صوت الرئيس.. وإرادة الشعب    جامعة المنوفية تواصل صعودها العالمي: ظهور متميز في تصنيف QS للاستدامة 2026    رئيس هيئة الرقابة المالية يشارك في ورش عمل تطوير الأسواق النامية والناشئة    فيديو وصور.. السيدة انتصار السيسي تصطحب قرينة رئيس كوريا الجنوبية في زيارة للمتحف الكبير    ترامب: سنجري قريبا مفاوضات مع مادورو    جعجع: مزارع شبعا ذريعة بيد حزب الله.. والحل القانوني متاح وواضح    الأهلي يكشف أسباب غياب عبد القادر وشكري عن مواجهة شبيبة القبائل    الترسانة يتعادل مع المنصورة في ختام الأسبوع ال13 بدورى المحترفين    أهلي جدة المنقوص يتقدم على القادسية في الشوط الأول    للمرة الثانية في تاريخه.. الجيش الملكي بطلًا لدوري أبطال أفريقيا للسيدات    كرة سلة - سبورتنج يحسم المركز الثالث في دوري المرتبط    مدرسة خاصة تكشف وقائع التحرش بالاطفال وتؤكد:تعاملنا مع البلاغ..ومتضامنين مع أولياء الأمور    صوت هند رجب يفتتح حفل ختام القاهرة السينمائي في رسالة مؤثرة    آية عبد الرحمن: الشيخة سكينة حسن شهد لها كبار القراء بخشوع صوتها ودقة آدائها    وكيل صحة سيناء يستبعد مسئول الرعاية الأساسية ببئر العبد ويحيل المتغيبين للتحقيق    رئيس الغرفة التجارية بالقاهرة يدعو الحكومة لمراجعة قرار فرض رسوم الإغراق على البيليت    جعجع: لبنان يعيش لحظة خطيرة والبلاد تقف على مفترق طرق    ترامب يستقبل رئيس بلدية نيويورك المنتخب زهران ممداني بعد حملة انتخابية حادة    عالم بالأوقاف: الإمام الحسين هو النور المكتمل بين الإمامة والنبوة    سقوط عصابة تقودها فتاة استدرجت شابًا عبر تطبيق تعارف وسرقته تحت تهديد السلاح بالدقي    جيش الاحتلال الإسرائيلى يعترف باغتيال جندى واعتقال آخر فى نابلس    مصطفى حجاج يستعد لطرح «كاس وداير».. تطرح قريبًا    حسين فهمى: التكنولوجيا والشباب يرسمان مستقبل مهرجان القاهرة السينمائى    إقبال جماهيري كبير على حفل روائع عمار الشريعي ورؤية جديدة لمؤلفاته بتوقيع هاني فرحات    أحمد فؤاد سليم يكشف سر استمرار زواجه 50 عاما: الحب هو الأساس والأحفاد فلفل الحياة    بسبب رسامة فتيات كشمامسة.. الأنبا بولس يطلب من البابا تواضروس خلوة بدير العذراء البراموس    اتحاد جدة يستعيد الانتصارات أمام الرياض في الدوري السعودي    الرئيس الفنزويلي يأمر بنشر صواريخ على سواحل الكاريبي ردًا على التهديدات الأمريكية    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    أول تعليق من نادية مصطفى على أزمة ملف الإسكان بنقابة الموسيقيين    ضبط طفلان تعديا على طلاب ومعلمي مدرسة بالسب من سطح منزل بالإسكندرية    إقبال كثيف وانتظام لافت.. «القاهرة الإخبارية» ترصد سير انتخابات النواب فى الأردن    ميدو عادل: خشيت فى بعض الفترات ألا يظهر جيل جديد من النقاد    رفع 30 طنا من القمامة والمخلفات والأتربة بمدينة ناصر بحى شرق سوهاج    أصداء إعلامية عالمية واسعة للزيارة التاريخية للرئيس الكوري الجنوبي لجامعة القاهرة    تعرف علي مواقيت الصلاة اليوم الجمعة فى سوهاج    المصري الديمقراطي يطالب خطوات "الوطنية للانتخابات" لمنع تكرار مخالفات المرحلة الأولى    ارتفاع حصيلة ضحايا زلزال بنجلاديش إلى 5 قتلى ونحو 100 مصاب    كيف يؤثر تناول السكر على مرضى السكري وما الكمية المسموح بها؟    «الزراعة» تواصل حملاتها لحماية الثروة الداجنة    جامعة بنها ومؤسسة حياة كريمة ينظمان قافلة بيطرية بمنشاة القناطر    دعاء يوم الجمعة لأهل غزة بفك الكرب ونزول الرحمة.. اللهم يا فارج الهم ويا كاشف الغم فرّج عن أهل غزة فرجًا عاجلًا    الحكومة الفرنسية: أطفالنا لن يذهبوا للقتال والموت فى أوكرانيا    فليك: ميسي أفضل لاعب في العقد الأخير.. وتدريبه ليس من اختصاصي    بعد إحالته للجنايات.. تفاصيل 10 أيام تحقيقات مع المتهم بقتل صديقه مهندس الإسكندرية    مواصلة الجهود الأمنية لتحقيق الأمن ومواجهة كافة أشكال الخروج على القانون    السفير المصري بنيوزيلندا: انتخابات النواب تسير بسهولة ويسر    إصابة 3 شباب في حادث مروري بنجع حمادي    وزيرة التخطيط: ملتزمون بتمكين المرأة اقتصاديًا بما يتماشى مع رؤية مصر 2030    زيلينسكي يرفض إقالة أقوى مستشاريه رغم تفاقم فضيحة فساد كبرى    أفضل وقت لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة وفضلها العظيم    رشا عبد العال: النظام الضريبي المتكامل للمشروعات التي لا يتجاوز حجم أعمالها السنوي 20 مليون جنيه    كهرباء الإسماعيلية مهتم بضم كهربا    اسعار الدواجن اليوم الجمعه 21 نوفمبر 2025 فى المنيا    الجالية المصرية بالأردن تدلي بأصواتها في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    مرشحون يتغلبون على ضعف القدرة المالية بدعاية إبداعية    أخبار مصر: مصير طعون إلغاء الانتخابات، تفاصيل اعتداء 4 عاملين بمدرسة دولية على 6 تلاميذ، أبرز بنود خطة السلام في أوكرانيا    تحذير جوي بشأن طقس اليوم الجمعة.. خد بالك من الطريق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أكتب عن الانتحار، إذاً أنا أحيا:
قلب مفتوح أو كائن البين بين!
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 05 - 2010

عبده وازن شاعر لبناني عرف بدواوينه الشعرية ومنها "سراج الفتنة" (2000)، و"نار العودة" (2002)، و"حياة معطلة"(2007)، وله أيضا مؤلفات أخري منها كتابه عن أعمال محمود درويش الجديدة "محمود درويش الغريب يقع علي نفسه" (2006). ما الذي يمكن أن يكتبه إذا هذا الشاعر عن عملية القلب المفتوح التي أجراها، تلك العملية التي تحولت إلي كتاب يحمل نفس العنوان (الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، 2010). تنبئ كل التوقعات المباشرة النمطية أن الكتاب هو سيرة المرض، سيرة المحنة الجراحية التي قد تزود صاحبها بإحساس التطهر، قد تكون أيضا تجربة الدخول في ذلك النفق الفاصل بين الموت والحياة، ذلك النفق الذي طالما أغري العديد من البشر بالكتابة عنه أو تخيله أو تحويله إلي اليجوري ممتدة. إلا أن ما يكتبه عبده وازن يتحول إلي أحد أشكال السيرة الذاتية المختلفة تماما عن شكل السيرة المعتاد، أقصد تحديدا ذلك الشكل الذكوري التقليدي الذي يعتمد التطور الخطي منهاجا، لينتقل من حال إلي آخر، وكأن الذات تعيد ترتيب تشرذمها في الكتابة من ناحية، وتوهم القارئ بقدرتها علي الإمساك بمقدراتها من ناحية أخري. لا يقترب وازن من ذلك الشكل مطلقا، بل يترك الذات تعبر عن كل تشرذمها الحقيقي، وتحاول عبر الكتابة أن تنظر إلي نفسها لتفسر مواقفها وحالاتها المختلفة، تخرج الذات من نفسها لتتأمل نفسها في مرآة الكتابة. وبقدر ما يبدو هذا المنهج مشابها لمنهج ايمانويل كانط في تأمل العقل، إلا أنه يقترب أكثر من التوجه الانجليزي الرومانسي الذي بلوره الشاعر ويليام وردزورث- رائد الرومانسية- في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. فقد كان وردزورث هو صاحب المقولة الشهيرة "الطفل أبا الرجل"، وهو ما حوره وازن في سيرته ليقول "أبصر ذلك الطفل الذي كنته، الذي أصبحت في عمر أبيه" (27). تتحول هذه الجملة بكل تنويعاتها إلي الرابط الأساسي لكافة الصور المسترجعة، وهي الصور المتعلقة بحال الطفولة، مما يجعل كتاب "قلب مفتوح" سيرة تشكل الوعي وحال استقبال العالم. وقد كان الرعيل الأول من الشعراء الرومانسيين الانجليز يعتمد علي الذاكرة كوسيلة لتأمل الذات في أحوالها، لكن أكثر ما كان يستهويهم هو استرجاع حال الطفولة في توحدها مع الطبيعة، حتي أن وردزورث قد افرد معظم قصائده لحال الطفل الذي كانه والذي لا يمكنه العودة له بفعل الوعي الضاغط وبفعل فقدان القدرة علي الشعور بالدهشة والتلقائية في التعامل مع العالم.
هكذا ينفتح الحكي علي ذلك المريض الذي يغادر المخدر جسده ليسترد وعيه باللحظة، إلا أن هذا الوعي يرتد لمرحلة الطفولة، مرحلة التشكل، مرحلة الفهم والاستقبال، ليدرك الراوي أن ما تشكل منذ زمن لم يغادر عقله، كل ما في الأمر أنه تحور قليلا ليلائم "الرجل الذي أصبحه" بالرغم من إحساسه أنها "طفولة شخص آخر". في لحظة العودة إلي الطفولة يبدأ الحكي بقلب مفتوح بالمعني المجازي للمصطلح. حكي مفتوح تماما لا يبالي بالحسابات المعتادة عندما يتعلق الأمر بكتابة السيرة و لا ينزلق أيضا في الفخاخ المغرية للغريزة الإنسانية علي مدار التاريخ، مثل التفاخر بانجازات بطولية أو وصم الآخر (الذي غالبا ما يكون قد غادر الحياة)، أو تجميل القبيح، أو التنصل من أفكار بعينها، أقول بالرغم من الإغراءات المطروحة في القيام بذلك والتي خضع لها العديد من الذين كتبوا سيرتهم لم يلتفت عبده وازن مطلقا لذلك، والتزم بالحكي عن ما يخص الذات فقط ومن هنا انفتحت السيرة علي عدة سير عبر تقنية توالد الأفكار.

