" يتخرج منها صحافيو ذلك البلد البارزون، في فترة ما. فصحافة فرنسا في الخمسينيات والستينيات مثلا تخرج صحافيوها البارزون من أجواء معركة تحرير فرنسا من جحافل هتلر. ففترة الاحتلال الألماني لفرنسا، كانت هي المدرسة الوطنية والسياسية الكبرى التي فرزت "المقاومين" عن "المتعاونين" في كل الميادين، بما في ذلك ميدان الصحافة. وعلى أساس هذا الفرز، ألغيت امتيازات صحافية قديمة، وصدرت امتيازات جديدة. فكان فرسان الصحافة الفرنسية الجديدة في الجمهورية الرابعة، بالذات، هم من فرسان المقاومة الفرنسية الوطنية ضد الاحتلال النازي.
وعلى نفس المنوال، بشكل أو بآخر، كانت الصحافة العربية تتلقى فرسانها البارزين في كل فترة من ساحة من الساحات. ففي فترة كان تيار الصحوة القومية المبكرة، في أواخر أيام الإمبراطورية العثمانية هو الذي يغذي الصحافة العربية بفرسانها البارزين. وفي فترة تالية، كانت المعارك الأدبية والفكرية هي المدرسة التي يتدفق منها الكتاب على الصحافة. وبعد ذلك، كانت معارك الاستقلال ضد فرنسا وإنكلترا، هي التي وضعت بصماتها على الصحافة والصحافيين، سواء في ذلك "المقاومون" منهم أو "المتعاونون".
وفي أواخر الخمسينيات، كان الشباب العربي الذي وصل الى أواخر العقد الثاني أو أوائل العقد الثالث من عمره، قد تشرب في عقله وإحساسه وجلده، سلسلة من الأحداث التاريخية الكبرى المتناقضة. ففي الوقت الذي تشرب فيه بدرجة أو بأخرى، ذكريات فقدان الوطن، بعقل عجز الحكام عن مجرد التفكير بتحدي السلطة الأجنبية، رأى بأم عينيه، وسمع ملء أذنيه، وعايش بكل أحاسيسه، الحاكم الذي يقول للاستعمار لا، في قضايا بالغة الحساسية، وينجح، مرة في تجسيد آراء الجماهير الكادحة البسيطة، ومرة في فرض هذه الإرادة فرضا نهائيا ثابتا.
وبينما كانت الوحدة العربية بالنسبة للأجيال السابقة أناشيد تردد في المدارس، قدر لجيل الخمسينيات أن يسير في مواكبها، ويرافق أيامها وسنواتها التاريخية، لحظة بلحظة.
لقد لخص أحد أبناء جيل ما قبل الخمسينيات الكثافة والعمق الوجداني لهذه الفترة الفريدة في التاريخ العربي المعاصر، بقوله لولده ما معناه: "يا ولدي، لقد كان الواحد منا مقهورا بالذل أمام الأجنبي، لدرجة أنه كان مستعدا ليدفع عمره ثمنا ليوم عز واحد. وها أنتم تعيشون وقفات العز، يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة. ليتكم عانيتم بعض ما عانينا، لتعرفوا قيمة ما أنتم فيه اليوم".
صحافة الخمسينيات والستينيات
من هذه الأرض الرجراجة الفوارة الواعدة، انطلقت جحافل جيل الخمسينيات والستينيات من الشباب العربي، في حلقة مرارة الماضي، وفي يديه زمام الحاضر، وأمام عينيه كل احتمالات المستقبل. من هنا كان أبناء هذا الجيل ينطلقون في صفوف تميزها الحماسة، قدر ما تميزها الفوضى، ويميزها الإصرار قدر ما يميزها الاندفاع، ويميزها الحب الكبير للمستقبل قدر ما يميزها البغض الكبير للماضي، يميزها التسامح كما تميزها الحدة. فهو جيل لديه كلام كبير بقوله، وعواطف كبيرة يعبر عنها، ولكن أدواته ما تزال بدائية، طرية العود. يريد أن يحتضن الدنيا بأسرها، ولكن ذراعيه صغيرتان. يريد أن يركض بأقصى سرعته، ولكن قوى الشر كانت قد زرعت طريقه، سلفا، بكل أنواع الألغام، المنظور منها وغير المنظور. بين صفوف هؤلاء المندفعين، كان شاب نحيل العود مشدود العصب متوتر المزاج. هاجر مع من هاجروا من فلسطين واستقر فترة في دمشق، يدرس ويدرّس، وسافر مع من سافروا الى الخليج (الكويت) طلبا للرزق، واستقر، أخيرا، مع من استقروا في بيروت، حيث ميدان التحدي فسيح أمام كل من يجد في نفسه القدرة على اقتحامه، وإيجاد موطئ قدم فيه.
