الزمن لم يعد يتيح لنا ما كان يتيحه لطه حسين، لأنه كان يقرأ العمل الأدبي قراءة أولي، قراءة استسلام كامل وطواعية، فإذا رآه ضعيفا، تركه إلي الأبد، وإذا أقنعه وأمتعه، قرأه ثانية، قراءة نقد ونظر، وربما تزيد مرات القراءة، القراءة الرأسية العمودية التي اعتادها طه حسين، منذ كان الفتي حتي أصبح العميد، أصبحت غير جائزة في أيامنا، أصبحت ترفا، فيما أصبحنا نحن أجساما لها عيون، نمشي فوق الكتب، نتسع أفقيا، نتسع كأننا نتمدد، كأننا نشف، كأننا في الخاتمة ننشف ونلتصق بسطح زمننا، وكلما ازداد تمددنا، زادت شفافيتنا وتحولنا من أجسام رخوة إلي أوراق سيلوفان تكشف ما تحتها، وما تحتها هو ظاهر هذا الزمن، ظاهره فقط، عندما قرأت (قلب مفتوح) كتاب عبده وازن الأخير، كنت أفكر هكذا، أنني بعد أن أنتهي من قراءته، قد أهديه إلي صديق، ربما صديقة، ولكن الكتاب أجبرني علي الاحتفاظ به، لأفعل ما كان يفعله طه، الحقيقة أنني مازلت قارئا رأسيا عموديا للأعمال التي أحبها، مازلت أستدعي معها ما يفاجئني وأستغربه، أذكر الآن الممثل روي شيدر بطل فيلم كل هذا الجاز 1979 أذكره يغادر غرفته في المستشفي قبل أن يجروا عملية القلب المفتوح له، ويدخن سيجارة كان يشتهيها، ويفكر أنه سيموت، ويمر علي بقية المرضي بباقي الغرف، وبعدما يفرغ، يخاطب الله ويرجوه أن يمهله حتي ينتهي من إخراج المسرحية تلك، مازلت أذكر روي شيدر وزميلته جيسيكا لانج ومخرجهما بوب فوس، في العقود الأخيرة ظهرت سلالة انشغلت بالهاجس ذاته، يوسف إدريس صاحب افتح قلبك، ويوسف شاهين وفيلمه حدوتة مصرية النائم تحت سرير كل هذا الجاز وجمال الغيطاني وسعيد الكفراوي ومحمود درويش، مازلت أذكر أحمد حسين أحد زعماء حزب العمل، أجري العملية، وكتب بعدها أنه رأي الله، كان وليم جيمس يري أن الإنسان يصل إلي الله عبر التجربة الشخصية، كلهم استعادوا أيامهم بشكل أو بآخر، كان يوسف إدريس الكاتب الطبيب مبهورا بذلك التقدم الذي سمح له أن يري علي الشاشة أمامه ما يفعله الأطباء بقلبه، أصبح القلب المفتوح صيغة واقعية ومجازية، إنه سفر إلي الشاطئ الآخر، قد تعقبه العودة، وقد لا تعقبه، إنه ذكريات من منزل الأموات، الأسلاف الذين سبقوا وازن جعلوا القلب المفتوح طريقا إلي إعادة إنتاج الحياة من أولها إلي أولها الجديد، طريقا إلي محاولة هتك السر، حدث هذا في الوقت الذي كانت فيه فنون السيرة تتقدم إلي الأمام، الكل يكتب سيرته، سيمون دو بوفوار وكاترين مينييه، طه حسين ولويس عوض وسهيل إدريس، حتي الرواية الأولي لصاحبها أو لصاحبتها كانت سيرة شخصية علي الأغلب، لم يكونوا في حاجة إلي قلب مفتوح، لكن عبده وازن انتظر حتي شقوا صدره وبعدها راح يتابع أسلافه ولا يتابعهم، وإن كان أغلب الذين سبقوه لجأوا إلي أجسادهم، وفتشوا في حوادثها، وأعادوها إلي الوجود، فإنه وهو الذي لا يحب أن يكشف جسده أمام رجل آخر، وغالبية القراء مازالوا رجالا، لأنه كذلك، رغب أن يجعل جسده محطته الأولي التي سيفارقها ليكتب بعدها سيرة روحه، الآخرون كتبوا وقائع وحوادث، وهو كتب حالات، ظن وازن ذ دون أن يفصح – أن كتّاب الحوادث عابرون وكذلك حوادثهم، أما كاتب الحالات فعابر وليس كذلك حالاته، الحادثة ابتعاد عن الشعر، وعن الروح الصوفية، وعن اللغة في عتمتها وعماها، الحادثة صلح مع الوقت وتأليف له، والحالات حرب علي الحوادث، حرب ضد الزمن، وطيران فوق الظهور ذالحوادث والزمن- طيران إلي المجهول، الرائي الحق هو صاحب الحالات، وهو إما شاعر أو صوفي، أو شاعر وصوفي، وأيا كان، فإنه لن يكتمل إلا بإنكار الذات، بعدم إفشاء الكرامات، حيث إفشاء الكرامة فخر مذموم، وإخفاؤها تواضع ضروري، لذا يتحرك عبده وازن في كتابه دون بطولة معلنة، والذي لا يجب أن ننساه، هو أن دورة الأدب والفن، منذ عقود قريبة، تتكئ علي عصا إعدام البطل، علي عصا عاديته وبساطته، والذي يجب ألا ننساه هو أن دورات الأدب غير دورات العلم أو السياسة، فالزمن في الأخيرين يتقدم، فيما زمن الأدب، يدور ويسيل، الزمن في العلم والسياسة خطي منظم ينقسم إلي ماض وحاضر ومستقبل، والزمن في الأدب دائري أخرق قد ينقسم ولكنه يخشي التقسيم، بما يعني أن البطل الغائب الآن قد يعاود