تشابكت مستويات الحكي "المفتوح" فكان المستوي العاطفي الذي تحول إلي صور تتراوح بين الحلم واليقظة، وهو ما مكن الكاتب من استرجاع سيرته مع الأحلام واسترجاع صورة الأم وهي تقص الأحلام، ومن صورة الأم بدأ الحكي عن المخاوف والهواجس حتي وقع الحدث الجلل الرئيسي وهو فقدان الأب، بلغة الأهل والمعارف والأصدقاء آنذاك وقع "اليتم". وقد أفرد الكاتب لهذه الواقعة بكافة دلالاتها الاجتماعية والنفسية الكثير من الصفحات، وذلك دون أن يتبني نغمة العويل والنواح المعتادة في مثل هذه الوقائع، ولم ينزلق إلي إدعاء الشعور بالفقد، بل كان ما يشغل باله وهو الطفل الذي كانه هو الحرمان من مشاهدة التليفزيون (علامة الحداد)، فتنفتح السيرة علي دور التليفزيون في تشكيل الوعي، وعلي الانبهار بالصور المنبعثة من ذلك الجهاز آنذاك. وبالرغم من رصد الكاتب لمميزات غياب الأب (غياب العقاب والتعنيف، غياب السلطة) لا يذكر الميزة الأهم، بل يتركها تنضح بين السطور. فإذا كان "قلب مفتوح"- العنوان- قد اكتسب العديد من الدلالات التي ابتعدت بالمصطلح عن العملية الجراحية واقتربت به من الجدل الفلسفي مع الطفل الذي كان، فإن غياب الأب تحول بالمثل إلي سمة رئيسة للرجل الذي أصبحه، غاب الأب السياسي والكاهن الديني والكاتب الأوحد والحقيقة الواحدة، غاب الدين الأوحد، والأسلوب الأمثل، غابت كل صيغ التفضيل ليزداد ثراء الذات: "...لكنني كنت أشعر أنني يساري بالسليقة، يساري هو يميني بالنشأة. ...أحببت الشيوعية لكنني لم أستطع أن أكون شيوعيا. نشأت يمينيا لكنني لم أستطع أن أمكث تحت سقف اليمين. كنت مسيحيا وعلمانيا إلي أن أصبحت بعد أعوام كائنا دينيا تمتزج فيه الأديان علي طريقة الحلاج، كائنا مقتلعا لا ينكر ماضيه ولا يعترف به. إنني كائن البين بين، الكائن الذي يحب مثلما يكره، المؤمن والمشكك" (143). مع غياب الأب غاب التعصب لفكرة بعينها، وغاب ما يمثله الأب علي المستوي الفلسفي من الشعور بضرورة الوصول إلي المركز، فكان الكائن "البين بين"، وهو ما لا يعني مطلقا ما قد يتصوره البعض من غياب الحسم وبالتالي تفضيل المنطقة الرمادية، بل إن "البين بين" (مصطلح استخدمته بعض نظريات ما بعد الاستعمار وخاصة الناقد هومي بابا) دلالة ثراء ثقافي وقدرة علي توليد فكرة جديدة من أخري قديمة.

في ظل غياب الأب يغيب مفهوم الرقابة التقليدية التي تنشأ مع تفتح الوعي للعالم، تغيب الرقابة الذاتية التي تعمل غالبا بدون كلل والتي سمح غياب الأب بيولوجيا ورمزيا بالتغلب عليها فانفتحت سيرة المسكوت عنه في الوطن، لبنان التي تعتمل الطائفية في نسيجها بقسوة وشراسة منذ ومن قبل الحرب الأهلية. قال وازن ما لم يقله أحد من قبل (إلا ربما تشفيا أو اتهاما) عن موقف الترحيب الذي أظهرته بعض الطوائف اللبنانية تجاه "الطائرات الإسرائيلية"، سمح غياب الأب عن الإعلان عن قوة الغريزة الدينية وعن حال الذات في تحويرها وتغييرها حتي تتحول إلي موقف فلسفي، وسمح غياب الأب أيضا بتحويل الفكرة السلبية السائدة الراسخة عن الانتحار إلي فكرة ايجابية لا تعبر إلا عن فعل إرادي نابع من الذات لا يحمل معني القتل في ثناياه، ثم قام بتضفير ذلك بصور أدبية وحياتية حتي وصل إلي الفكرة التي يصبغها بلهجة ديكارتية تنم عن الجدلية التي أنجزتها الذات مع نفسها، فيقول: "أكتب عن الانتحار، إذا أنا أحيا" (122).
"قلب مفتوح" شكل مفتوح لجنس السيرة الذاتية، وهي السيرة التي ترصد الجدل بين الماضي (الطفولة) والحاضر (في غرفة المستشفي)، سيرة تعمد إلي هدم كل فكرة تبنيها لتتوالد الأفكار في شكل لا نهائي، يختفي مركز السرد مع غياب الأب ويحصل الكاتب علي حرية مطلقة في تأمل ذاك الطفل وهذا الرجل بقلب مفتوح وبعقل جديد: "لا أكتب لأواجه ولا لأتحرر ولا لانتفض ولا لأهرب ولا لأغير الحياة أو العالم ولا ولا ...أكتب لأكون أنا نفسي" (207).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.