في هذه الفترة، كانت الصحافة اللبنانية (أو بتعبير أدق الصحافة في لبنان) تشهد طفرة جديدة، بعد أن كانت صحافة العهد الاستقلالي الأول قد أعطت كل ما عندها، وبدأت نجومها تخبو، نجما بعد آخر، وبدأت قدراتها وتطلعاتها أعجز من أن تستوعب المد العارم، الذي أغرق إمبراطوريتي الاستعمار القديم (فرنسا وبريطانيا) في مياه السويس، فانفتحت أبواب الصحافة أمام الجيل الجديد المندفع المتلهف، الذي يحس أنه، أخيرا، أمسك بمصير أمته بين يديه.
هذه الفترة الصحافية تميزت بنوع من الصحافيين كان غسان كنفاني نموذجا متألقا من نماذجهم.
كانت الصحافة، في لبنان بالذات، تمر بمرحلة وسطى بين الكتابة الذاتية المطلقة، حيث اسم الكاتب هو عنوان المقال الصحافي، وانطباعاته الشخصية عن أي شيء هي المادة الصحافية الرئيسية، وبين الكتابة المتخصصة، التي نعرفها اليوم، حيث نجد التخصصات المتعددة حتى في إطار الموضوع الواحد، ففي المقال السياسي، تتفرع التخصصات بين السياسة المحلية، والسياسة العربية والسياسة الدولية.
في هذه الفترة المتوسطة، كانت ملامح الكتابة المتخصصة قد بدأت تظهر في صفحات الصحف اليومية والمجلات، ولكن أطقم الصحافيين المتخصصين لم تكن قد اكتملت بعد، لذلك كان مكتوبا على الصحافي الذي يريد أن يلمع، في ذلك الوقت، أن يكون له من ثقافته، ومن حرارة انفعاله، ما يؤهله ليصول ويجول في أكثر من ميدان من ميادين الكتابة الصحافية، ثم ما يؤهله للقدرة على ملء أشداق المطبخ الصحافي، الذي لا يشبع، بأغزر ما يكون من المادة، وأقصر ما يكون من الوقت.
لا حدود بين الأدب والسياسة
وسط كل هذه الخلفيات السياسية والاجتماعية والمهنية، كانت نقطة انطلاق غسان كنفاني في مجلة الحرية، يكتب في السياسة، وفي الصحافة الأدبية.
لم يكن قد تخرّج من أكاديمية لفنون الإعلام، شأنه شأن كل فرسان الصحافة من أبناء جيله، كانت القضية، هي الأكاديمية التي قذفت به الى الصحافة، من هنا كانت الصحافة عنده هي القضية، فهو يكتب أي شيء تدفعه القضية الى طرحه على الورق، بعد ذلك لم يكن الشكل يحدد سلفا، بل كانت الأفكار هي التي تختار الشكل عفويا، مرة يكون الشكل قصة، ومرة يكون مقالا سياسيا، ومرة يكون مقالا أدبيا نقديا. كان يبحث عن أقصر طريق الى فلسطين ويرى هذا الطريق في ألف شكل وشكل.
منذ تلك المرحلة المبكرة، كانت كل بذور شخصية الجيل الجديد من الصحافيين العرب تنفتح تحت سن قلم غسان كنفاني، فهو صحافي حياة، يكتب في كل المواضيع، وهو صحافي مقاتل، يعبّر عن رأيه وهو يشهر سيفه في وجه الآراء المضادة، وخاصة تلك الآراء الدخيلة، التي تبذر بذور الاستعمار الثقافي بين سطور عربية الشكل، عربية القلم.
