رئيس الإنجيلية: ميلاد السيد المسيح يحمل رجاء يغيّر العالم ويمنح الأمل لجميع البشر    وزير البترول يناقش الخطة الجديدة للاستكشاف والإنتاج مع رؤساء الشركات العالمية العاملة في مصر    وزيرة التخطيط ووزيرة التنمية المحلية ومحافظ سوهاج يتفقدون المنطقة الصناعية غرب جرجا    عاجل- نواف سلام يؤكد: العلاقة مع مصر تتجاوز تبادل المصالح    18 مشروعًا بقطاع مياه الشرب يستفيد من 3 ملايين مواطن بمحافظة سوهاج    رئيس لبنان جوزاف عون يستقبل مصطفى مدبولى فى قصر بعبدا    مصر ترحب بتعيين برهم صالح مفوضا ساميا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين    شاهد الان بث مباشر.. الأهلي يواجه سيراميكا كليوباترا اليوم في كأس عاصمة مصر    الأهلي يواجه أصحاب الجياد في ربع نهائي دوري مرتبط سيدات الطائرة    ضبط 99530 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    وزارة الداخلية تواصل حملاتها المكثفة لضبط الأسواق والتصدي الحاسم لمحاولات التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم    فضل قراءة سورة الكهف.....لا تتركها يوم الجمعه وستنعم بالبركات    وفاة 7 أشخاص وإصابة 5 آخرين في حريق سيارة سوزوكي على الطريق الإقليمي    زفاف نجل حنان ترك وسط الأقارب ورواد السوشيال يتساءلون عن غيابها    المجلس الأعلى للثقافة يستضيف فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للفيلم القصير 2025    سلام: العلاقة بين مصر ولبنان تشمل تفاعلا في المسار واتفاقا في الرؤى    وزير الصحة يبحث مع نظيره الموريتانى سبل التعاون فى عدد من الملفات    أمم إفريقيا - تقرير: حسام عوار يغادر معسكر الجزائر بسبب الإصابة    ضبط 20 متهمًا أثاروا الشغب بعد إعلان نتيجة الانتخابات بالإسماعيلية    الاحتلال ينصب حاجزا عسكريا عند مدخل ترمسعيا شمال رام الله    رسائل السيسي لقادة فرنسا والسودان والكونغو الديمقراطية تتصدر نشاط الرئيس الأسبوعي    انتخابات النواب 2025، ننشر الحصر العددي لدائرة السنبلاوين وتمى الأمديد في الدقهلية    وزير الخارجية يلتقى نظيرة الجزائرى لبحث تعزيز العلاقات الثنائية    أحمد عبد الوهاب يكتب: تسريب «مشعل» بين خطاب المقاومة وحسابات الأنظمة    بوتين يعلن سيطرة القوات الروسية على المبادرة الاستراتيجية بعد معارك «كورسك»    وزير الزراعة يبحث مع مزارعي الإصلاح بالبحيرة وأسوان حلول لرفع الأعباء عن كاهلهم    وزير البترول يناقش الخطة الجديدة للاستكشاف والإنتاج مع رؤساء الشركات العالمية العاملة في مصر    محافظ أسيوط يعلن افتتاح صيدلية "إسعاف 24" بحي شرق    وفاة طبيب متأثراً بإصابته إثر طلق ناري أثناء مشاركته بقافلة طبية في قنا    خلاف جون إدوارد وأحمد حمدى يعجل برحيله عن الزمالك وبيراميدز يراقب موقفه    جهود متسارعة لإنقاذ اتفاق دمج «قسد» مع الحكومة السورية قبل نهاية العام    تعرف على مسرحيات مبادرة "100 ليلة عرض" في الإسكندرية    بدر الرفاعي: شعرت بألفة خاصة تجاه كتاب «إعلام الجماهير»    "الوزراء": الحكومة تمنح تيسيرات لزيادة عدد الغرف الفندقية وتحويل بعض المنشآت السكنية    الزمالك في معسكر مغلق اليوم استعداداً للقاء حرس الحدود    النشرة المرورية.. سيولة بحركة السيارات بمحاور القاهرة والجيزة    أطعمة تقوي المناعة.. كيف يساعد الغذاء الجسم على مواجهة الإنفلونزا؟    