«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آزاد(الحلقة الاولى)

للحياة أسرار غريبة, وأنا أعد لهذه القصة, أتذكر كل تفاصيل تلك الحادثة.. فهناك في الحياة أسرار لم أصل إلي أغوارها بعد.
وأنا أقول سرا, فأنا أشير إلي القوي الخفية والتي لم تكتشف كهنتها بعد... فهناك المئات بل الآلاف من الأحداث التي تقع أو تمر في حياتنا اليومية, ونراها دائما بسيطة وعادية جدا ولايتبادر إلي ذهن أي إنسان أن بها سر ما ولكن إذا ما أمعنا النظر فلسوف نكتشف كم من الأسرار.. أو كم من المعاني تكمن في هذه الأحداث البسيطة والعادية...!
آزاد هو صديق عمري منذ الطفولة والشباب, ولدنا معا وتربينا معا وذهبنا إلي المدرسة معا.. وقضينا الجزء الأكبر من حياتنا معا.. وكم من الألعاب اللطيفة لعبناها معا...! وكم من الأوقات الصعبة قضيناها معا...! ولكن كانت هناك حالات لم نأملها.. لأننا قد ولدنا وترعرعنا سويا... كنا نعرف مشاعر بعضنا البعض, لأننا نشأنا معا وعشنا معا نفس الظروف ونفس الحياة.. كان صمته وسكوته طبيعيا بالنسبة لي.. ولم أر في ذلك أي شيء ولكن كلما كبرنا بدأت هذه المشاعر تؤلمني.. كنت أغضب أحيانا.. فأمسك بتلابيبه وأصرخ.
آزاد... تحرك.. تكلم.. إضحك.. أو ابكي لاتجلس هكذا مغمض العينين وكأنك ميت. أنا أعرف أن كلماتي تؤلمك.. ربما تكون راضيا عن كلماتي أو غير راض... فإن كنت حيا, فأعلن عن ذلك.. أو إن كنت متوفيا..
إبن مرحوم..
ولكن كل مذمتي هذه القاسية لم تكن تجدي معي.... كان يرفع رموشه وينظر إلي من تحت حاجبيه, ثم يغمض عينيه مرة أخري, أو يركزهما علي شيء مجهول.
كانت هذه الخاصية غريبة جدا فيما بين الأصدقاء. ولم يكن في مقدوري تغييرها.. إن آزاد قد ولد في ليلة شديدة البرودة حيث كان مولده في الشتاء. وأمه المسكينة لم تصدر حتي أي صوت علي الإطلاق حين ميلاده, بينما كل السيدات يصرخن ويولولن عند المخاض والميلاد... هكذا جاء إلي الدنيا دون أي ضجيج. وحتي أمه سليمة لاتذكر إن كان قد بكي أو صرخ حين ميلاده بل أجابت علي حين سألتها بابتسامة صامت.
لم يكن أي أحد من رفاقه يناديه باسمه, بل كانوا ينادونه ب سكوتي وحتي مع مرور الزمن نسي الجميع آزاد وعرفوه ب سكوتي كانوا يقولون: جاء سكوتي وذهب سكوتي لدرجة أن هذا اللقب الذي جاءه بالصدفة انتقل إلي السجلات الرسمية.. وصار آزاد سكوتي.
أحيانا, كانت تنتابني بعض الأفكار... حول أنه لم ير أي يوم سعيد في حياته, بل قضي أيامه صعبة ولم يسعد قط. فمنذ طفولته وهو يعاني من الفاقة والحاجة. كان كل فراش نومه هو حصير ممزق علي أرضية غرفة شديدة البرودة.. لقد توفي والد آزاد قبل ميلاد الابن بشهرين فقط.. وبقيت الأم سليمة وحيدة حيث كانت هي أيضا يتمية يقال إن رجلها كان تبريزيا وكلاهما معدم.. بعد أن مات الزوج, طرقت الزوجة كل الأبواب بحثا عن عمل تقتات منه هي وابنها, أحيانا كانت تنظف المنازل.... وأحيانا تمسح البلاط... وأحيانا تغزل الصوف.. وحتي آزاد ولدته وهي تغزل الصوف.. وبعد أن أصبح صبيا لم ينم ولو لأسبوع واحد علي مرتبة أو تغطي بلحاف.. وحتي بعد ميلاده بأسبوع واحد, تركته وحيدا في الغرفة وخرجت للعمل حتي لايموت الوليد جوعا.. كانت كل أمانيها وأمنياتها في هذا الطفل.. لم يكن عندها أو لديها من هو أعز منه... كانت سليمة هانم ليس لديها إبن آخر غير آزاد.... هو ملجؤها في الحياة.. لا والد ولاجد ولاأخ لها... ولاتريد سواه.. ما أن تنظر إلي آزاد حتي تنسي كل متاعبها وشكواها.. وتترك كل مشاعرها له.