ولعل أبرز ما يختصر الروحية الصحافية التي كان غسان كنفاني قد بدأ يكونها لنفسها، في تلك الفترة المبكرة، قصته المشهورة مع دعوات الشعر الحديث، التي كان أحد التيارات الفكرية والأدبية في بيروت يقدمها مصحوبة بنظرة مقال واحتقار للأدب العربي (قديمه وحديثه)، بل وانطلاقا لدى البعض من جهل كامل بعظمة تراث الشعر العربي، الذي قال عنه أراغون، أحد أعظم الشعراء المعاصرين في العالم، انه ربما كان أهم شيء في التراث الشعري العالمي.
ويومها قام غسان كنفاني بالاشتراك مع معن زيادة (الدكتور في الفلسفة حاليا، وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية)، بتركيب كلام عشوائي على شكل قصيدة من "النثر الشعري الحديث". لم يقصدا التعبير عن أي معنى. وأرفقا نص "القصيدة الخنفشارية" برسالة الى المسؤول عن الصفحة الثقافية في جريدة كبيرة، كان يمثل ويرعى ويشجع هذا التيار المحدود من الدعوة للحداثة المتوازية مع السخرية من العرب، واعتبار العرب مغلقين على الحداثة. وكانت الرسالة مثل "القصيدة" مذيلة بتوقيع اسم وهمي، ادعى كنفاني أنه لشاب سوري من الذين يعانون من "حكم الوحدة" (أيام قيادة عبد الناصر لتجربة الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر)، وأن هذا القهر يمنعه من الجهر بآرائه في الأدب، ونشر إنتاجه من "الشعر الحديث"، فما كان من رئيس تحرير الصفحة الأدبية المذكورة، إلا أن نشر القصيدة بترحيب شديد، مع مقدمة تعتبرها نموذجا من الأدب الجيد الذي يعيش أسيرا داخل أسوار الأنظمة الدكتاتورية، ومع اعتبار الصفحة الأدبية لتلك الصحيفة ملاذا لكل أدب حديث متمرد.
كانت الفضيحة واضحة الدلالات والمعاني، فما كان من غسان كنفاني (ومعن زيادة) إلا أن أكمل حلقاتها، فكتب مقالا، في مجلة "الآداب" البيروتية، روي فيه تفاصيل القصة من أولها الى آخرها.
طبعا، لم تكن روح الحداثة والدعوة للشعر الحديث هي ما أراد كنفاني تعريته وكشف زيفه، في هذه المعركة الأدبية البالغة الطرافة والسخرية، بل تلك الدعوات المشبوهة للحداثة، التي تمتزج بالتشكيك بالشخصية الأصيلة للأدب العربي. ولم يكن كنفاني بحاجة الى دليل على أنه يفرق بين حداثة أصيلة وحداثة مزيفة، فقد كان أدبه القصصي، بعد ذلك، أحد أروع نماذج القصة القصيرة، في الأدب العربي المعاصر، بل أحد النماذج التي كانت تفيض روح الحداثة، شكلا ومضمونا.
ولم تغفر تلك الصحيفة، ولا صفحتها الأدبية لغسان كنفاني هذه الفضيحة المدوية. فقد بقيت وهي التي وصفها الشهيد طلال رحمة في بحث صحافي طويل مشهور ب"المافيا الثقافية" تتجاهل أدب غسان كنفاني، حتى عندما وصل الى مستوى قال عنه الناقد الكبير محمود أمين العالم على صفحات المصور، عند صدور مجموعة "عالم ليس لنا": انه أحد أهم نماذج القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر. مع أن هذه الصحيفة، وصفحتها الأدبية كانت تهتم أحيانا من باب ادعاء الروح الديموقراطية بنماذج أدبية لا تتفق أبدا مع إيديولوجيتها السياسية والثقافية، إلا أن هذه الصفحة بقيت برغم ذلك مغلقة على ذكر غسان كنفاني وأدبه.