الدفاع الروسية: قواتنا سيطرت على 4 بلدات أوكرانية خلال الأيام الماضية    الأرصاد تحذر من أجواء شديدة البرودة وانخفاض الصغرى على القاهرة ل 11 درجة    سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري بداية تعاملات اليوم 19ديسمبر2025    وزير الصحة يلتقي الأطباء وأطقم التمريض المصريين العاملين في ليبيا    كأس عاصمة مصر.. الإسماعيلي يتحدى بتروجت بحثًا عن الفوز الأول    جامعة السوربون تكرم الدكتور الخشت بعد محاضرة تعيد فتح سؤال العقل والعلم    أستاذ لغويات: اللغة العربية تمثل جوهر الهوية الحضارية والثقافية للأمة    الداخلية تضبط 20 شخصا من أنصار مرشحين بسبب التشاجر فى الإسماعيلية    حمد الله يعتزل اللعب الدولي بعد التتويج بكأس العرب    هل يجوز للمرأة صلاة الجمعة في المسجد.. توضيح الفقهاء اليوم الجمعة    أفضل أوقات استجابة الدعاء يوم الجمعة – اغتنم الساعة المباركة    العليا للتفتيش الأمني والبيئي تتابع إجراءات تشغيل البالون الطائر بالأقصر    مستشار الرئيس للصحة: لا يوجد وباء والوضع لا يدعو للقلق.. والمصاب بالإنفلونزا يقعد في البيت 3 أو 4 أيام    نجاة الفنان وائل كفوري من حادث طائرة خاصة.. اعرف التفاصيل    كونتي: هويلوند يمتلك مستقبلا واعدا.. ولهذا السبب نعاني في الموسم الحالي    ننشر المؤشرات الأولية لعمليات فرز الأصوات بالدائرة الثالثة بالشرقية    مؤشرات أولية طبقا للحصر العددي، تقدم سيد حنفي في دائرة الخليفة    مش فيلم.. دي حقيقة ! شاب مصري يصنع سيارة فوق سطح منزله مع "فتحى شو"    «قلبي اتكسر»| أب مفجوع ينهار على الهواء بعد انتهاك حرمة قبر نجلته    هل يرى المستخير رؤيا بعد صلاة الاستخارة؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ الدقهلية يكرم أبناء المحافظة الفائزين في المسابقة العالمية للقرآن الكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"قلب مفتوح" باكورة عبده وازن الروائية
نشر في نقطة ضوء يوم 23 - 04 - 2010

بمزيج من الشعر والتأملات ومراجعة الذات واستنباط الطفولة واستعادتها بما يشبه التمسك بها، وبنص يمشي تارة على مهل وتارة بنزق وتارة بتأمل من داخل الحياة، هي رواية عبده وازن "قلب مفتوح" سيرة ذاتية، ثقافة ومعرفة، حركة دؤوبة من سرير المرض، ما كانت تأتي لو لم يخضع الكاتب لعملية جراحية في القلب أتاحت له استرجاع الماضي، الطفولة، اليتم، معرفة المرأة، حبيبة الأيام الأولى، كل ذلك بنص مكتوب بعصب متوتر، وصدق في كل ما يروي الكاتب وما يتذكر. وتطفي في كثير من الصفحات لغة الشعر. فوازن في الأصل شاعر له خصوصية معينة لا يقلّد فيها أحداً ولا أحد يستطيع أن يقلّده، لغة من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس، تتدفق كالنهر ولا تصب إلا في القلب في تعاطف من تجربة الكاتب الشاعر، فيصبح القارئ هو الكاتب والعكس صحيح.
وقد ساعد الكاتب على ضبط روايته (الصادرة عن "الدار العربية للعلوم ناشرون") تلك الخلفية الثقافية التي يمتلكها فتأتي هنا من دون إقحام بل من قلب النص. ولا تبدو مفتعلة أبداً، وتغلب على الرواية الطقوس المسيحية التي تحكم حياة البطل ولكن من دون مبالغة أو شطط. فهو لا يدري مثلاً لماذا كانت الكنيسة تولي المناولة الأولى هذا الاهتمام. مع أن العمادة هي اللحظة التي تكرس الطفل مسيحياً قبل أن يعي العالم قبل أن يدرك وجوده فيه. وغالباً ما كان طقس العمادة مقصوراً على الأهل فقط وخلواً من الطابع الاحتفالي فيقول الكاتب: "كنت كلما قرأت قصائد رامبو وريلكه عن المناءلة الأولى أو المتناولين، أتذكر تلك اللحظات الجميلة من الماضي الفردوسي الذي لم يبق له زاوية ولو صغيرة في عالمنا" ف: "ما هذا العالم الذي يزداد قبحاً وصلافة".
