تلقيت هذه الرسالة من صديق عزيز انقطعت الصلة بيني وبينه منذ أمد طويل، كنا طلاباً معاً في المدرسة الثانوية ثم في كلية الحقوق، وغداة تخرجنا، ظللت علي ودي وصلتي به، ثم طرحت به الأقدار التي طوحت به، فانقطعت الصلة، وظل الود يشرب من ماء الماضي، فلا يضعفه انقطاع الصلة، ولكن يزيده ذكري عطرة، لأمسيات رقيقة عذبة طالما قضيناها علي شاطئ النيل، وفي شوارع القاهرة نجوبها وقت السحر، والناس نيام، ونور رقيق ينبعث من النجوم في السماء. وكنت أعرف أخبار صديقي، وأتتبع خطواته في الحياة، كان النجاح يرافقه خطوة خطوة، والدنيا لا تتعثر معه، يعيش في هناء ورخاء، ثم كان أن تلقيت منه هذه الرسالة، وقرأتها مرة ومرة، وأحسست في كل مرة أنني أشد رغبة في تلاوتها، كانت العواطف المنبعثة من كل حرف فيها تجعل لها في قلبي هزة وحنيناً، وطلب الصديق إليّ أن أنشرها كما هي، وأخفي اسمه.. قال: هل تغفر لي لأني لم أكتب لك؟ ولكن هل تعرف أني أذكرك دائماً، ليس من المهم أن تكون الكتابة وحدها دليل أني أذكر، إن من الذكريات ما يرسب في النفس، ويختلط بها حتي يصبح بعض عناصرها، وإنك لتعرف أننا تصادقنا علي هذا الشطر من العمر الذي تختلط فيه الأخيلة بالحقائق والأحلام بالواقع، لا تسألني عن نفسي، فأنت تعرفها كما أعرفها أنا، تعرف أنني مزيج من عواطف وإحساسات، وهي تعذبني وتسعدني، تشيع في نفسي البهجة حيناً، والشقاء حيناً، وأنا علي الحالين راض. إني لم أتزوج حتي الآن، ولن أفعل حتي تجيء هي، ومع ذلك فقد فقدت الأمل منها، كان آخر العهد بها منذ خمس سنوات.. لم أرها.. هل تصدق؟ لست أعرف إذا كانت جميلة أو دميمة، ومع ذلك فإن روحها قد رسمت في خيالي صورة رائعة لها، أعيش معها ومن أجلها، وقد حاول أبي وحاولت أمي وحاول أصدقائي جميعاً أن يحملوني علي الزواج، والتقيت بفتيات جميلات ساحرات، ولكنني كنت أقارن بين الصورة التي أعيش معها وبين هؤلاء الفتيات فأجد الفرق شاسعاً.. لعلك تقول: ما هذا الخلط.. بل إني أحياناً يعتريني الشك في حقيقة الصورة التي أعيش معها، هل توجد في الحياة؟ هل الصوت الذي سمعته، كان صوتاً من الأرض أم من السماء؟ هل هو صوت فتاة تعيش كما يعيش الناس أم صوت ملاك هبط حيناً ثم عاد إلي الملأ الأعلي؟ أليس هذا عذاباً.. وهو عذاب أعيش فيه منذ خمس سنوات.. لم ينقطع تفكيري.. لم أنم ليلة إلا علي صورتها، ولم أستيقظ يوماً إلا علي أهازيج لسانها العذب وتنغيمها الساحر.. ماذا أقول.. ولكن أي إنسان رأي ما رأيت، وقرأ ما قرأت، وسمع ما سمعت، وشمله من الإحساس، وفيض الشعور ما شملني لابد أن يفعل ما فعلت!! بدأت القصة بدقة تليفون، وانتهت بدقة تليفون، حقاً ما أعجبها من قصة، فقد فصل بين الوقتين عالم من الأسرار والأحلام.. كان فيه