عبده وازن شاعر لبناني عرف بدواوينه الشعرية ومنها "سراج الفتنة" (2000)، و"نار العودة" (2002)، و"حياة معطلة"(2007)، وله أيضا مؤلفات أخري منها كتابه عن أعمال محمود درويش الجديدة "محمود درويش الغريب يقع علي نفسه" (2006). ما الذي يمكن أن يكتبه إذا هذا الشاعر عن عملية القلب المفتوح التي أجراها، تلك العملية التي تحولت إلي كتاب يحمل نفس العنوان (الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، 2010). تنبئ كل التوقعات المباشرة النمطية أن الكتاب هو سيرة المرض، سيرة المحنة الجراحية التي قد تزود صاحبها بإحساس التطهر، قد تكون أيضا تجربة الدخول في ذلك النفق الفاصل بين الموت والحياة، ذلك النفق الذي طالما أغري العديد من البشر بالكتابة عنه أو تخيله أو تحويله إلي اليجوري ممتدة. إلا أن ما يكتبه عبده وازن يتحول إلي أحد أشكال السيرة الذاتية المختلفة تماما عن شكل السيرة المعتاد، أقصد تحديدا ذلك الشكل الذكوري التقليدي الذي يعتمد التطور الخطي منهاجا، لينتقل من حال إلي آخر، وكأن الذات تعيد ترتيب تشرذمها في الكتابة من ناحية، وتوهم القارئ بقدرتها علي الإمساك بمقدراتها من ناحية أخري. لا يقترب وازن من ذلك الشكل مطلقا، بل يترك الذات تعبر عن كل تشرذمها الحقيقي، وتحاول عبر الكتابة أن تنظر إلي نفسها لتفسر مواقفها وحالاتها المختلفة، تخرج الذات من نفسها لتتأمل نفسها في مرآة الكتابة. وبقدر ما يبدو هذا المنهج مشابها لمنهج ايمانويل كانط في تأمل العقل، إلا أنه يقترب أكثر من التوجه الانجليزي الرومانسي الذي بلوره الشاعر ويليام وردزورث- رائد الرومانسية- في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. فقد كان وردزورث هو صاحب المقولة الشهيرة "الطفل أبا الرجل"، وهو ما حوره وازن في سيرته ليقول "أبصر ذلك الطفل الذي كنته، الذي أصبحت في عمر أبيه" (27). تتحول هذه الجملة بكل تنويعاتها إلي الرابط الأساسي لكافة الصور المسترجعة، وهي الصور المتعلقة بحال الطفولة، مما يجعل كتاب "قلب مفتوح" سيرة تشكل الوعي وحال استقبال العالم. وقد كان الرعيل الأول من الشعراء الرومانسيين الانجليز يعتمد علي الذاكرة كوسيلة لتأمل الذات في أحوالها، لكن أكثر ما كان يستهويهم هو استرجاع حال الطفولة في توحدها مع الطبيعة، حتي أن وردزورث قد افرد معظم قصائده لحال الطفل الذي كانه والذي لا يمكنه العودة له بفعل الوعي الضاغط وبفعل فقدان القدرة علي الشعور بالدهشة والتلقائية في التعامل مع العالم. هكذا ينفتح الحكي علي ذلك المريض الذي يغادر المخدر جسده ليسترد وعيه باللحظة، إلا أن هذا الوعي يرتد لمرحلة الطفولة، مرحلة التشكل، مرحلة الفهم والاستقبال، ليدرك الراوي أن ما تشكل منذ زمن لم يغادر عقله، كل ما في الأمر أنه تحور قليلا ليلائم "الرجل الذي أصبحه" بالرغم من إحساسه أنها "طفولة شخص آخر". في لحظة العودة إلي الطفولة يبدأ الحكي بقلب مفتوح بالمعني المجازي للمصطلح. حكي مفتوح تماما لا يبالي بالحسابات المعتادة عندما يتعلق الأمر بكتابة السيرة و لا ينزلق أيضا في الفخاخ المغرية للغريزة الإنسانية علي مدار التاريخ، مثل التفاخر بانجازات بطولية أو وصم الآخر (الذي غالبا ما يكون قد غادر الحياة)، أو تجميل القبيح، أو التنصل من أفكار بعينها، أقول بالرغم من الإغراءات المطروحة في القيام بذلك والتي خضع لها العديد من الذين كتبوا سيرتهم لم يلتفت عبده وازن مطلقا لذلك، والتزم بالحكي عن ما يخص الذات فقط ومن هنا انفتحت السيرة علي عدة سير عبر تقنية توالد الأفكار.