والمريض على سرير المستشفى تتكون أمامه نافذة الغرفة كأنها نافذة يطلّ من خلالها على العالم الخارجي، وعلى عالمه الجواني المليء بالأفكار والتهويمات والأحلام في اليقظة والنوم: "كانت الأيام طويلة في المستشفى كما في المنزل لاحقاً أو في غرفتي، في الخارج هو الشتاء بأمطاره وسمائه الكالحة وغيومه التي تعبر وراء النافذة، كانت النافذة ملجأي الوحيد حين يحل بي الملل، أهرب إليها لأنظر الى العالم كما للمرة الأولى، المنظر يوحي بالصمت، الصخب في الخارج هو صخب العالم الذي انفصلت عنه طوال تلك الفترة".
هذا الانفصال عن العالم الخارجي كل فترة المرض أتاحت للكاتب استعادة الماضي بكل تداعياته، الطفولة، والحرمان. والأب الذي توفي باكراً. والأم التي تتحايل على الزمن كي تربي أولادها، ففقد الأب كان يعني للبطل الكثير، يتذكره ولا يتذكره. يستحضره أحياناً للحاجة إليه وأحياناً يتناساه لأنه لم يعرفه جيداً، ثم تأتي الثانية بموت أخته التي شكلت له نمطاً من الحزن الهادئ، وحده الحزن الذي يدعو الى التأمل في كل شيء، الأحلام، فكرة الانتحار، فكرة الموت، الحرب الأهلية التي فرقت بينه وبين حبيبة الطفولة.
يتحدث الكاتب تارة عن نفسه، وطوراً يتخيل آخر يتحدث عنه ويستنبط ذكرياته، وينظر الى أمه على أنها أمه وأباه في وقت واحد: "إنها الأم التي لم تعرف من هذه الحياة إلا أنها أم، فهي لم تنجح في أن تؤدي شخصية الأب الراحل مهما حاولت أن تقسو علينا، كانت أماً أقل من أم وأكثر من أم، لم أكن أحتمل رؤية عينيها مخضلتين دمعاً، كانت بمثابة مريم أخرى، بلا رجل، ولكن بأبناء، وكم آلمها أن تموت ابنتها بين يديها (...) وكثيراً ما كنت أشعر أن الحب هو حال من الأمومة، وكذلك الإيمان والفرح والأسى، إنها حال الأمومة التي تغلغلت فيّ. لا أعرف كيف، حتى عندما كنت أجافي أمي كنت أشعر بأمومتها أكثر فأكثر".
ويشيد الكاتب باللغة العربية لأنها لغة مقدسة، ويشير الى أنه كلما فتح القرآن يتذكر الصفة التي نعمت بها اللغة العربية متفردة، الصفة القدسية، صفة اللغة المقدسة، لغة الله أو اللغة التي تحدث بها الله. ولطالما ساءلت نفسي إن كان ممكناً حقاً الإبداع في لغة أبدع الله فيها، إنها لميزة فريدة أن يمتلك المرء لغة سبقه إليها خالقه فيشعر عندما يكتب برهبة المقدس الذي لا بد من مجابهته، كأن الكتابة بالعربية فصل مواجهة دائمة لهذا المقدس.