كانت هناك أوقات سعيدة... وما أسعدها حين كانت تجلس بيننا...! ونحن فيما بين الخامسة أو السادسة من العمر وهي تقص علينا حواديت قبل النوم.. كنا نصغي إلي قصصها بآذان مشرئبة... وفي الصباح نسألها عما بعد القصة... فتعاود القص من حيث توقفت. وكانت تسعدنا من جديد... كانت في كل مساء تحتضننا... وتعطيني من حنانها مايمكن أن تعطيه لي أمي. كانت حكاياتها تنقلنا فورا إلي عالم الخيال. وكثيرا ماكنت أري تلك الخيالات في أحلامي.. كانت حكاية أروع من سابقتها.. هذه اللحظات من أسعد ذكرياتي... تسعدني.. وتبهجني.. أحيانا كانت سليمة هانم تقطع الحكاية.. وتترنم لنا بأغنية حزينة من ذاكرتها.... كم كان هذا الصوت الرخيم يبدو لنا سعيدا ياصديقي.. أن نغماتها مازالت تتردد في أعماق قلبي بترنمها.. وأنسها... وحزنها.. وحتي الآن... لم تستطع أي موسيقي أخري أن تنسيني.. فما زالت أصواتها تداعب روحي.. ويخيل إلي أن هذه المتعة مازالت هي أجمل مايعيش في خيالي.. ولكن يمكنني تكرارها في أي زمان.
أحيانا, أيضا, لم نكن نفهم كلمات هذه الحكايا... كنت أظنها شكاوي أحيانا, وأخري أظنها ذكريات أليمة.. أو توسلات لشخص ما... لكن هي كانت تستمر في دغدغتها.. وتذوب مشاعرها وهي تخلق موسيقي تذكر بفقفقة الشاي وهو يغلي.... وتضيع خيالاتنا في كلماتها... أما هي فقد كانت تستمر في كلماتها المنغمة حتي يسلبنا النوم ولاندري متي توقفت.
ذات مرة.. وفي إحدي الأمسيات.. أخذت برأسينا هذه الحزينة وأسندتها علي ساقيها.. وأخذت تترنم بأحزانها.. تقص.. تقول.... تتنهد.. تترنم.. تتحدث عن تساقط أوراق الشجر.. وعن الطيور التي هاجرت وتركت أعشاشها.. ومن حين لآخر تنحي وتقبل وجنة آزاد أو تتنهد باسمه... وكلما استغرقت أنا في النوم كنت أسمع صوتها القادم من بعيد.. كان الصوت يأتيني منقطعا..!... رجائي الوحيد.. أملي الفريد. أنت عصفور عشي... أنت سندي ودعامة بيتي... أما آزاد فقد كان ينام في صمت. ما أن كبرت قليلا حتي أدرك عقلي أن آزاد هو كل أمل سليمة هانم في الحياة... من بعدها أدركت أنا كل شيء... أدركت أن كل خيوط هذه المرأة المسكينة مرتبطة بابنها آزاد وبوجوده.. وبعد أن فهمت بدأت أشعر بالأسف.. لأنني لم أر في آزاد الأمل والحلم الذي تحلم به سليمه ولايمتلك القابلية التي تنتظرها منه.. كنت أفكر دائما, هل آزاد هذا السكوتي سيستطيع أن يؤمن الحياة التي تجعل سليمة تغض الطرف عن طرق الأبواب..؟.. في رأيي أنا... لا ووصلت إلي هذا القرار.. فبالنسبة لي.. إن آزاد لايملك القوة التي تؤهله لكي يفتح يديه وذراعيه لكي ينطلق ويخترق سرداب الحياة كنت أتألم لحال الأم سليمة, التي فتحت الحيات ذوات الأربعين رأسا أفواها لتبتلعها.. كان قلبي يحترق من أجل الأم سليمة.. آهاتي ستحرق آزاد.. ستمزقه وتبتلعه.. كنت أبذل قصاري جهدي من بعيد لكي ينطلق...
ذات يوم دفعته إلي الذهاب إلي سوق تبريز فيكفيه أن يحمل علي ذراعيه بعض الجوارب... كان هذا بالنسبة لي مايكفي آزاد.. أنا لم أكن أطلب منه أكثر من هذا.. ولم أكن أقصد غير ذلك.
