في كتابه قلب مفتوح الصادر عن الدار العربية للعلوم لا يكتفي الشاعر اللبناني عبده وازن برصد تجربة الالم التي عاني منها خلال العملية الجراحية التي أجراها في القلب قبل نحو عامين وانما يمضي الي خطوة أبعد تقوم علي مواجهة الذات وتعريتها بالكامل, فلحظة المرض التي حرمته من الاحلام تبدو هنا مدخلا لمكاشفة الذات ومساءلتها والتوقف أمام محطات العمر الذي يبدو في الكتاب حافلا بالكثير الذي وضعه الشاعر دائما في مساحة مسكوت عنها. تقود لحظة العري الحقيقية التي عاشها الكاتب وهو يمضي الي غرفة العمليات الي اكتشاف حقيقة مؤلمة وهي ان الجروح تمنح الجسد حقيقة أخري وهما آخر, فهي تصالح بين حطام الجسد وضوء الروح القادم من الداخل. في نفس الوقت تنبه صاحبها الي ان الجسم هو أيضا ذاكرة تخفي في ثنياها ماضيا مفعما بالالم والحيرة باعتبار ان الجسم هو التاريخ الشخصي للكائن ويتساءل الكاتب: أليس الجسد هو ذاكرة الانسان التي لا تخمد ؟ ولا يمكن لقاريء هذا الكتاب الا ان يستدعي نصوصا مماثلة كتبت في مأزق المرض ذاته, لعل أبرزها كتاب جمال الغيطاني الذي أسماه كتاب الألم وكتب بعض نصوصه في ظرف مشابه, كذلك يحيل الكتاب بشكل غير مباشر الي فيلم أمريكا أمريكا لايليا كازان والفيلم الشهير كل هذا الجاز لبوب فوس كما يذكرأيضا بفيلم' حدوتة مصرية' للمخرج الراحل يوسف شاهين وفي كل تلك الاعمال نري المريض نفسه وهو علي الخط الفاصل بين الموت والحياة, ليخضع تاريخه كله لنوع من المراجعة الأقرب الي' المحاكمة' غير انها في هذا النص تأتي مراجعة خالية من قسوة جلد الذات. وكما هي العادة في معظم النصوص اللبنانية تحضر الحرب في خلفية النص لانها هي التي تدير أقدار اللبنانيين, وتأتي هنا ملازمة لفعل الموت الذي رافق الشاعر في طفولته وشبابه وسرق منه الأحبة والجيران فقد اختطف والده وعاش عمره في فضاء اليتم الذي لم يحبه أبدا علي الرغم من انه اكسبه ميزات تنافسية الي جوار أقرانه الذين حرمتهم سلطة الأب من حرية المراهقة, وفي مقابل غياب صورة الأب وسلطته تحضر الأم هنا في صورتها الأبهي لكنها مغلفة دائما بأثواب الحداد فهي أم تزداد قربا وبعدا في آن واحد, فقد أبعدها حزن الفقد وقربتها المسئولية بصورة جعلتها السيدة التي عاشت خارج جسدها فقد ترملت شابة ولم تشعر يوما بحاجتها الي رجل. والي جوار تلك المساحات الانسانية تحضر تفاصيل الحياة اليومية في لبنان من نهاية الخمسينيات وحتي أوائل الثمانينيات ونلتقط معها اشارات من سنوات طفولة الكاتب ولحظات ادمانه لمشاهدة التليفزيون وهو ادمان قاده للغرام بمشاهدة السينما التي تقترن بالعتمة وهنا يستدعي لحظات الانبهار بالعتمة وبالعمي الذي عاشه الجار وعلينا هنا ان نتذكر ما كتبه الناقد الفرنسي اللامع رولان بارت عن عتمة السينما باعتبارها واحدة من مؤثرات عملية التلقي. وفي صفحات كثيرة يجدد الكتاب فكرة الايمان بحد ذاتها اذ يكتشف الشاعر في اقصي لحظات قلقه كيف ان ايمانه يملؤه كأنه الظل الخفي الذي يرافقه لكن الكتاب لا يخلو كذلك من تقدير لحالات القلق الوجودي المصاحبة لسنوات تكوين وعي الشاعر لذلك نجد أنفسنا في صفحات كثيرة أمام تساؤلات وجودية عميقة حول معني الحياة وتقديس لحظات اللا طمأنينة علي النحو الذي يذكر بعبارة المتنبي علي قلق كأن الريح تحتي.واللافت ان هذا القلق يجعل صاحبه علي شفا الانتحار لكنه يجبن امام تلك الفكرة ويفضل دائما ان يعيش عمقها الفلسفي وليس قسوتها. يحفل الكتاب اجمالا بمساحة كبيرة من الصدق تجعله علي حدود السيرة الذاتية, فالنص كله هو محاورة مع ذاكرة غير مثقوبة, تحتفي بألمها وبتاريخها الذي يبدو نضرا ومثيرا للخيال علي الرغم من أنه يأتي خاليا من المجاز الذي يميز التجربة الشعرية لمؤلفه, فالمجاز القليل الموجود في الكتاب ليس مصدره المقدرة الشعرية الفريدة لصاحبه و لا الرغبة في اثارة خيال القاريء وانما الحاجة الي مناورة الذاكرة واللعب معها واستجلابها من دون الوقوع في فخ الاستلاب الذي يغري بمكاشفات لا لزوم لها في نصوص من هذا النوع.