حوارنا مع الشاعر أمجد ناصر، يذهب إلى مناطقه الإبداعية، قريبها وبعيدها، يستدعي بدايات الصرخة الأولى لما صاره أمجد لاحقاً، هو الذي صدرت الترجمة الإنجليزية لكتاب يضم معظم أعماله بعنوان راعي العزلة عن دار بانيبال بوكس اللندنية مؤخراً، ويصدر كتابه فرصة ثانية ، في إطار مشروع التفرغ الإبداعي الذي تشرف عليه وزارة الثقافة قريباً. عشرة أعمال شعرية على مدار نحو أربعة عقود، ظلت محط اهتمام عدد كبير من النقاد والشعراء العرب من أمثال: أدونيس، صبحي حديدي، حاتم الصكر، كمال أبو ديب، صبري حافظ، عباس بيضون، عبده وازن، محمد بدوي، رشيد يحياوي، فخري صالح، محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، محسن جاسم الموسوي، رجاء بن سلامة، فتحي عبد الله، حلمي سالم. واحتُفي بتجربته في عددين احتفائيين من مجلة الشعراء الفلسطينية و أفكار الأردنية. كما صدر عنه عدد خاص من سلسلة كتاب في جريدة . يقيم أمجد ناصر بلندن، حيث يعمل مديراً لتحرير القدس العربي ، ويشرف على القسم الثقافي في الصحيفة منذ إصدارها في لندن العام 1989. تالياً حوار حول التجربة: * سأبدأ بسؤال نابع من تجربتي الشخصية مع كتابتك، إذ كثيراً ما جذبتنا، نحن قراءك، في اتجاهات متنوعة. في الأسابيع الأخيرة حاولت إعادة القراءة لتحديد نقاط حديثنا، لكنني عجزت عن ذلك لفرط تنوع مجالات اهتمامك، ما سر التنوع والغزارة؟ - قد تكون الصحافة وانخراطي في الشأن العام ساعدا على تنوع كتابتي إلى جانب القصيدة. قلة هم الشعراء، في كل حال، الذين لم يكتبوا شيئاً آخر غير الشعر. أكاد، في الواقع، لا أعرف شاعراً كرس قلمه، على نحو نهائي، للقصيدة فقط. في ما يخصني بدأت العمل الصحفي، أو الكتابة للصحافة، في سن مبكرة، كذلك كان اهتمامي بالشأن العام. قبل أن أطبع مجموعتي الأولى كنت منخرطاً تماماً في العمل الصحفي، وهذا يتطلب كتابة، وعملاً في تحرير الكتابة كذلك. ربما يلاحظ من يدقق في كتابتي غير الشعرية عمل قلم التحرير فيها. إنها كتابة تخضع لمعايير مشابهة للمعايير التي أعتمدها في عملي المهني، كالحذف والدقة في التعبير، الاقتصاد، الوضوح، ما أمكن ذلك، والبعد الوظيفي. هناك بالطبع تفلتات من هذه المعايير في النصوص الطويلة التي كتبتها. بالإجمال هذا هو تصوري لتنوع مادة الكتابية وربما لاختلاف مناخاتها وأساليبها، فلكل حقل مفرادته وطرقه في التعبير. * كتابك ضمن مشروع التفرغ الأدبي قيد الصدور. ما الذي يضيفه هذا الكتاب لتجربتك الإبداعية؟ - الكتاب بعنوان فرصة ثانية ، وهو عمل شعري سردي مركب، فيه شيء من السيرة وفيه شيء من المكان وفيه شيء من الواقع وشيء من الحلم. لا أعرف كيف أصنفه. أسميه، مؤقتاً، كتابة على أرض الشعر وفي أفقه. إنه ليس نصاً مفتوحاً ولا قصيدة نثر ولا سرداً قصصياً ولا كتابة مكان وبيئة. الناقدة العربية الكبيرة خالدة سعيد التي وضعت، مشكورة، مقدمة الكتاب سمّته لعب مرايا . فقد قالت عنه بالضبط: إنه نص متعدّد ومُحيِّر بما يَسِمُه من الزّوَغان والتداخل