يطغى الحزن على الرواية بكل تداعياته، والحزن، غير الفرح، وحده يدعو الى التأمل، خصوصاً في الليل: "إلا أن الليل كان في عيني ذاك الفتى لون الرغبة الأولى، لون الشهوة التي اكتشفها الفتى، أول ما اكتشفها. بنارها العذبة في جسد أسود، عرفت الحب، أو لأقل الحب المضطرم، للمرة الأولى باللون الأسود، عرفته قاتم اللون، داكناً ولكن على كثير من الرقة، كنت في العشرين عندما وجدت نفسي في مدينة إفريقية إسمها كنشاسا، لم أتصور أنني سأقضي عاماً هناك. في هذا العالم الأسود، أنا الشاب المراهق الذي كان حينذاك، غداة اندلاع الحرب في لبنان مضطرباً وخائفاً على مصير، ليس مصيري الشخصي ولا مصير العائلة أو الأرض أو الوطن.. على مصير لم يكن قادراً على تحديده. كنت أملك ماضياً فقط، الماضي الذي عبر سهواً، دون انتباه، أما الحاضر فلم يكن واضحاً ولا أكيداً. كنت قد.. هجرت.. الوطن أو فررت منه، بعدما بلغت الحرب أوجها. لم تبق الحياة ممكنة هناك.. وفي كنشاسا يلتقي بتلك الفتاة المدهشة التي آنسته هذيان الحرب في الوطن وكانت شفافة الى حد لم ينسها قط.
ويدخل الاكتئاب على حياة الكاتب، يرفض المكتئب الاعتراف بمرضه، لأنه لا يراه ولا يمسك باليد، ولا ينتبه الى ان الاكتئاب هو مرض غامض قد يؤدي في لحظة خاطفة الى الانتحار أو الجنون ف "قررت ان ما أعانيه هو "الانهيار العصبي" لكن الطبيبة المعالجة كانت متفائلة، فهذا الانهيار المزعوم كان في بدايته، وكان راقداً في الداخل طوال أعوا، وفي نظرها ان الدواء الذي ستصفه لي يخلصني من هذا "الانهيار" خلال أسابيع قليلة. وفعلاً لم يمض شهر حتى انقشعت عن عيني تلك الغشاوة وغربت تلك "الشمس السوداء" ورحت استعيد انفاسي عائداً الى الحياة التي هجرتها، من غير ان أتوقف عن تناول تلك الحبوب التي تقاوم الاكتئاب والتي ما فتئت أتناولها كلما عاودتني الكآبة ولو خفيفة.
وحالة مرض الاكتئاب تفتك بسويداء القلب: "تفتك بي، تحل ستارة سوداء أمام عيني تفصل بيني وبين العالم، يا لهذا الظلام، من اين يسقط؟ حتى الظهيرة في أوجها تمسي كالحة اما الصباح فلم يكن يشرق. الضوء في الخارج فقط، انه ضوء العالم الذي لم أعد انتمي اليه، مع انني هنا في الغرفة حائراً، أو على الطريق أمشي الى حيث لا أدري، امشي فقط هرباً من نفسي المترامية كالظل، التي تتبعني منهكة، هذا الظلام الروحي (...) ولطالما سألت نفسي لماذا اصبت بهذا المرض الروحي، الاكتئاب في الثلاثين من العمر وليس في الأربعين، العام الذي كما يقال يفصل بين صفتي الحياة، وأكثر أخافتني محنة الأربعين عندما يبدأ المرء يكتشف وحدته فصلا تلو فصل، شاعراً ان مركبه المتوهم بدأ يعبر من مشرق الحياة الى مغربها، من حديقة الربيع الى غابة الخريف الصفراء، ويروح يبدأ في محاسبة نفسه. ماذا فعل وماذا لم يفعل نادماً ومتحسراً عن فقدانه الحلم بحياة أجمل.. بماذا يحلم رجل في الاربعين؟ بماذا يأمل؟ الحياة اصبحت وراءه وليس امامه الا نهايتها، بداية نهايتها، لكن الرجل في الاربعين يظل قادراً على ان يصنع أحلامه اليقظة أو أحلام يقظة، يركبها كما يحلو له، الرجل في الأربعين لا يبقى له اصلا سوى حلم يقظته الذي يبصره وعيناه مفتوحتان".