الظهور بقلب جديد في دورات قادمة، براءة عبده وازن ليست في إنكار البطل، ولكن في إخفائه وراء ستار كثيف، علي سرير مستشفي شرع عبده ينسج الستار، قماش الستار من اللغة، من بسيطها وحميمها، في مصر لا أستطيع أن أتوهم أن الأقباط كانوا أصحاب شراكة ملموسة في صناعة فنون اللغة، علي الرغم من الاستثناءات، في لبنان ظل المسيحيون والموارنة لأزمنة طويلة يعملون كحراس لغة، يعملون كسدنة لا ككهنة، وإبراهيم اليازجي الذي ترجم العهد القديم أحد أفذاذهم، وأحد أفذاذ طفولة عبده الذي أصبح كتاب مخدته هو العهد القديم، مسيحية عبده ليست خارجة من مسيحية جبران، وليست خارجة عنها، إنها ذات نفس يختلط برائحة الغاردينيا، بطولة عبده اللغوية خفية وتكمن في خروجه عن الشائع، حيث الشائع بحث دءوب عن البذاءة والجنس والشهوة، اعتمد عبده عفة اللغة فخالف المألوف الآن، وخرج عن السائد، خالف هيستريا تمزيق حزام العفة، ووضع فمه علي قلب اللغة، ليرشف ما يمكن أن يرشفه الشاعر من تكرارات لصناعة الصوت وتجلية الإيقاع، كنت دائما أريد أن أهمس في الأذن اليمني لجابر عصفور وأقول له: أنت صاحب فكرة، ولست صاحب أسلوب، مثلك في ذلك مثل صاحبك الذي لا تذكره، محمد مندور، وعلي خلاف صاحبك الذي تذكره، طه حسين، كنت أريد أن أهمس في أذنه اليمني، احذر يا جابر، احذر أسماء الموصول لأنك تستخدمها كأنك اكتشفتها فجأة، تستخدمها استخداما تجاريا لزوم كثرة المقالات، هي تساعد علي تسويد الصفحات وملء الفراغات، يكفي أن تقول بشكل عرضي جمال عبد الناصر وتتبعه بمعلومات هكذا، الذي كان زعيما للضباط الأحرار، والذي انتصر في حرب 1956 والذي سجن الشيوعيين منذ أواخر الخمسينيات حتي 1964 والذي تسبب في النكسة، والذي تورط في اليمن، إلخ إلخ، هناك إمكانية لوجود لا لاستخدام أسماء الموصول، وجودا إيقاعيا، مثل هذا الوجود يتردد في القلب المفتوح، "واستعدت في تلك اللحظات صورة الفتي الذي كان أنا، الذي كان يضطرب من غير أن يعلم لماذا، الذي كانت تغيم عيناه، الذي كان يأخذه الخوف مما لا يعلم، الذي كان يتألم عندما تنتابه الهواجس" ها هما الاستخدام التجاري والوجود الصوتي والإيقاعي، الوجود الموصول بالشعر، وهذا ما يجعل سيرة عبده تصطاد الريح بأكثر من شص، برع عبده وازن في صناعة الستار الذي يقف وراءه، الستار من لغة، كما برع في توزيع الخروم التي تتخلله، والتي جاءت محكومة بتلك الثنائية الحاضرة طوال السيرة، ثنائية المؤمن الملحد، المنتحر العائد من انتحاره، المؤمن المشكك، اليساري بجذور يمينية، اليميني بهاجس يساري، كائن البين بين الذي يحب مثلما يكره، وثنائيات أخري أصغر أو أدق، وكلها ليست ثنائيات عقلية، ليست هيجلية، إنها ثنائيات الشعر، أحدها لا يطمع في إزاحة الآخر، لا يطمع في احتوائه، ثنائيات تهدف إلي خلخلة صاحبها الواقف علي الحبل الواصل بين هاويتين، الحبل الذي كأنه حافة، والحافة التي كأنها وجود، تلك الثنائية التي لا يتأرجح علي حبلها إلا بطل لا نري بطولته، ومثل بطولة عبده وازن اللغوية، وبطولته الثنائية، تنوجد بطولة ثالثة، تقوم علي مخالفة السائد، مخالفة خافتة وعميقة، فالسائد أن تكون علمانيا، يساريا جديدا، أن تكون في الأخير شيوعيا سابقا، أن تدعي قراءة الكتب العقائدية التي تضم نظريات أيديولوجية واقتصادية، أما أن تكون الكائن الديني الذي لا يمكنه أن يتصور الإنسان دون روح، والعالم دون خالق، والحياة دون رحمة، فتلك هي البطولة الخافتة، والتي تكمن أيضا في احتيال يليق بالكتابة الجميلة، أقرأ الفصل الأول، وهو فصل الدخول إلي الكوميديا الإلهية ذ الكوميديا الأرضية، الدخول فوق طاولة مستطيلة هي أشبه بسرير ضيق، وراءه شاشة تكشف نبض القلب، بعد هذا الفصل، تتوالي الفصول كأنها مواقف، موقف الحلم، موقف الاكتئاب، موقف السواد، موقف البياض، موقف الملائكة، موقف العمي، موقف الانتحار، كل موقف مكتف بذاته، تظهر حاجته إلي الاكتمال إذا قرأت الموقف الذي يليه، لتتحقق ثنائية جديدة من الاتصال والانفصال، وهي أيضا ثنائية شعرية، وعلي حافتها يقف الفتي عبده وازن، فنفكر كيف كانت وقفة أول فتي، الفتي طه حسين، حتي لا نفكر في الوقفة الأكثر إلغازا، وقفة المسيح علي الصليب.