الحب والهناء والصبر والعذاب والرضي والابتسام. من يقول ان المادة في الدنيا ضرورة مخطئ، فقد عشت أربع سنوات في فيض من الشعور والإلهام دون أن أدنس جسدي أو جسدها، ولعل خاطرينا قد أحساً أحياناً برغبة الجسد، ولكن روحينا ظلتا أبداً في صفاء البللور ونقاء الشعاع. ماذا أقول لك يا صديقي، قضيت أربعة أعوام سعيداً وشقياً.. أسألها في نصف الليل، وصوتها الحنون الأخاذ يصل إلي أذني دون أن أسمع أو أري غيره، من أنت؟ فتقول إني فتاة أحلامك.. ماذا يعنيك اسمي.. إن الغموض هو الجمال، إنني جميلة، بل جميلة جداً.. وأنا غنية ولا أكذبك في هذا، يحاول الكثيرون أن يغروني بالحب والزواج، ولكنني لا أفهم إلا أنت، لا أحب غير روحك، أتريد أن تحرمني منها.. دعني أقبل يديك، هاتين اليدين اللتين كتبتا ما يشبه السحر، لا تسأل عن اسمي.. اسألني عن نفسي.. عن روحي.. وهما أدني إليك مني، لقد رأيت صورتك.. إن هاتين العينين قد رأيتهما قبل أن أحدثك، قبل أن أعرفك.. أمجنونة أنا.. لست أدري.. ولكنني أقسم لك أنني رأيتهما!! وأخذت أعيش يا صديقي، كانت آمالي ضيقة، وكانت الدنيا أمامي أشبه بالسجن، أخذت آمالي تنفسح والسجن ينقلب إلي حديقة غناء تغرد فيها البلابل الصغيرة، لم أكن أراها، ولكني كنت أسمع صوتها وتنغيمها الساحر، ياللأمسيات البديعة التي تمتد إلي انبثاق الفجر وبذوع الشمس، وأنا أسمع صوتها، تسألني أن أقرأ لها فأقرأ، تسألني أن أكتب من أجلها فأكتب.. كانت تقول إنني أحس أنني لك.. ستعرفني يوماً من الأيام.. ساعة من الساعات، وسكيون قاسياً عليّ أن أرفع النقاب، فإن هذا الغموض الحلو هو حلمي وأملي، أغمض عيني فأري وجهك وأسمع صوتك.. أستعيد كل ما قلت.. إنني أعيش في أحلام، ولكنها أعذب عندي من الحقائق! يا صديقي كنت أرجو من الحياة أن يسير هذا الحلم، إلي أن أقضي الحياة كلها، تمنيت لو عاش معي الصوت والروح وحدهما.. كانا غذاء وكساء وهناء ورخاء، ولكن واأسفاه، منذ خمس سنوات قبل هذا اليوم قالت سأسافر إلي لبنان وأقضي الصيف مع أبي، وسأكتب لك.. اذكرني ولا تنساني. كان آخر العهد بها يا صديقي، لم تكتب ولم تعد.. بل لعلها لم تسافر، من يدري، كل ما أدريه أنها منذ هذا اليوم لم تتحدث لي، ولم أعرف مصيرها، هل هي حية ترزق؟ هل تزوجت؟ هل سافرت إلي بلد ناء ولم تعد، هل عادت وانطفأت في قلبها شمعة الروح التي ألهبتها؟. يا صديقي.. هل أنا مجنون؟ قد أكون؟ هل هي مجنونة؟ قد تكون؟ ولكن الذي لا أرتاب فيه أنني عشت وإياها أحلي ساعات العمر، ولاتزال ذكراها تعطر فؤادي وقلبي بأحلي ما في الوجود من نسمات! لقد احترت حين قرأت هذه الرسالة، ولو لم أكن أعهد في صديقي قول الحق لارتبت فيما كتب، ولكن الدنيا فيها الحلم والحقيقة، فيها المألوف والغريب!!