تتدفق تهويحات الكاتب خصوصا عند فكرة الانتحار التي لم تكن تفارقه حتى عندما أضحت فيما بعد فكرة فلسفية، اصبحت فكرة تشغل الرأس وليس القلب أو الوجدان والذات فحسب، وكان أكثر ما جعلني انتباها كفكرة صاحب "الغريب" - ألبير كامو - هذا الكاتب الذي احببته منذ ان كنت، وكان هو وجان بول سارتر شبه محظورين في المدرسة، والسبب الوحيد على ما أذكر انهما يدفعان الجيل الفتي الى تبني فكرة الانتحار، فهو: الحكم على الحياة ان كانت أهلا أو غير أهل لأن تعاش هو الجواب على السؤال الاساس للفلسفة" و"كان الانتحار اشبه بالطيف الذي يرافقني بالسر، ويؤثر في ويهزني، كنت دائماً أتذكر ان الانتحار مسألة فلسفية قبل أن تكون قتلا متعمداً أو غير متعمد للنفس، وكنت متيقناً ان الانتحار يحصل متأخراً دوما، وكأن لا جدوى منه، فما يعيشه المنتحر أو يكابده اقسى من فعل الانتحار نفسه. هذا الاحتضار الذي يسبق قتل النفس أشد وطأة من اللحظة المأساوية الأخيرة التي ترسم خطاً بين الشخص وحياته. الانتحار الحقيقي يحصل قبل قتل النفس، ولا يكون هذا القتل الا رد فعل حياله، انه الانتحار الصامت الذي يرتسم في حمرة العينين. في الكدر الذي يحتل عمقها، في القلق الذي لا حد له، في الكآبة، في العجز، الخرس، الكمود والألم المجهول (..) "أشعر احيانا انني اقدمت على الانتحار مع شاعر "ازهار الشر" ولم انتحر، جبنا أو تحديا للانتحار نفسه، أو ادراكا لعبثية هذا الفعل الذي عشته يوما تلو اليو حتى روضته كلبؤة برية أو حتى روضنتي فخضعت، ولعلني انتمي فعلا الى فئة الأشخاص يسمون، المنتحرين الاحياء.. الذين ينتحرون كل يوم وينهضون كل يوم، حبا بالحياة نفسها وخوفا من الانتحار نفسه الى ان يقول الكاتب: "ومهما قرأنا في الرسائل واليوميات التي يتركها المنتحرون فاننا نظل عاجزين عن إدراك مأساوية تلك اللحظة التي تفصل بين حياة وموت، بين حياة وأخرى. الانتحار فعل شخصي، فعل شخص يرى نفسه وحيدا في مرآة نفسه، شخص لم تبق له سوى هذه المرآة، بعدما تحكمت المرايا الأخرى التي كان يرى فيها الفردوس أو الحبيبة، المنتحر يواجه نفسه بنفسه مهجوراً، تعتمل في داخله لوعة الفراق" وهكذا ينهي الكاتب محاضرته التي هي من جسم النص عن الانتحار قائلاً: اكتب عن الانتحار، اذاً أنا أحيا".
لكن الحلم، أو الأحلام، هي الضفة الأخرى للحياة، فهي هذا الشعور الذي يظل للحظات معلقاً بين عالمين تفصل بينهما بوابة لا مرئية، بوابة بلا عتبة لأقف عندها. ثم يستفيق وكأنه انتقل الى عالم آخر، وفي أحيان كان يختلط على الكاتب العالمان فيتوه هنيهة حائراً ان كان ما يزال يحلم مبصراً ما يبصره عادة هناك، في المنقلب الآخر، أم أنه عبر الباب الخفي ف"هذه الهنيهة كانت تخيفني وتجعلني في حال من الاضطراب الخفيف" خلالها تحس أنك لست هنا ولا هناك، انك حاضر وغائب في اللحظة نفسها، ولطالما أخذني خوف شبه طفولي من ألا أعود يوماً من هناك. أن أقع وهدة النوم واغرق فلا ارجع أو اختفي بجسدي فيشرق الصباح والسرير فارغ. كنت أخشى هذه الفكرة البيضاء التي طالما خطرت لي، ان ابصر نفسي هناك واعجز عن العودة، أن ابصر نفسي ابتعد ولا قدرة لي على النهوض، ومرات كنت اشعر أنني مستيقظ لكن عيني مغمضتان، أسمع ولكن لا أبصر. فأرتجف وأروح أذكر نفسي ببعض ما جرى خلال النهار لأتيقن من انني ما زلت حياً، أو أتذكر ما امكنني تذكره لأقضي على تلك اللحظات الخاطفة. ثم افتح عيني وانظر من حولي ملياً.