أصغر رئيس تحرير
بعد ذلك، وما إن انتقلت صحيفة المحرر من شكلها الأسبوعي، الذي صدرت فيه أولا، الى شكلها اليومي، الذي عرفت به بعد ذلك، حتى كان غسان كنفاني وهو دون الثلاثين أحد أصغر رؤساء تحرير الصحف اليومية العربية، بل ربما أصغرهم.
ومع طاحونة العمل في الصحافة اليومية، تبلورت كل مواهب غسان كنفاني الصحافية والكتابية، وتكشفت معها مزية جديدة، هي مزية الجلد والغزارة.
ومرة أخرى كانت الأفكار هي التي تحرق غسان بالمعاناة، أما الأشكال، كل أشكال الكتابة، فقد كانت بالنسبة له أشبه باللعبة، يترك واحدة ليلهو بالأخرى، أو يلهو بأكثر من لعبة في آن. وأذكر أنني سألته في أول أيام مزاولته الصحافة اليومية، في موقع رئيس التحرير، رأسا ومن غير أية خبرة سابقة في هذا المجال: "ألا تجد صعوبة في كتابة الافتتاحية السياسية يوميا". فكان رده: "لم أفكر في الأمر مرة واحدة، فالأفكار بالنسبة لي هي الأفكار، كل ما هنالك أنني مقبل على شكل جديد من أشكال الكتابة، أعتقد أنني سأعتاده، وسيعتادني".
كانت كل الظروف تشق الطريق سهلاً أمام مواهب غسان كنفاني الأدبية والصحافية، فالمد القومي التقدمي كان في عز اندفاعه، والصحيفة، التي ترأس غسان تحريرها شابا يانعا، كانت تملك جيشا كبيرا من المحررين المتطوعين (غير محرريها المحترفين) هم رفاق غسان في حركة القوميين العرب. وراية عبد الناصر، التي رفعت المحرر لواءها عاليا في ذلك الوقت، كانت في عز تألقها.
لم يترك غسان في المحرر لونا من ألوان الصحافة لم يمارسه: كتب الافتتاحية السياسية، والمقال السياسي الطويل، والخواطر الوجدانية، التي تختلط فيها السياسة بالمشاعر الشخصية، والنقد الأدبي والثقافي، وخاض المعارك السياسية الحزبية المباشرة اليومية، وبرع في كتابة الفكرة اليومية الساخرة الخاطفة.
وفي المحرر نفسها، مارس غسان عملية التعريف بأدب المقاومة في الأرض المحتلة، فكان يحيط نصوص هذا الأدب بمقدمات من التشويق زادت من اهتمام الناس بها (إضافة الى قيمتها الفنية والسياسية الذاتية في ذلك الوقت). كذلك أشرف غسان كنفاني، مع كل هذا المجهود الواسع، وعلى استمراره في تطوير فنه القصصي، على إصدار ملحق فلسطين، الذي ربما كان ثاني مجلة فلسطينية متخصصة، ولكنه، حتما، أول مجلة فلسطينية متخصصة ناجحة، قدر لها أن تستمر طيلة استمرار غسان في رئاسة تحرير المحرر.
أقصر طريق إلى فلسطين
عندما أنهى غسان كنفاني عمله في المحرر، في أعقاب نكسة 1967، كان يتنازعه تياران: فهو الصحافي والأديب الذي تسلق سلم الشهرة بسرعة كبيرة، في بيروت المتلألئة بالأنوار البراقة التي تخطف الأبصار، وهو المناضل الفلسطيني الذي لم تفارق الحرارة والحماسة المتلهفة نفسه وكتاباته، ولكل من هاتين الشخصيتين طريقها وأسلوبها اللذان لم يعد سهلا الجمع بينهما بعد 1967. وبيروت لا ترحم، إنها أبرع من يمارس مع ضحيته لعبة التمويت البطيء بالإغراء، إذا رأت فيه أي ضعف.