طوال سنتين ذهب معي إلي المدرسة.. لم يكن يقترب من أي أحد هنالك.. فخلال فسح الدراسة كان كل الأولاد يلعبون معا إلا هو فقد كان يتنحي جانبا ويستغرق في التفكير ناظرا لما حوله.. وإذا ما سأله المعلم كانت سحنته تحمر تماما... وعلي الرغم من أنه كان يعرف كل شيء إلا أنه لم يكن يستطيع أن يتكلم.. وفي سن التاسعة أخذته أمه من المدرسة لأنه لن يستطيع أن يدرس.. توسلت إلي أحد الجيران ورجته أن يبعث به ليعمل صبيا بجوار ترزي في تبريز... مرت السنوات أنهيت أنا المدرسة المتوسطة... أما هو فلم يبرح مكانه... ذات مرة مررت علي محل الترزي.. ناداه الأوسطي... ولم يكن قد قطع علاقته بي... بل علي العكس من ذلك فكلما كبرنا زادت ألفتنا وصداقتنا.. كانت الحياة تقرب فيما بيننا.. في وقت أخرجتني حوادث الزمان عن طوري.. أما هو فظل ساكتا وصامتا أمام تلك الحوادث... لم يكن يهتم.. لم تكن أي مطالب أو احتياجات تخرجه عن طوره أو تفسد عليه نظامه.. ذات مساء لم يكن في بيتنا أي طعام.. بينما كنت أنا أتذمر وأغضب.. كان هو وحتي لو ظل جوعا لثلاثة أيام لم يكن ليفتح فمه أو يقول كلمة واحدة.. بالرغم من ذلك.. لم أكن أنا أفتقد أحدا سواه, سواء في أيام الأفراح أو الأتراح... وكنت عندما أشعر بالحاجة إلي الصحبة أو المؤانسة, أهرع إليه فورا.. كان في كل مرة يحتملني يصغي إلي كل ماأقوله, سواء أكان خيرا.. أم شرا... فلا فرق لديه ذات يوم من أيام محني... هب لمساعدتي.., كنت قد تأخرت في دفع الإيجار.. وهددنا صاحب البيت بالطرد.. لانقود لدي.. ولم أجد عملا اتكسب منه.. بعد أن تعبت من اللف والدوران ومزلة السؤال, ذهبت إلي آزاد..
آزاد.. آلامي كالجبال... أريد أن أبكي... ولكن لاتدمع عيناي... ماهذه المعيشة؟ وما هذه الحياة....؟ آزاد...! لا مكان للعمل ولا إمكانية للدراسة في الجامعة... هل أسرق..؟ أم ماذا أفعل ياأخي؟ يدي سليمة.. ذراعي سليمتان.. قويتان.. أشعر أن بداخلي قوة تحرك الجبال... ماذا يحدث لي؟... ماذا في مقدوري أن أفعل..؟ لماذا تتبدد قواي...؟... والله... داخلي... نيران.. لو قالوا اهرب فلسوف أهرب!.. ولكن إلي أين...؟ هل إلي حانة السموم..؟ أم أطفيء فانوس عمري بيدي...؟ أم أهرع إلي مكمن الاستخبارات..؟
تملكه الغضب... وما أن هممت بالحديث.. فجأة توقف ونظر إلي... ثم أمسك بإبرته مرة أخري وبدأ يعمل... وما أن انفجرت بالحديث... وضع هو إبرته علي الأرض... وحول نظرته الصامتة إلي..
قلت...
آزاد.. لقد هرمنا ونحن في الرابعة والعشرين من عمرنا... أربع وعشرين سنة.. من يدري.. ربما نحن لم نعش إلا نصف عمرنا.. ربما سنة واحدة بالكاد... ماذا رأينا نحن خلال تلك الأربع والعشرين سنة؟ إذا ما سألونا عما هي الحياة.. فأي جواب سنقدم..؟ واضح.