مرة قال لي صديقي الشاعر، انه يعجز عن النوم ان لم تكن الغرفة مضاءة (بول شاوول) فهمت جيداً امره، الضوء يقضي على كائنات الليل ويطردها من المخيلة".
الأحلام، النوم وعدم النوم، القلق اليومي، الهذيان الواعي، هناك هذيان ينشد من الوعي، استحضار ثقافات العالم فكان يهيأ له دوماً أن الأحلام. على خلاف ما يقول علماء النفس، تعبر ببطء. وليس بسرعة فائقة "كنت أتخيل الحلم طويلاً ينقطع ويتوالى، مشهداً تلو مشهد، لم أكن أشعر ان الحلم يتخطى الثواني وانصاف الدقائق، وان الأحلام يعقب بعضها بعضاً، كأن الأحلام كلها حلم واحد، يستمر حتى بعد أن يفتح المرء عينيه، وفي النهار يستمر الحلم وحده من غير ان يبصره أحد. فالنهار لا يعني موت الحلم بتاتاً، في النهار يختفي الحلم ليظهر في الليل ويواصل عبوره، ومهما كان الحلم كثيفاً فهو يشبه الأبد في كثافته، وما الأحلام التي اتذكرها سوى لقطات من حلم لا ينتهي، حلم يجتاز تخوم الموت وما وراءه.
ويمتد الحلم الى الطبيعة، وتساؤلات عن أحلام العصافير والورود والأشجار، خيال مفعم بالتساؤلات، التي لا يوجد لها اجوبة، والرجوع الى الخلق الأول، وبداية الأرض وهل كان الإنسان ا لأول يحلم؟ هل حلم بالبحر قبل أن يراه؟ والسماء والنجوم؟ ثم آدم الأب الأول هل كان يحلم عندما كان في الجنّة؟ هل حلم بحواء التي خلقت من ضلعه الخ.
ويذكر الكاتب انه قرأ مرة أن المرء إذا شم رائحة عطرة قبل ان يستسلم للنوم، يحلم أحلاماً جميلة، فعمد أكثر من مرة الى رش المخدة بالعطر ممنياً نفسه بأحلام جميلة، هكذا أفكار الكاتب تخرج من عتمة الروح تحلّق طويلاً وتختفي، فما الذي يجعله يتذكر هذه الأمور؟ انها "عزلتي الشديدة أم ذاك الاضطراب الذي يخالجني كلما تأملتني، كلما تألمت ووخزتني الجروح؟ هل يمكن هذا الألم أن يكون حلماً؟ اتراني أحلم هذه الحياة التي اسميها حياتي أم أن شخصاً آخر هو أنا يحلم حياتي التي هي حياته؟ أفكار تتلوها أفكار مثل حبات سبحة لا نهاية لها. هل تكون الحياة كلها لمحة أقصر من لحظة البرق؟
تتعدى المشاهد المحبوكة بيد خبيرة في خلط العام بالخاص، وفي استدراج الحياة من داخل، البحث عن رؤيا كما عند المتصوفة، التدين العميق الذي يساعد على فهم الحياة والقبول بها كما هي كقدر. إذ استطاع عبده وازن ليس فقط ان يقدم لنا سيرته بل أيضاً ان يقدم لنا خلفية ثقافية باهرة، تكاد تكون لحياتين وليس لحياة واحدة. ليس من بداية ونهاية في هذا النصف العجيب، تدخل الصورة من غير تمهيد ثم تتوالى الصور بما يشبه سينما بأبعادها الثلاثة بالعرض والطول والعمق، حتى لم تكن هناك نهاية، إذ ان النص ترك مفتوحاً على مزيد من الحياة، مزيد من الألق والقلق والمعاناة، مزيد من الاكتشافات الجديدة التي تبدو أنها على حافة الذاكرة المتخمة بالأفكار والأسئلة والتباينات وفهم الحياة من كل جوانبها المعقدة. ولا ننسى المخيلة الشعرية، اللغة الشعرية، التي أعطت الرواية قوة في التعبير، قوة في استنباط اللغة العربية بالذات، وقدرتها على الوصف والمجاز والانتقال من حالة الى حالة بذكاء، وقدرة على التحكم بكل ما جرى لعبده وازن وهو يطل على الحياة من سرير المرض، فاذا هي حياة لا تخطر إلا على بال عبده وازن. سلمت يداك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.