الفريق أول عبد المجيد صقر يلتقى وزير دفاع جمهورية إيطاليا    أول فيديو عن استعدادات السفارة المصرية لاستقبال الناخبين    وزير الأوقاف: مبادرة "صحح مفاهيمك" مشروع وطني شامل في مواجهة التطرف والإرهاب    سعر الدينار الكويتى أمام الجنيه اليوم الخميس 31 يوليو 2025    سعر الدولار اليوم الخميس 31 يوليو 2025    محور 26 يوليو «يتنفس» بعد سنوات من «الاختناق» المرورى    أسعار الفراخ في البورصة اليوم الخميس 31 يوليو    موعد مباراة آرسنال وتوتنهام الودية استعدادًا للموسم الجديد 2025-2026    عزام يجتمع بجهاز منتخب مصر لمناقشة ترتيبات معسكر سبتمبر.. وحسم الوديات    شوبير يكشف تفاصيل حديثه مع إمام عاشور بشأن تجديد عقده مع الأهلي    مصرع ربة منزل بطلقات نارية في ظروف غامضة بقنا    هل تظلم الطالب على نتيجة الثانوية العامة يخفض درجاته.. التعليم توضح    «كايلا» ابنة دنيا سمير غانم تخطف الأنظار في العرض الخاص ل«روكي الغلابة»    فريق عمل "Just You" ثالث حكايات "ما تراه ليس كما يبدو" يحتفل بانتهاء التصوير    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    الكشف على 889 مواطنًا خلال قافلة طبية مجانية بقرية الأمل بالبحيرة    مليون خدمة طبية خلال أسبوعين خلال حملة 100 يوم صحة    حسين الجسمي يطرح "الحنين" و"في وقت قياسي"    تحرير 168 مخالفة تموينية بمركز مغاغة وضبط 2.5 طن سكر مدعّم قبل بيعه في السوق السوداء    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر ويؤكد: المهم هو التحصن لا معرفة من قام به    وزير الخارجية يلتقي السيناتور "تيد كروز" عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي    ضبط 276 عاملا أجنبيا بدون ترخيص في منشآت بمحافظة البحر الأحمر    انخفاض حاد في أرباح بي إم دبليو خلال النصف الأول من 2025    موعد مباراة آرسنال وتوتنهام والقنوات الناقلة    المهرجان القومي للمسرح يكرّم الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    أخبار مصر: قرار ضد ابنة مبارك المزيفة، العناية الإلهية تنقذ ركاب قطار بالغربية، انخفاض الذهب، مفاجأة صفقات الزمالك دون كشف طبي    طقس اليوم الخميس 31-7-2025.. انخفاض درجات الحرارة واضطراب بالملاحة    دون إصابات.. خروج قطار عن القضبان بعد الاصطدام برصيف محطة السنطة بالغربية    روسيا تعلن السيطرة على بلدة شازوف يار شرقي أوكرانيا    عقب زلزال روسيا | تسونامي يضرب السواحل وتحذيرات تجتاح المحيط الهادئ.. خبير روسي: زلزال كامتشاتكا الأقوى على الإطلاق..إجلاءات وإنذارات في أمريكا وآسيا.. وترامب يحث الأمريكيين على توخي الحذر بعد الزلزال    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    ملعب الإسكندرية يتحول إلى منصة فنية ضمن فعاليات "صيف الأوبرا 2025"    هاريس ستدلي بشهادتها في الكونجرس بشأن الحالة العقلية لبايدن والعفو عن 2500 شخص    فورد تتوقع خسائر بقيمة ملياري دولار هذا العام نتيجة رسوم ترامب    20 شاحنة مساعدات إماراتية تستعد للدخول إلى غزة    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بشمال سيناء    معتقل من ذوي الهمم يقود "الإخوان".. داخلية السيسي تقتل فريد شلبي المعلم بالأزهر بمقر أمني بكفر الشيخ    قناة السويس حكاية وطن l حُفرت بأيادٍ مصرية وسُرقت ب«امتياز فرنسى»    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    بدء تقديم كلية الشرطة 2025 اليوم «أون لاين» (تفاصيل)    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    طريقة عمل سلطة الفتوش على الطريقة الأصلية    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    «حملة ممنهجة».. ترامب يقرر فرض رسومًا جمركية بنسبة 50% على هذه الدولة (تفاصيل)    موعد مباراة الزمالك اليوم وغزل المحلة الودية.. هل توجد قنوات ناقلة لها؟    