ما معني عمر الإنسان؟ لماذا جاء الإنسان إلي الحياة...؟ ولماذا يفني بعد مدة من الزمن... يموت ويذهب...؟ إن هذه الأفكار تقلقني في الأيام الأخيرة.. عند التصور أننا من الممكن أن نموت بعد سنة أو بعد شهر يتملكني الوهم.. ماذا رأيت أنا في الحياة..؟
وفي النهاية ماذا فعلت لأذهب..؟ فلسوف ينسوننا في صباح يوم وفاتنا.. لم نفعل مايجعلهم بسببه يتذكروننا... ما هي الحياة بالنسبة لنا؟ ما معناها..؟ بعد مرحلة إدراكنا لم نر سوي الجوع والحاجة والفاقة والتشرد.. هل هناك غير هذا.؟ بالنسبة لي.. فإن حياة أي طائر أو نملة أفضل من حياتنا أو ذات فائدة عنا.. وأكثر عقلا.. نحن... قد عشنا بلا أمل.. بلا هدف بلا غاية.. ولم نرغب في أي شيء أو ننتظر أي شيء.. في الصباح كل الحيوانات لم تبق في حظائرها.. خرجت ترعي.. أما نحن فقد بقينا حين نحن.. الحيونات تجولت بين المراعي حتي المساء... أما نحن فقد تملكنا النوم وظللنا نياما.. وقضينا أيامنا في سبيل هذه الغاية لم يتجاوز فكرنا قطعة من البوريك أو موقد فحم في الشتاء... أي أمل أو أي غاية قد ملكت علينا قلوبنا..؟ هل هي الحياة هكذا؟.. هل هذه هي غاية الحياة؟ عليك أنت تعلم أن النقود ليست هي مكمن تفكيري أو الجوع هو مصدر خوفي.. لا يا آزاد..! إن فكري مفعم بأشياء أخري.. أنا أنظر إلي محيطنا هذا الضيق.. يأكلون ويمرحون أنظر إلي أصحاب المناصب.. أنا أعرف بعضهم... بل واقف وعالم أيضا بنمط حياتهم وطرز تفكيرهم... هل لأنهم قد عرفوا معني التعايش أكثر منا؟ لأي أمل سوف يذكرونهم بعد موتهم بيوم أو أيام..؟ هل لأنهم منحوا الإجازة للمدمن والفاحشة..؟ إن حياة تلك الحيوانات أكثر فائدة من حياتهم.. فعلي الأقل هناك خير أما من وراء هذه الحيوانات. أم هم فيأكلون ويشربون... ينامون ويسمنون من البطالة.... يسأمون من التخمة... يسومون الشعب كل أنواع العذاب.. لاينشغلون ولو لمرة واحدة بما يشغلنا نحن في الحصول علي لقمة خبز...! فبأي شيء تنشغل أدمغتهم؟ بينما آمال مجتمعاتنا الرديئة لاتسئمهم..؟ لنفرض أنهم أكلوا كل عام ثلاثين ألف كيلة من أرز العالم وخمسمائة برطمان من الزبد.. وآلاف الحملان.. وقضوا الليالي الطوال في أحضان النساء.. وقضوا عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين سنة من عمرهم علي هذا المنوال.. فما هي النهاية...؟..
وإذا ما أصبح الصباح وأكل من بقي علي قيد الحياة منهم الأرز والزبد وتملكه الطمع والجشع والتملك... وإذا ما رأي امرأة غيره كان كل همه افتراسها كالحيوان المفترس.. لن تشبع بطونهم في أي زمان.. ولن نراهم وقد تخلصوا من حرصهم وطمعهم.. فكل ما سوف يكسبونه هو غضب ونفور الشعب.. هل الحياة هي عبارة عن هذا....؟ أنا لم ولن أريد حياة كهذه.. كل ماأريده هو العمل ياآزاد..! أي عمل.. يري من يأتي بعدنا خيرا من هذا العمل.. أنا سأرحل.. لأكن خادما لرب عمل, أو بستانيا.. علي الأقل أغرس شجرة أو أقطف ثمرة... ليري البشر خيرا من بعد الموت.. ويترحمون علي إذا ماذكر إسمي...
رغم كل ماقلت... لم يحرك آزاد ساكنا... ولم ترتعش شفتاه بلفظة واحدة... فقد تسمرت عيناه علي نقطة ما... أنا لم يراودني الشك في أي وقت في أنه لن يفعل شيئا... زاد إدراكي في أنه لن يفكر في أي مشكلة أو مسألة.. ربما يظنني لست سعيدا.. بل متشائما... عبوسا. أردت أن أعدل من غطاء رأسي وأخرج من الدكان.. فلم يتحرك من مكانه.. فنظرت أنا إليه.. وقلت:
آزاد.. لو لم تكن أنت في هذه الدنيا, لقتلت نفسي أنا منذ زمن بعيد... ولكن صرفت النظر لأنني أرعاك.. وكنت أطمئن نفسي ربما تكون هناك فائدة مني إليك.. وأسفاه.. وألف أسفاه.. كنت أخاطب نفسي قائلا لي ولد سوف يرعانا.. وأسفاه علي هذه الوردة التي يسمونها أرض آذربيجان.. أنا وأنت نسير علي ترابها.. فما رأت منا خيرا أي فائدة رأتها..؟ هل زرعنا أرضها..؟ هل بنينا مدنها...؟ هل افتتحنا مصانعها..؟ هل أدرنا ماكيناتها وآلاتها....؟ لو أن هذه الأرض في أيدي غيرنا.. لجعلوا كل شبر فيها عروسا متجلية.. لحولوها إلي جنة يعيش فيها كل المواطنين كأرباب عمل... ولجعلوك تعيش حياة كريمة.... هذا واضح ياعزيزي آزاد.
البقية العدد القادم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.