بين الرؤى الشعرية والقيم الحكائية، بين الذكريات الشخصية والإضاءات التاريخية؛ أو أنّها حكائية شعرية، رغم مراجعها المعيشة. هي شعرية، لا لأنّ العناصر الحكائية تجيء في لغة لَمْحيّة أو تنساب مشمولةً بضباب الذكرى، ولا لأنّ حضور العناصر يُفلت من التحديد والتوالي الزمني ويمتنع على الإقامة في موقع أو إطار معيّن. هي شعريّة لأنّ هناك رؤى ترفرف على مدى هذا النص السردي الذي لا يبوح باسمه ولا يبيح التصنيف، لأنّ هناك ما يترجرج في ماء الحلم بقدر ما يومض في ضوء الذكرى أو ينبثق من الحفريات. ومع أنّ القارئ يكتشف عبر النص تعدّد العوالم وطبقات الحضارات، فإنّ الفنّية الشعرية للسرد هي التي تبني مناخ الحلم والحنين... هذا الكلام الذي يدغدغ نرجسيتي الكامنة يريحني، مؤقتاً، من عبء التصنيف والتسمية والشرح. أنا لست من الذين يقولون إنهم يكتبون وكفى، فالتصنيف والموضعة والخانات شغلتني بوصفها ركائز لإقامة نظام ما. فالكتابة، حتى الطالعة من رحم الفوضى، تسعى، من خلال الكلمات، إلى إنشاء نظام. إنها محاولة تقوم بها الكلمات في سبيل وضع نظام لفوضى العالم والأشياء. فنحن نكتب، أشئنا أم أبينا، عبر وسيط ليس بوسعنا التحكم فيه كثيراً أو تغييره بالكامل يسمى نظام الكلمات ، بوصفها تعبيراً عن معنى. أترك أمر التسمية على حدة لأقول إن هذا العمل قد يكون أهم أعمالي حتى الآن. إنه عمل شاق ومركب ويكاد يكون تتويجاً لكل انشغالاتي السابقة والراهنة. لا أعرف كيف سيُستقبل العمل، فنحن نكتب ولا نعرف بالضبط الوجهة التي تنتهي إليها الكتابة ولا كيف تندرج في إطار ما هو موجود. من السهل توقع عمل يشبه عملاً سابقاً، لكني لم أكتب عملاً يشبه هذا من قبل، قد تكون هناك موضوعات وأساليب طرقتها من قبل، لكنها لم تكن قط على هذا النحو. * تبدو قلقاً حيال هذا العمل، أو لنقل تبدو قلقاً من نوعية استقباله؟ - قد يكون هذا صحيحاً، ففي غياب التصنيف المسبق يصعب استقبال أي عمل كتابي، كل قراءة قائمة، تقريباً، على نوع من التوقع المسبق، أو لنقل إن أفقها يحدده الاسم الذي تندرج في سياقه، وبما أن هذا العمل ليس مسبوقاً في مدونتي، على الأقل، ولم أعطه اسماً واضحاً، فلا أعرف كيف سيُنظر إليه. لدي تجربة سابقة مع الالتباس حدثت عند صدور كتابي حياة كسرد متقطع الذي قرئ مرة على أنه قصص قصيرة ومرة بوصفه قصيدة نثر. ربما لا مبرر لهذا القلق إطلاقاً، فأنا أتحدث عن قراءة وهذا أمر صرت أشك في وجوده الحقيقي الآن. * أنت موجود في بعض أعمالك، خصوصاً في كتاباتك الطويلة، فضلاً عن أنك كتبت جوانب من سيرتك الذاتية فيها.. كيف ترى إلى توظيف السيرة الذاتية بوصفها تجارب شعرية في القصيدة؟ - لا أحد بوسعه الفرار من السيرة الذاتية، أو من تداخل الذاتي في الموضوعي، خصوصاً عندما نتحدث عن الإبداع. نستطيع ذلك في البحث والدراسة والنقد والتحليل السياسي، لكننا لا نستطيع دفع ما هو ذاتي عندما نكتب عن تجارب حياتية، ناهيك، بطبيعة الحال، عندما نكتب قصيدة. هناك فرق بين التمركز حول الذات وبين تأمل شؤون الذات في العمل الإبداعي. إنْ حضرت ذاتي في عمل ما تكون إما عرضة للنقد والتفكيك والتأمل في فعلها، أو لضرب مثال ما بوصفه تجربة حياة. ذاتي مثل ذوات الآخرين هي كينونة منفصلة ومتصلة في آن. هناك ما يخصها وحدها، وهناك، وهو الأغلب، ما يجمعها بالآخرين. لا توجد ذات تطفو على سطح التاريخ مهما كانت هذه الذات كبيرة أو فريدة من نوعها، فهي جزء من سلسلة الاجتماع البشري، هي جزء من تاريخ ما. هكذا عندما تدخل الذات في العمل الإبداعي تدخل بوصفها جزءاً من لحظة تاريخية تحتشد وتتداخل بالغير، فالذات، بهذا المعنى، هي الآخر أيضاً. * ثمة اتكاءات عديدة في قصائدك، وكأنك تهرب من القول المباشر لإحالته على حيوات أخرى لأشخاص آخرين، على الأقل هذا ما يبدو لي. ما رأيك؟ - أسهل على الشاعر أو الكاتب أن يرى في ذاته آخر. أن يجعل من نفسه غيره، هكذا يسهل نقد الذات وتقليبها على وجوهها. ربما فعلت ذلك من هذا الباب. أي تصوير نفسي بوصفي شخصاً آخر. هذا غير أننا نحن على قدر من التعدد. الواحد فينا أكثر من واحد. فينا من الانسجام والتناقض ما يحيرنا أحياناً. هناك ذات نظهرها أمام الآخرين، بوصفها ذاتاً اجتماعية وهناك ذات نواريها أو ندفنها لأنها لا تجد مكاناً لها في عالم الآخرين وقوانينه واعتباراته الصارمة. قولي لي من هو الشخص الذي لا توجد فيه شخوص عديدة؟ أو على نحو أدق، من هو الشخص الذي يملك انسجاماً تاماً في الظاهر والباطن؟ أظن أنه غير موجود. ربما لهذا السبب ننسب للآخر في القصيدة أو الرواية والقصة ما نخجل، أو ما لا نرغب، في نسبته إلى أنفسنا. يبدو أن الكتابة عن الغير أسهل من الكتابة عن الذات، خصوصاً إذا كانت في معرض النقد.. أو المديح. ففي الحالتين هناك حرج ما. * يسير قاموسك الشعري في مجموعاتك وفق مناخين: في الأول نجد تلك اللغة التي تتكئ على أشياء العالم الطبيعية، والثاني يتعلق بالحداثة وأشياء عالم اليوم. كيف تفسر لنا ذلك؟ - هذا سؤال مهم. يبدو أن مفردات العالم الذي نعيشه لا تكفي للتعبير عنا. صحيح أننا نعيش في أزمنة حداثة تقنية، لكنها غير كافية على ما يبدو لفهم أنفسنا. فنحن لسنا أبناء اللحظة الراهنة فقط، بل أبناء الماضي أيضاً. لا يمكن فهم موقع الإنسان في العالم انطلاقاً من لحظته الراهنة، لا بد من فهم الماضي ومعرفته. بل لعل الماضي أشد تحكماً فينا اليوم مما حصل في أي زمن آخر. ولكن هذا موضوع مختلف بعض الشيء، ما أريد قوله هو أن ما تقدمه لنا الحداثة التقنية التي تخترقنا يومياً لا يكفي لمعرفة من نحن. أشعر بفقر مفردات الحياة اليومية التي نعيشها، أو عجزها عن وصف ما أرغب في وصفه. وبما أنني متحدر من أصول بدوية، وبما أنني عشت جانباً من تلك الحياة ولو على صعيد الثقافة والسلوك والموقف من العالم فقد حضرت في قصيدتي مفردات من تلك الحياة. العضوي في تلك الحياة أساسي. العضوي في الطبيعة والجسد، وهذان متداخلان في حياة البداوة أو حياة الريف. ربما أرغب في استحضار مفردات عالم آفل، أو