أبرزها زيادة تعويضات مخاطر المهن الطبية ل150 ألف.. الحكومة توافق على مجموعة قرارات خلال اجتماعها الأسبوعي    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وائل السمرى يكتب : فقهاء التنوير.. الإمام أحمد بن حنبل.. ظلموه حيا وأساءوا له ميتا.. انفرد برواية حديث شرب معاوية بن أبى سفيان الخمر بعد تحريمها ولم يكن يخشى فى الحق لومة لائم

◄حرم الخروج على الحاكم لكنه كان يقول من لم يثبت الإمامة لعلى فهو أضل من حمار وإن الخلافة لم تزين عليا بل على زينها
◄أساء إليه أتباعه واضطهدوا كل من خالفه الرأى فهاجموا الناس فى البيوت والشوارع واعتدوا على مفسر القرآن «الطبرى» بالضرب
◄اعتبر مصالح المسلمين أساسا من أسس مذهبه وأحد أتباعه أعلى من شأنها وأخذ بها حتى لو خالفت الكتاب والسنة
نشأ فقيرا فاغتنى بالعلم، ضعيفا فاستقوى بكتاب الله وسنة رسوله، يتيما فصار أبا لأمه وابنا، يعرفه القاصى والدانى، وينهل من علمه كل من شهد بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أحد حفظة أحاديث الرسول وأحد أهم فقهاء عصره حتى إن البعض أخرجه من قائمة الفقهاء ووضعوه فى قائمة المحدثين، فجهده فى جمع الحديث وتدوينه وضعه فى أعلى مراتب المدافعين عن الإسلام والمستميتين فى الذود عنه.
هو الإمام العالم والمحدث الفاهم الرشيد الصادق المخلص المتفانى، أحمد بن حنبل «164ه 241ه» الذى عاش حياته مجاهدا فى سبيل العلم مضحيا براحته وعمره وقوته، كانت حياته كلها نضالا ضد فقر القلوب وانعدام الخشية، مات أبوه ورفضت أمه أن تتزوج لتتفرغ لتربيته، فخلدهما بذكره فى العقول والقلوب، كان رحيما صادقا متسامحا مخلصا تعرض للكثير والكثير من الظلم والاضطهاد والعنت من جانب السلطة التى ناوأته وعذبته واعتقلته، وبرغم حجم الإساءات المهول الذى تعرض إليه الإمام من خصومه، لكن للأسف لا تقارن مصيبته من خصومه بقدر ما لحق به من أتباعه الذين أساءوا فهمه مقرنين اسمه بما ليس فيه من تعصب.
ها هم أتباع الإمام الذى تعرض لأكبر محنته فى حياته بسبب رأى قاله أو رأى رفض الاقتناع به يذيقون كل مخالفيهم أشد أنواع البطش والتنكيل والاضطهاد والعنف، لم يسلم من عنفهم عالم ولا جاهل، غير مميزين بين من يختلف فى رأى ومن يجهر بالعداوة والبغضاء، حتى وصل الأمر إلى التنكيل بالإمام ابن جرير الطبرى مفسر القرآن وصاحب جامع البيان الذى قال عنه إمام السلفية الأكبر ابن تيمية إنه أفضل من فسر كتاب الله، فقد حدث أن ألف الإمام الطبرى كتابا يصنف فيه الفقهاء ويبين مراتبهم أطلق عليه اسم «اختلاف الفقهاء» ولم يذكر فيه الإمام ابن حنبل لأنه كان يعده محدثا وليس فقيها، وهو ما أغضب أتباع الإمام ابن حنبل، وبحسب ما أورده صاحب سير أعلام النبلاء فإن أصحاب ابن حنبل سألوا الطبرى: لماذا لم تذكر إمامنا فى كتابك؟ فقال لهم إنه كان محدثا ولم يكن بفقيه، «فاشتدّ ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة فى بغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا».
