في أول العمر، يمشي الإنسان بخطوات يخيّل إليه أنها مرسومة على أرض من قطن. العالم، في مخيلة الصغار، ساحة مفتوحة بلا سقف، والسنوات المقبلة تبدو لهم مثل صفحات تنتظر ألواناً لا حدود لها، ينسج الطفل أحلامه كمن يبني مدينة على ضفاف نهر صبور؛ بيت واسع، قلب مطمئن، صحة لا تفتر، وعلاقات تبقى على صفائها الأول. ومع مرور الوقت، تتبدل المشاهد. ليس بسبب ضعف الحلم، بل لأن التجربة الطويلة تغيّر زاوية النظر. عند الأربعين، يبدأ الإنسان في مراجعة الطريق كما لو كان يطل عليه من شرفة مرتفعة، يرى الحفر التي لم ينتبه إليها في الممرات السابقة، والخسارات التي لم تكن محسوبة، والوجوه التي عبرت ثم اختفت من دون إنذار. الأماني في الصغر تنمو بلا واعظ، أما بعد الأربعين فيجلس الإنسان مع نفسه جلسة محاسب صغير داخل شركة كبيرة، يسأل: هل حققت ما كنت أريده، أم كنت أطارد أهدافاً ليست لي؟ هل اختياراتي كانت مناسبة، أم كنت أهرب من شيء ما؟ يصبح الزمن أكثر حضوراً، له وزن على الكتفين، ويأخذ شكلاً واضحاً حين تتساقط أولى الهزائم الصغيرة: تعب الجسد، تراجع العلاقات، أو رحيل من نحب. ليس الخوف بعد الأربعين علامة ضعف. إنه انتقال من غفلة إلى وعي، يصبح الحذر جزءاً من البقاء، ويصير التفكير في المستقبل أكثر واقعية. يبدأ الإنسان في ملاحظة التفاصيل التي تجاهلها في شبابه: صحته، أمانه المالي، مستقبل أبنائه، وعلاقته بالزمن، وحتى إن بقي في داخله طفل يحلم، إلا أن الحلم صار يختار خطواته بميزان أدق. ومع ذلك، ليست الأربعين نهاية نشيد الحياة، بل بدايته الثانية، من يصل إليها يكون قد جمع من التجارب ما يكفي ليعرف ما يريد وما لا يريد، يعرف أن الخوف ليس عدوا، بل جرس يحث على الانتباه، يعرف أيضاً أن الحياة لا تُختصر في ما ذهب، بل في ما يمكن أن يعاد بناؤه من جديد. فالإنسان، في النهاية، ليس ضحية تقلب السنين، بل صاحب القرار في كيف يقرأ رحلته، إن تحوّل الأماني إلى خوف ليس سقوطاً، بل مرحلة نضج، تتيح للمرء أن يوازن بين اندفاع الصغر وعمق التجربة. ومن يدرك ذلك، يستطيع أن يصنع سلاماً هادئاً مع العمر، ويرى في كل يوم فرصة جديدة لإعادة صياغة حياته، بلا مبالغة في التفاؤل ولا استسلام للقلق. بهذا المعنى، لا تنقلب الحياة بقدر ما تنكشف، ولا يخفت الضوء بل يتغير لونه، حتى يرى الإنسان الطريق بوضوح أكبر مما كان يتصور.