على وشك أن يأفل. هناك مفردات عضوية، بل قاموس عضوي كبير في أعمالي، وبعض هذه المفردات كانت حية وفاعلة في طفولتي، وبعضها يتم تناقله عبر أجيال، أو قراءات. لا يذهب ما نعيشه أو ما نسمعه أو نقرأه سدى. إنه يدخل، من حيث ندري أو لا ندري، في تكوين شخصياتنا. شخصيتي تكونت على مفترق عالمين أو بيئتين، هما بيئة البداوة والبرية وبيئة المدينة والكونكريت والمكننة. لذلك، على الأغلب، تشكلت شخصيتي وتكويني من هذين العالمين أو البيئتين فصنعا شيئاً هجيناً ربما. هذا السؤال مهم لمعرفة ما الذي يغري القصيدة أو الإبداع عموماً. هل الحاضر هو ما يفعل ذلك أم الماضي؟ هل تكفي الحداثة التقنية لوصفنا، أم إنه ينبغي البحث عن شيء آخر؟ لماذا ما تزال كلمة مثل سيف أو قمر تغري القصيدة في الوقت الذي لم يعد فيه هناك سيف، وتكشّف لنا القمر عن صخور ووديان مقفرة؟ لماذا تمدنا الطبيعة بمفردات في وصف المرأة، أو الحب، أكثر مما تمدنا به المدينة الحديثة؟ هل يتعلق الأمر بنوستالجيا، أم باغتراب بشري كبير؟ هل نحن سعداء في مدننا وحداثتنا، أم صرنا أكثر شقاء وبعداً عن جبلتنا الأولى؟ هذه أسئلة تطلع من سؤالك ولا أجد لها جواباً حاضراً. * في الحديث عن أن تصير آخر، هل شعرت يوماً أنك نادم على كتابتك باسم مستعار؟ هل يداهمك الحنين ل يحيى النعيمي الذي كنته ذات طفولة متمردة؟ هل من غواية خاصة للكتابة باسم مستعار؟ - كل شخص يطمح إلى أن يكون آخر. بل إن فينا، كما قلت لك من قبل، هذا الآخر. هناك الآخر الذي نطمح أن نكونه ولا نستطيع، وهناك الأنا التي نفر منها أحياناً، وهناك الآخر، أو قولي الآخرون، الذي يراودننا في أحلام اليقظة. هذا الآلة العجيبة التي تنقلنا إلى حيث شئنا وتجعلنا نكون ما نرغب في أن نكونه، ونحصل على ما نشتهي الحصول عليه، ولو للحظة محددة. وأنا عشت طويلاً في أحلام اليقظة، بل إن أحلام اليقظة هي أول ممارسة شعرية لي إن جاز هذا الوصف. بالمناسبة، تعجبني حياة الممثلين. فهم الوحيدون القادرون على أن يكونوا آخرين. بوسعهم تقمص حيوات عديدة، فكم هو مملّ أن يسجن المرء في اسم واحد ومهنة واحدة وواقع واحد. أنا أعيش، بالفعل، نوعاً من ازدواجية. ليست فقط بالاسم بل أحياناً في الواقع. ومن المصادفات الغريبة أنني اكتشفت، مؤخراً، أني من مواليد برج الجوزاء وليس من مواليد برج الأسد كما كنت أظن من قبل. لا أعرف كثيراً عن الأبراج والفلك، لكن ذلك الاكتشاف العرضي جعلني أفكر، للحظة، بواقعي الداخلي. أعرف أنني يحيى ولكني أعيش معظم الوقت كأمجد. أنسب إلى يحيى البراءة والقلب الأخضر والى أمجد الأخطاء والذنوب. فيحيى لم يعش حياة أمجد، ولكن يمكن لأمجد أن يتمنى لو كان يحيى، أو لو عاد يحيى. لا أحتمل أن يناديني أحد في بيت أهلي في المفرق باسم أمجد. أشعر أن هذا الاسم يسيء إلى والدي وإخواني وأخواتي، فهو يجعلهم يشعرون أنني لم أعد منهم. كما أنني لا أرد على من يناديني يحيى خارج بيت أهلي. في الواقع لا ألتفت. كأن أحداً غيري هو الذي ينادى. فأنا أمجد منذ نحو اثنين وثلاثين عاماً. إذا كان بورخيس قد تصور نفسه بورخيس آخر فأنا في الواقع أعيش هذا الأمر لأنني لا أتصور نفسي شخصاً آخر، بل أعيش هذه الحياة المزدوجة. أمجد ناصر ليس اسماً مستعاراً بهذا المعنى، أي أنه ليس اسماً يوقَّع على غلاف كتاب أو مقالة في صحيفة، بل إنه شخص من لحم ودم وعائلة وأطفال وأصدقاء وعمل، مثلما ليحيى أصدقاء وأمكنة وذكريات ليست لأمجد ناصر. إن عدد الأشخاص الذين يعرفونني كأمجد، فقط، أكثر بكثير من الذين عرفوا يحيى. * لنتحدث عن الجائزة الأقرب عهداً التي نلتها مؤخراً (جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة)، ماذا عن أدب الرحلة بوصفه ملمحاً مهماً في نصك الشعري منذ البدايات؟ - كتابة الرحلة بدأت عندي تحت شعور قوي بأن القصيدة لا تكفي للتعبير عن قضايا وشؤون عديدة، أو لا تسمح بنيتها شبه المغلقة لمزيد من التوسع واستضافة النثر بمعناه الواسع، وأنا من محبي النثر ومن الواقعين في غوايته، كما أن عملي في الصحافة أمدني بعلاقة خاصة بالواقع. يقال إن النثر هو غواية الشعراء وقد يكون الشعر غواية الناثرين، رغم أنني لم أعد أميز اليوم كثيراً بين الاثنين. الفواصل بين النثري والشعري صارت عندي ضعيفة أن لم يكن قد امّحت، خصوصاً ونحن نتحدث عن قصيدة نثر وشاصعر قصيدة نثر. تداخل النثري في الشعري موجود دائماً، لكنه ربما لم يكن على النحو في أدبنا من قبل. لكن كتابة الرحلة شيء آخر، فليس فيها هذا الاختلاط، وإن كان الشاعر ينقل لغته ومجازاته وحساسيته نفسها إلى هذا الجنس الأدبي الذي بدأ بالانتعاش مجدداً في سجلنا الأدبي الحديث. إنها كتابة لصيقة بالواقع وبالمكان والمعاينة، هي بهذا المعنى اقرب إلى ما يسمى في الغرب الريبورتاج الأدبي . قد يكون حضور المكان في أعمالي هو الذي جعلك تشعرين بدخول الرحلة على خط القصيدة. في الواقع إن الأمرين مختلفان إلى حد ما. لا أرغب في وضع محددات قاطعة وحاسمة للأجناس الكتابية، ولكن لا بد من بعض الفصل. قد تنطوي كتابة الرحلة على الشعري ولكنها ليست قصيدة، وقد تنطوي القصيدة على ملمح من أدب الرحلة، وهو غالباً المكان والتفاصيل اليومية، ولكنها ليست أدب رحلة. * نلت العديد من الجوائز، وحظيت بتكريم غير جهة ثقافية.. ليس من بينها جائزة أردنية، بصراحة لماذا؟ وهل يغني التكريم العالمي عن تكريم الشاعر في بلده؟ - الجواب ليس عندي. لكني أظن أن غيابي الطويل عن البلد جعلني غير منظور، غير واضح بالنسبة لمن يهتم بهذه الأمور عندنا. وربما هناك معايير للجوائز لا تنطبق علي. لا أعرف ما هو السبب. عندنا مثل يقول: الغائب عن العين غائب عن القلب ، وأنا، بالفعل، غبت طويلاً. * وأنت في بيروت، مطلع 1979، كتبت تقول: لعمّان رائحة الجياد. والقميص الوحيد المعلق في خزانة الأرملة. لعمان رائحة الأجساد المرهقة. أفكر الآن: هل كان البنك العربي. قريباً من ماء السيل. قريبا من آخر ليل،. أم كان بعيداً عن قلبي . ألا تراودك عمان لتعود؟ ألم تتعب من السفر والغربة؟ - بلى، تراودني، ولكن عندما يرمي المرء جذوره في مكان ما يصبح صعباً اقتلاع هذه الجذور. الأردن، عموماً، حاضر في كتابتي وذاكرتي. كما أنني على صلة بالبلد من خلال زياراتي السنوية وعلاقتي بأهلي وأصدقائي واهتمامي، عموماً، بوضعه على غير صعيد، أعجبني تعبير للكتابة الألمانية هيرتا موللر الحائزة أخيراً على جائزة نوبل حول الوطن يقول، ما معناه، إنه المكان الذي لا تطيقه عندما تكون فيه، ولا تكف عن التفكير به عندما تكون خارجه. * يقول الناقد صبحي حديدي في تقديمه ل وحيداً كذئب الفرزدق ، عنوان مختاراته من أعمالك التي صدرت في دمشق، أمجد ناصر ما يزال وفيّاً للشاعر الأوّل ... فهل حقاً أنت وفيٌّ للشاعر الأول وأنت المهجوس بالتجريب فكأنما ثمة أكثر من شاعر، وأكثر من تجربة نصّية يخوضها الشاعر فيك؟ وكأنك سندباد بري مثلما يصفك عباس بيضون في تقديمه لأعمالك الشعرية؟ - لا أظن صبحي حديدي يقصد بقاء الشاعر الذي صرته على صورة الشاعر الذي بدأ خطاه قبل أربعة عقود. إن كان هناك وفاء ما فهو وفاء للشعر نفسه، رغم أنني لست من الذين يخلعون صفات القداسة والنورانية على الشعر ولا أعدّه مخلصاً أو منقذاً. في الواقع كل ما فعلته كان مهجوساً بالشعر، كل شيء بما في ذلك نثري ورحلاتي وتشعبات حياتي وموقفي من الحياة والعالم. الشعر عندي جمرة ثاوية في الأعماق وليس لهباً. لست من شعراء اللهب بل من شعراء النار الكامنة تحت الرماد، إن جاز لي هذا الوصف. هذا قصارى حسن ظني بنفسي وهو ليس قليلاً ولا متواضعاً كما تلاحظين. إنه وفاء لخيار أول هو الشعر، ولكنه ليس وفاء لأساليب وطرق في الكتابة، فهذه الأخيرة قابلة للتغير والتبدل ولكن على الأرضية نفسها كما أحسب.. حتى تجريبيتي ليست بعيدة عن خياري الأول، إنها ليست أكثر من مجرد مقاربات من زاويا مختلفة للشعر، أو محاولات للقبض عليه في حالاته المختلفة. فالتجريب ليس عملاً مقصوداً لذاته، لا بدَّ أن هناك هدفا من وراء كل تجربة. هذا الهدف، بالنسبة لي، هو الشعر سواء بمعناه الذي تلحظه القصيدة أو بمعناه العام. * ماذا عن المختارات التي صدرت لك مؤخراً عن دار نشر لندنية تحت عنوان راعي العزلة بترجمة راقية أنجزها خالد مطاوع؟ - هذا كتابي الشعري الأول المترجم إلى الإنجليزية، وهو يضم طيفاً واسعاً من معظم أعمالي الصادرة حتى الآن، وقد اشتغل على ترجمته قرابة خمس سنوات الشاعر والمترجم الأميركي من أصل ليبي خالد مطاوع. الكتاب صدر حديثاً عن دار بانيبال بوكس اللندنية، وقد تكون له طبعة لاحقة في أميركا. الشيء الوحيد الذي سرني في صدور هذا الكتاب هو توفيره إمكانية أن أُقرأ من قبل ابنتي يارا وابني أنس اللذين لا يعرفان، للأسف، اللغة العربية، أقصد أنهما لا يعرفانها قراءة وكتابة وإن كانا يتكلمان بلسانها العامي. فهما أول شخصين أطلعتهما على الكتاب. إنه سببٌ ذاتي، فأنا أرغب أن يعرفني ابناي من خلال صورة أخرى هي صورة الشاعر وليس فقط صورة الأب. هما يعرفان بالطبع أنني شاعر ولكنهما يفتقدان إلى وسيط لغوي إلى شعري.