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ثارت ثائرتهم عليه وحاربوه ومنعوه من الخروج من بيته ورموه بالحجارة حتى جاء صاحب الشرطة ومعه ألوف من الجند ليبعد عنه العامة وهم الناس الذين أثارتهم الحنابلة وحرّضوهم عليه وقادوهم فى محاربته والكيد له، بل إنهم رموه بالكفر مرة وبالتشيع مرة وإمامهم فى ذلك أبوبكر محمد بن داود الظاهرى، ويقول الإمام ابن كثير دفاعا عن الطبرى فى هذا الشأن: «حاشاه من ذلك كله بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تقلدوا ذلك عن أبى بكر محمد بن داود الظاهرى، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض»، وابن أبى بكر بن محمد بن داود الظاهرى هذا قال عنه مؤسس المذهب الظاهرى «ابنى محمد كذاب»، وقال عنه معاصروه: «يكفينا ما قاله فيه أبوه»، ولكنه برغم ذلك كان ينتصر بآلاف من المؤيدين يجرهم معه جرا ليساعدوه فى أفعاله المأساوية، وقد حاول الإمام الطبرى أن يوضح لهم موقفه من ابن حنبل فألف كتابا يبين فيه موقفه من ابن حنبل ويشرح فيه مآثر الإمام ومكانته ومذهبه وأفضاله، لكن عداءهم استمر للإمام الطبرى حتى بعد موته، فمنعوه من أن يدفن فى مقبرته فدفن فى بيته بالليل سرا.
ولم يقتصر تعنت الحنابلة مع مخالفيهم على اضطهاد كل صاحب رأى لا يروقهم، بل امتد الأمر إلى العامة من الناس فمشوا فى الشارع يهاجمون الناس مدعين أنهم «يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر»، حيث يشير المؤرخ ابن الأثير فى كتابه «الكامل» ضمن ما يذكر من أحداث سنة 323 من الهجرة أن الحنابلة قويت شوكتهم وصاروا يكبسون الدور «أى يهاجمونها» فإن وجدوا نبيذا أراقوه وإن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء، بل زادوا فى الأمر حتى تدخلوا فى كل صغيرة وكبيرة ووقفوا فى السوق يعترضون على عمليات البيع والشراء، وكانوا يهاجمون كل رجل يمشى مع امرأة أو فتى صغير إذا لم يجاوبهم عن استفساراتهم عمن معه، فكانوا يسألون الرجل عن امرأته، وإن لم يجبهم ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة مدعين أنهم رأوه يفعل الفاحشة.
هذه الإساءات هى بعض مما ألحقه أتباع الإمام ابن حنبل بسيرته العطرة، ذلك الرجل الذى عانى أشد المعاناة جراء إبداء رأيه وعدم انصياعه للخليفة ولرأى الخليفة، يذيق أصحابه الناس المر إذا لمجرد الاختلاف، برغم أنه لم يثبت عن الإمام يوما أنه كان عنيفا أو فظا، وكل ما عرف عنه التقى والورع والقبض على الإيمان بقلب واع وإرادة فولاذية باذلا فى سبيل علمه كل نفيس وغال، ومتغلبا على فقره بشتى السبل من أجل تحصيل العلم، فقد كان الإمام يسعى إلى جمع الحديث من البلاد الإسلامية سيرا على الأقدام، أو كان يؤجر نفسه حمالا فى القوافل المسافرة من أجل أن ينال حديثا أو يظفر برواية، متبعا فى ذلك سنة أساتذته وعلى رأسهم الإمام الشافعى الذى ما كان يذكره إلا ويقول عنه «الأستاذ».
وتتلمذ ابن حنبل على يد أعظم الفقهاء «الشافعى» واضطلاعه على علوم مالك وأبى حنيفة لكن يبدو أنه كان لا يريد لنفسه أن يتحمل عبء الإفتاء، فكثف جهوده فى جمع الحديث والحفاظ عليه، حتى اشتهر عنه أنه «محدث» وليس فقيها ولا إماما، وذلك لأن كان يعتمد فى فقهه على الكتاب والسنة فى المقام الأول، ولم يكن يأخذ بالقياس إلا الواضح وعند الضرورة فقط، ويقال إنه كان يحفظ ألف ألف حديث عن ظهر قلب، لكنه حينما كتب كتابه الشهير المعروف باسم «مسند الإمام أحمد بن حنبل» لم يورد به إلا ما يقل عن ثلاثين ألف حديث، متفوقا بذلك على كل الأئمة الذين سبقوه والذين لم يرووا إلا بضعة مئات من الأحاديث خشية الإكثار من الرواية والوقوع فى الخطأ والكذب على رسول الله.
