في التاريخ الإسلامي وجوه كثيرة لمعاني القوة، لكن قليل منها جمع بين العقل والرحمة كما فعل محمد بن الحنفية، ابن الإمام علي بن أبي طالب من خولة الحنفية، رجل لم يدوّن التاريخ اسمه بين القادة المنتصرين في المعارك، بل بين الذين انتصروا على أنفسهم وعلى فتنة كانت تهدد بتمزيق بيت النبوة من الداخل. وُلد محمد في المدينةالمنورة في بيتٍ امتلأ بالحكمة والنور، وكان أخًا للحسن والحسين من جهة الأب. ومع ذلك، حين اشتعلت الخلافات بعد استشهاد والده، وقف موقفًا فريدًا عنوانه التسامح والوفاء للأسرة. لم يُعرف عنه أنه نازع إخوته مكانتهم، ولم يسمح للخصومات السياسية أن تزرع بينه وبينهم جدارًا من العداء. بل ظلّ السند الصامت، يقف حيث يجب أن يقف دون أن يتاجر بالقرابة أو بالمكانة. بعد مأساة كربلاء، حين وجد بعض أتباع البيت العلوي أنفسهم يبحثون عن قائد جديد، حاولوا أن يدفعوه إلى صدارة المشهد بدعوى أنه أحق بالإمامة بعد الحسين. لكنه رفض الفتنة رفضًا قاطعًا، وقال كلمته المشهورة: "إن الحسين كان إمامًا من الله، ومن بعده ابنه عليّ بن الحسين." كانت تلك لحظة فارقة، اختار فيها أن يوحّد بدل أن يفرّق، وأن يُطفئ نارًا كان يمكن أن تلتهم الأمة. لقد مثّل محمد بن الحنفية نموذجًا مبكرًا لفكرة التعايش داخل الأسرة الواحدة رغم اختلاف المواقف، وعلّم من بعده أن النسب الشريف لا يكتمل إلا بالشرف الأخلاقي. كان زاهدًا في السلطة، مؤمنًا بأن الإصلاح لا يبدأ بالسيف، بل بالنية الصادقة والعدل. رحل ابن الحنفية عن الدنيا في المدينةالمنورة نحو عام 81 ه، لكن سيرته بقيت شاهدًا على أن التسامح شجاعة من نوع آخر، وأن التاريخ لا يخلّد فقط من انتصر في المعارك، بل من رفض إشعالها. سيرة رجل اختار أن يكون جسرًا بين الإخوة لا جدارًا بينهم، وأن يثبت أن التسامح هو البطولة التي لا يراها الناس إلا بعد أن تنطفئ الفتن. في عالمٍ يموج اليوم بالخلافات والانقسامات، يبدو أن صوت محمد بن الحنفية لا يزال حيًا. دعوته للصبر ووحدته لأسرته هي ذاتها الدعوة التي تحتاجها أمتنا الآن: أن نختلف دون أن نفترق، وأن نؤمن بأن حفظ الروابط الإنسانية أولى من كسب المواقف. فالتاريخ لا يتغير، لكنه يذكّرنا دائمًا أن التسامح هو طريق النجاة الوحيد في كل زمن.