"فى قلبى حصنى، فى عزّى حدودى وما يجيش فى حياتى إلا من يستحق"، عزيزى القارئ، فى زمن كثرت فيه الالتواءات وتبدلت فيه المعادلات وظهر من يمد يده إلى مواقع ليست له ويلجأ إلى طرق غير سوية ليحل محل غيره، يبقى الشيء الوحيد الذى لا يفقد قيمته هو قدرتك على وضع حدود راقية، تحفظ بها نفسك ومكانك وهيبتك. فلم يعد الحفاظ على موقعك مهارة وظيفية فقط، بل أصبح فنًا إنسانيًا وروحيًا أجمعت عليه الشرائع السماوية، واحتفى به الفلاسفة والمفكرون، ورآه علماء النفس أساسًا لصحة العلاقات. لا تتعجب عزيزى القارئ من كلمة "الحدود"، فهذه فلسفة قائمة فى الشرائع السماوية، فنجد فى القرآن الكريم القاعدة الذهبية لبناء الحدود الإنسانية حين قال الخالق "ولقد كرمنا بنى آدم"، فالكرامة هنا ليست كلمة، بل قانون إلهى يوجب عليك حماية نفسك من الاستغلال أو الإهانة أو التعدى، والإنجيل يؤكد القيمة نفسها إذ يقول "أحب قريبك كنفسك"، فالمحبة الحقيقية لا تعنى السماح لأى شخص أن يتجاوز حدوده أو يتسلل إلى مكان ليست له. وكما أكدت الدولة المصرية "الإنسان المصرى يأتى فى قلب منظومة التنمية الشاملة"، وهذا تأكيد على أن احترام المواطن وكرامته ليس رفاهية، بل أساس تنمية شاملة، وأضافت القيادة السياسية، أن "الإنسان المصرى يأتى فى القلب من منظومة التنمية الشاملة"، حيث حماية كرامة الإنسان واحترام حقوقه هى أساس أى تقدم وتنمية. مع تقدم علم التدريب المهنى والنفسى وتقنيات التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعى، نجد أن هناك تدريبات عملية لوضع حدود راقية دون صدام، طبقًا لطبيعة الفرد وبيئة العمل والعاملين، فليس الكل سواء. فاكتب قائمة بالأشياء التى تقبلها والأشياء التى لا تقبلها، وأحسن فن التواصل الحدودى وأخبر الآخرين بما يزعجك بطريقة واضحة ومهذبة، ويمكن استخدام جملة نفسية مهمة "أفهم قصدك لكن هذا لا يناسبني". وفى بعض الحالات الأفضل ألا تطل الشرح، فالحدود تُحترم بالقوة الداخلية وليس بالإقناع. وثق المهام والسلوكيات، فالغموض هو الباب الأكبر لتعدى الآخرين. كما قال بعض المفكرين "الحدود ليست جدرانًا، بل بوابات نختار نحن من نسمح له بالمرور". وتذكر أنك الأقوى والأفضل حين يحاول البعض أخذ مكانك بالطرق غير السوية، فهناك من لا يملك مؤهلاتك فيلجأ للالتفاف، وهناك من لا يتمتع بكفاءتك فيعتمد على العلاقات السوية وغير السوية، وهناك من لا يستطيع الوصول إلى كاريزمتك فيبحث عن نزع مكانتك ليظل هو، ربما لتعويض فشله فى الحياة أو لتحقيق مصالح شخصية. لكن الحقيقة البسيطة أن ما بنى على باطل لا يدوم، والشرائع أكدت أن الحق يأخذ مكانه ولو بعد حين "فأما الزبد فيذهب جفاء"، فكل ما هو حق يظهره النور كما ورد فى الكتاب المقدس. احمِ نفسك بالوضوح والاحتراف مع الهدوء والصبر الاستراتيجي، ومحاولة أداء العمل بإتقان يجعل محاولات الآخرين بلا قيمة. ولكن ماذا نفعل فى منظومة عمل ميتة يقودها مسؤول لا يهتم إلا بنفسه؟، عندما يصبح المسؤول غائبًا عن دوره، حاضرًا فقط لمصلحته، يهمل احتياجات الناس ويهتم بمكاسبه ويفتقد تقدير المجهود، يدخل المكان فيما يسمى إداريًا ب "القيادة السلبي". فى هذه البيئة، عليك حماية نفسك ومهامك من التعدى وعدم التورط فى صراعات لا تخصك، مع التركيز على الإنجاز وليس الأشخاص، وتوثيق كل شيء لتفادى الظلم، واحرص على التواصل مباشرة مع المستويات الأعلى بطرق رسمية وراقية عند الحاجة. وقد قال عمرو بن العاص "عز العامل من عز المسؤول"، فإذا غاب عز المسؤول وجب أن يحمى العامل عز نفسه. ويجب وضع شروط عند اختيار أى مسؤول من الأصل لكى لا تتكرر الكارثة، فالمناصب يجب أن تبنى على الأمانة قبل الخبرة، والضمير قبل السلطة، ويجب أن يتمتع المسؤول برؤية واضحة وقدرة على إدارة البشر قبل إدارة الملفات، دون أن يدار المشهد من قبل "كمبارس"، مع الالتزام بالنزاهة وعدم استعمال العلاقات فى رفع أشخاص أو خفض آخرين، مع عدالة يشعر الفريق بأنها جزء من المكان لا ضحية له. قال عمر بن الخطاب "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، أى أن القائد العادل يصنع نظامًا حتى لو اختلف الناس، وأكد ذلك بأن القائد الحقيقى لا يحتاج أن يخفض غيره ليعلو بل يرفعهم فيعلو معهم. تذكر دائمًا أن الحدود ليست قسوة، بل مرآة لقوة ذاتك، والمكان ليس ملكًا لمن يطمع فيه بل لمن يتقنه ويستحقه. تعلم كيف تحمى مكانك وتحفظ كرامتك فى زمن تتغير فيه المعطيات، وفى النهاية تظل القاعدة السماوية الأعمق: ما كان لك سيأتيك ولو وقف العالم كله ضدك، وما ليس لك لن تناله ولو حملت الدنيا على كتفيك، كلمة الخالق المنفذة لحكمة لا يدركها العقل البشري، ولكن يرضى بها القلب فى وقتها.