تشابكت مستويات الحكي "المفتوح" فكان المستوي العاطفي الذي تحول إلي صور تتراوح بين الحلم واليقظة، وهو ما مكن الكاتب من استرجاع سيرته مع الأحلام واسترجاع صورة الأم وهي تقص الأحلام، ومن صورة الأم بدأ الحكي عن المخاوف والهواجس حتي وقع الحدث الجلل الرئيسي وهو فقدان الأب، بلغة الأهل والمعارف والأصدقاء آنذاك وقع "اليتم". وقد أفرد الكاتب لهذه الواقعة بكافة دلالاتها الاجتماعية والنفسية الكثير من الصفحات، وذلك دون أن يتبني نغمة العويل والنواح المعتادة في مثل هذه الوقائع، ولم ينزلق إلي إدعاء الشعور بالفقد، بل كان ما يشغل باله وهو الطفل الذي كانه هو الحرمان من مشاهدة التليفزيون (علامة الحداد)، فتنفتح السيرة علي دور التليفزيون في تشكيل الوعي، وعلي الانبهار بالصور المنبعثة من ذلك الجهاز آنذاك. وبالرغم من رصد الكاتب لمميزات غياب الأب (غياب العقاب والتعنيف، غياب السلطة) لا يذكر الميزة الأهم، بل يتركها تنضح بين السطور. فإذا كان "قلب مفتوح"- العنوان- قد اكتسب العديد من الدلالات التي ابتعدت بالمصطلح عن العملية الجراحية واقتربت به من الجدل الفلسفي مع الطفل الذي كان، فإن غياب الأب تحول بالمثل إلي سمة رئيسة للرجل الذي أصبحه، غاب الأب السياسي والكاهن الديني والكاتب الأوحد والحقيقة الواحدة، غاب الدين الأوحد، والأسلوب الأمثل، غابت كل صيغ التفضيل ليزداد ثراء الذات: "...لكنني كنت أشعر أنني يساري بالسليقة، يساري هو يميني بالنشأة. ...أحببت الشيوعية لكنني لم أستطع أن أكون شيوعيا. نشأت يمينيا لكنني لم أستطع أن أمكث تحت سقف اليمين. كنت مسيحيا وعلمانيا إلي أن أصبحت بعد أعوام كائنا دينيا تمتزج فيه الأديان علي طريقة الحلاج، كائنا مقتلعا لا ينكر ماضيه ولا يعترف به. إنني كائن البين بين، الكائن الذي يحب مثلما يكره، المؤمن والمشكك" (143). مع غياب الأب غاب التعصب لفكرة بعينها، وغاب ما يمثله الأب علي المستوي الفلسفي من الشعور بضرورة الوصول إلي المركز، فكان الكائن "البين بين"، وهو ما لا يعني مطلقا ما قد يتصوره البعض من غياب الحسم وبالتالي تفضيل المنطقة الرمادية، بل إن "البين بين" (مصطلح استخدمته بعض نظريات ما بعد الاستعمار وخاصة الناقد هومي بابا) دلالة ثراء ثقافي وقدرة علي توليد فكرة جديدة من أخري قديمة.
في ظل غياب الأب يغيب مفهوم الرقابة التقليدية التي تنشأ مع تفتح الوعي للعالم، تغيب الرقابة الذاتية التي تعمل غالبا بدون كلل والتي سمح غياب الأب بيولوجيا ورمزيا بالتغلب عليها فانفتحت سيرة المسكوت عنه في الوطن، لبنان التي تعتمل الطائفية في نسيجها بقسوة وشراسة منذ ومن قبل الحرب الأهلية. قال وازن ما لم يقله أحد من قبل (إلا ربما تشفيا أو اتهاما) عن موقف الترحيب الذي أظهرته بعض الطوائف اللبنانية تجاه "الطائرات الإسرائيلية"، سمح غياب الأب عن الإعلان عن قوة الغريزة الدينية وعن حال الذات في تحويرها وتغييرها حتي تتحول إلي موقف فلسفي، وسمح غياب الأب أيضا بتحويل الفكرة السلبية السائدة الراسخة عن الانتحار إلي فكرة ايجابية لا تعبر إلا عن فعل إرادي نابع من الذات لا يحمل معني القتل في ثناياه، ثم قام بتضفير ذلك بصور أدبية وحياتية حتي وصل إلي الفكرة التي يصبغها بلهجة ديكارتية تنم عن الجدلية التي أنجزتها الذات مع نفسها، فيقول: "أكتب عن الانتحار، إذا أنا أحيا" (122). "قلب مفتوح" شكل مفتوح لجنس السيرة الذاتية، وهي السيرة التي ترصد الجدل بين الماضي (الطفولة) والحاضر (في غرفة المستشفي)، سيرة تعمد إلي هدم كل فكرة تبنيها لتتوالد الأفكار في شكل لا نهائي، يختفي مركز السرد مع غياب الأب ويحصل الكاتب علي حرية مطلقة في تأمل ذاك الطفل وهذا الرجل بقلب مفتوح وبعقل جديد: "لا أكتب لأواجه ولا لأتحرر ولا لانتفض ولا لأهرب ولا لأغير الحياة أو العالم ولا ولا ...أكتب لأكون أنا نفسي" (207).