استهلّ فهمي يومه الأول بعَمل فنجانين من القهوة علي شرف الشبيه. أخرجَ مِطفأتين للسجائر، واستراح علي حَشيّة الكرسي في حجرة الأنتريه. فكر في "سيد" البوسطجي. كل مرة يأتي باسم جديد حين يراه: أهلا يا أستاذ فوزي، فكري.. في المرة الأخيرة جاء باسم فتحي، ولما صَحَّح له فهمي قال مؤكدا: "عارف والله، دائما أغلط في الشبه بينك وبين الأستاذ فتحي. يا سبحان الله، فولة وانقسمت نصفين". هل تختلط الأسماء علي الرجل بهذا الشكل الدائم؟ وهل يفعل ذلك مع الكل؟ إن مهنته تُمكّنه من معرفة الأسماء والعناوين والملامح بمجرد النظر. بالتأكيد هناك شيء ما في ملامح فهمي تجعل الرجل يُصر بدون تعمد علي الخطأ. إنها ملامح ودودة وقورة مكّنته دوما من مد الكلام العابر في المواصلات، أو سماع آيات الثناء من أناس يراهم للمرة الأولي، أو حتي الربط بينه وبين آخر يشبهه في الطبع. لكن هذه المرة جاءت بالتحديد الواثق من سيد: يوجد شبيه واسمه فتحي. الكلام كان واضحا ومؤكدا عن وجود آخر في هذا العالم له نفس الملامح، وهذه مسألة ليست بسيطة؛ إذ إن البوسطجي يُخطئ بالتأكيد أمام الآخر ويرحب به علي طريقته: أهلا يا أستاذ فهمي، فتكون النتيجة هي قيام فتحي بالتفتيش عن المدعو فهمي الذي يشبهه لهذا الحد. ولكن مَن أدري فهمي أن الآخر سيهتم أصلا؟ لقد وصل إلي قناعة بأن القضية قضيته هو. طوال عمره لم يستطع رؤية أحد يشبهه. فالوجه الذي ظهر مبكرا أكبر من سنه بكثير، ترك لرفاق العمر الاهتمام بالسوالف وقصات الشعر التي راحت وجاءت بأشكال غريبة ومتنوعة، في حين حافظَ هو علي رصانة ثابتة لم تتغير بتسريحة الشعر علي الجانب الأيمن مع فلق خفيف في الجانب الأيسر. وهذا الأنف الرفيع الحاد الذي تتسع فتحتاه في لحظات عدم الرضا، ليس له مثيل بين أنوف كثيرة دقق فيها. أما العينان اللتان قالت عنهما عفاف إنهما لا ينتميان لوجهه ويسرحان لوحدهما؛ فهما حكاية.. وعي ذلك منذ أيام الثانوي حين كانت دعاء تقترب منه، بحركة مجنونة تليق بها جدا، وتزرع وجهها في عينيه ثم تمضي دون كلمة. حاول أن يتعرف سر عينيه اللتين ضبط الكثيرين ينزرعون فيهما، فوجد الرموش الطويلة وعكارة خفيفة حول الدائرتين العسليتين، مع شحوب دائم يطبعهما بالذبول. بعد ذلك بزمن ستتعدد أشكال الوصف التي قيلت فيهما: نائمتان، ساهيتان، ناعستان. وحدها عفاف التي أكدت كل ذلك بمقولتها وأضافت أن وجهه غير معبر عن شيء. هذا تماما ما يوافق عليه فهمي، ويحمد ربه كثيرا أن حباه بوجه لا يُخرج علي صفحته كل أشكال الحروب العالمية والدمار الشامل والاقتتال الطائفي في داخله. ظل يأسف ويمصمص شفتيه علي هؤلاء الذين رُزقوا بوجوه عصبية متوترة تتشاكل مع الذباب. أو مَن لديهم وجوه "رِخمة" من أول نظرة. لكن في المقابل كان لا يصدق أسطورة أن وجهه لا يعكس أي شيء يدور بداخله. كيف ذلك؟ أهو مُسطح بلا عمق؟ سيكون الوجه هوالبوابة التي يعبر منها دائما. أحبَّ القمحي الذي يسبق الخمري في الدرجة، واعتقدَ أن هذا هو لوننا التاريخي الحقيقي. فالأبيض السمني المشوب بصفرة هو من عِرق تركي، والأسمر نِتاج تزاوج غير متكافئ في اللون. أما نظريته في الشّعر فتتلخص في أن الشعر الخشن الجاف هو ابن أصيل لهذا البلد، فآباؤنا الأولون اغتسلوا في النهر وخرجوا ليتركوا مهمة التجفيف للشمس. وبهذه الملامح كلها راجعَ فهمي مَن أحبهم وعرفهم فلم يخرجوا عن كتاب أوصافه. كيف هو إذا شكل الشبيه المزعوم؟ كان قد انتهي من شرب قهوته مع سيجارة ملأتْ دماغه وجعلته مُعمَّرا. الفنجان الآخر بقي علي حاله بالوِش العائم الراكد. أشعل أخري لنفسه، ومثلها وضعها مشتعلة في المطفأة الأخري، فتلوي دخانها بألسنة رمادية شفيفة. تأمّلَ الأشياء والدخان فوق الترابيزة الصغيرة. لا يدري لماذا هو الآن في أمس الحاجة للرجل الذي يتدخل دائما. وحده فقط مَن سيدله علي الطريق. يبتسم إذ يتذكر الرجل، وكيف أنه كان يضيق به جدا حين يظهر في وقت مفاجئ. مثلا يكون فهمي عائشا مع السنارة في لحظة تركيز صافية أمام فرع النهر الذي يُحزم مدينته؛ فترج دماغه كلمات هاتكة لحالة السكون: "شِد يا رجل، السمكة شبكت من زمان". يلتفت مبغوتا ليري الرجل مُتكئا علي حديد الكورنيش. يتجاهله فتستمر كلماته بلا انقطاع: "هات الغمّاز هنا، السمك هنا كثير". يغيب صوت الرجل قليلا فيستدير فهمي ليجده ماضيا في شرح الطريق لسائق غريب، بل إنه كان يتبع العربة بمسافة مُوجها لليمين والشِمال دون تبين أن السائق ربما لا يسمعه. علي المقهي يجلس مشيرا بيديه كمَن يُحلل قضية في برنامج تليفزيوني. أحيانا يراه عند موقف العربات المزدحم وهو يساعد امرأة في حمل جوال خضار، أو يقعد مُتربعا جنب ماسح أحذية ويأخذ ويعطي في الكلام. في كل مرة يراه فهمي يضحك