وقضى غسان فترة الحيرة هذه كاتبا سياسيا في جريدة "الأنوار"، ولكنها كانت أقل فترات غسان الصحافية تألقا وثباتا. الى أن أتاحت الظروف لمجلة الهدف الصدور، ناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فلم يتأخر غسان في الاختيار.
ولكن جو النكسة كان قد فجّر كل مكامن المرارة في النفس العربية، فكيف إذا اختلطت المرارة بالتوتر المتلهف، الذي أصبح يخشى أن تكون العودة الى فلسطين قد بدأت تتحول من هدف الى حلم وأن تكون الطرق إليها قد أصبحت تطول، شيئا فشيئا.
غير أن الحديث عن تلك المرحلة من حياة غسان كنفاني لا يكتمل إلا بإفراد أسطر قليلة لشخصية "فارس فارس"، فقد كان غسان المقاتل، يترك زاوية عزيزة في نفسه لغسان الأديب وغسان الصحافي، وبما أن غسان كان قد نذر اسمه الصريح لفلسطين، فقد استعار لنفسه اسم "فارس فارس"، وزوده بكل ما في نفسه من سخرية ونظرة نفاذة لماحة، ومعايشة طويلة لأجواء الأدب والأدباء، والنشر والناشرين، ودهاليز هؤلاء وأولئك، وكان الاسم المستعار يعطي غسانا أكثر من مزية، أهمها تمكنه من الاختباء وراءه، لإطلاق العنان لسخريته اللاذعة، ومعرفته العميقة بأجواء الأدب والنشر، بعيدا عن ضرورات المجاملة والمسايرة، فكتب تحت هذا الاسم مجموعة من المقالات النقدية الأدبية الحارة والصادقة، التي تركت وراءها، حتى اليوم، فراغا لا يعوّض في صحافة بيروت الأدبية، ونكهة في النقد الأدبي ليس من السهل استعادتها على صفحات جرائدنا ومجلاتنا.
من هنا عاد غسان، وهو في أوج تألقه ككاتب صحافي، وككاتب قصة قصيرة، وكناقد أدبي، الى نقطة البداية التي لم يفقد الصلة بها أبدا، فأصبحت الكتابة لديه عبارة عن عملية فدائية داخل الأرض المحتلة، الشيء الوحيد الذي يستحق الجهد، ويتمتع بالجدوى، وقد كان يفعل ذلك بتركيز كامل، حتى أصبحت الصحافة والقصة والكتابة السياسية وكل شيء في الحياة يتلخص لديه بعملية فدائية، وقد توحد غسان الكاتب والصحافي والأديب مع العمليات الفدائية، توحدا عنيفا، حارا متوترا، لدرجة أنه دخل، في المرحلة الأخيرة، من شخصيته الغريبة، مرحلة الفدائي، من غير أن يلبس الثياب المرقطة، ومن غير أن يحمل بندقية. ولم يكن يختلف اثنان على التوحد بين غسان كنفاني وشخصية الفدائي، في السنوات الأخيرة من عمره، كان الكل يرى ذلك بوضوح، حتى إسرائيل، بل خاصة إسرائيل.
وعندما اتخذت المخابرات الإسرائيلية، في صيف عام 1972، قرارها باغتيال غسان كنفاني، كان لديها ملف كامل دقيق عن غسان كنفاني، الصحافي اللامع، والمتألق في كتابة القصة القصيرة، ولكنها مع ذلك، ولأنها تعرف معسكرات العدو العربي بدقة، كانت تتخذ قرارا باغتيال فدائي.
وهكذا، ظل غسان كنفاني يبحث عن أقصر طريق الى فلسطين في الصحافة الأدبية، والصحافة السياسية، والقصة القصيرة، والتبشير بالعمل الفدائي، ظل يفعل ذلك بصبر نافذ منذ البداية، وبتلهف الذي يتمسك بأية بارقة، يرى فيها إمكانية اختصار يوم من عمر الهجرة، وتقليص يوم من عمر العودة، على طريق هذا البحث ظل يتوهج ويغود، .حتى انفجر، ضيقا بالانتظار الذي طال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.