لهذا كله تخصص الإمام فى فقه العبادات وذكر الأوامر والنواهى الواجبة فى أصول الصلاة والصيام والحج، ولأنه كان لا يحيد عن كتاب الله وسنة رسوله فقد تسبب ذلك أن يضطهده الخليفة المأمون الذى كان يعتقد أن القرآن مخلوق وليس أزليا وهى القضية التى لا يتسع المجال هنا لذكر تفاصيلها، لكن يكفى أن نذكر أن أساسها جدلى بحت، وأنها كانت قضية مثارة فى عصر الإمام وتشغل الناس، بينما كان الإمام لا يحب الخوض فى الجدل ولا التمعن فى الغيبيات التى لم يأت فيها نص صريح، ومضى الإمام لا يخوض فى هذه القضية حتى أمر المأمون بعزل القضاة الذين لا يقرون بأن القرآن مخلوق، فما إلى رأيه كثيرون لكن الإمام ظل صامدا يدافع عن اعتقاده، فألقى القبض على الإمام ابن حنبل ليؤخذ إلى المأمون، وطلب الإمام من الله ألا يلقاه، لأن المأمون توعّد بقتل الإمام أحمد، وفى طريقه إليه، وصل خبر وفاة المأمون، فتم رد الإمام أحمد إلى بغداد وحُبس ووَلِى السلطة المعتصم، الذى امتحن الإمام، وتم تعرضه للضرب بين يديه، وقد ظل الإمام محبوسا طيلة ثمانية وعشرين شهرا، يعذب ويضرب بالسياط حتى يرجع عن اعتقاده والإمام ثابت على مقولة واحدة «القرآن كلام الله» ولما تولى المتوكل ابن المعتصم والأخ الأصغر للواثق إلى السلطة، خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد بخلق القرآن، ونهى عن الجدل فى ذلك، وأكرم المتوكل الإمام أحمد ابن حنبل، وأرسل إليه العطايا، ولكن الإمام رفض قبول عطايا الخليفة.
ضاعفت هذه المحنة من شهرة الإمام ابن حنبل، فأعجب به الناس لصموده على رأيه وعدم خوفه من الحاكم وسياطه الملتهبة، فصاروا يطلبون منه الفتوى فى شؤون دنياهم ودينهم، وكان تمنعه عن الفتوى عاملا إضافيا لإعجاب الناس به، حيث شاع عنه أنه لا يفتى إلا الفتاوى التى لا تقبل الشك، فعده الناس فقيه عصرهم، وهو ما خالفه الكثير من المؤرخين فيقول ابن خلدون فى تاريخه: «فأما مذهب أحمد، فمقلده قليل، لبعد مذهبه عن الاجتهاد، وأصالته فى معاضدة الرواية والأخبار بعضها ببعض، وسبق أن بينا فيه رأى الطبرى، وعده ابن قتيبة فى المحدثين وليس فى الفقهاء، وكان الإمام ذاته يكره أن ينقل عنه أحد فتاواه، أو ينشرها أحد باسمه، ويروى عنه أنه قال لأحد أتباعه الذين كانوا يستهوون كتابة آرائه: لا تكتب رأيا لعلى أقول الساعة بمسألة ثم أرجع عنها غدا، كما أنه كان يتحفظ فى الإفتاء وأخذ عن الإمام مالك ميله للقول «لا أدرى» فى المسائل المستعصية، ولم يكن يفتى فى المسائل الافتراضية، فكان لا يفتى إلا فى الأمور الواقعية.
وبرغم أن الإمام أحمد لم يكن من الذين يدخلون على السلاطين ولا من يحبون مجالساتهم، لكنه كان دائم الحرص على تجنيب الناس الفتنة محرما الخروج على الحاكم وراويا الأحاديث التى تقول بذلك، مؤثرا دائما عن الخوض فى أحاديث الفتنة أو إبداء الرأى فيها، ولكنه لم يقدر على كتمان اعتقاده حينما اتهم بعض الناس الإمام الشافعى بالتشيع بعدما كتب كتابه الشهير «أهل البغى» فدافع ابن حنبل عن الشافعى وقال: من لم يثبت الإمامة لعلى فهو أضل من حمار وإن الخلافة لم تزين عليا بل على زينها، ويقول: ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلى رضى الله عنه، لكنه مع ذلك ما كان ليطعن فى معاوية بن أبى سفيان، لكن لأنه لم يكن ليحيد عن الأثر فقد توقف عن هذا القول حينما رأى طائفة من الصحابة مع معاوية، وكف عن ذكره ومناقشته.
ولأن الإمام لم يكن ليكتم علما تماما مثل الإمام مالك الذى عذبه الوالى لأنه لم يكتم حديث رسول الله «ليس على مستكره بطلاق» الذى فهم الناس منه أنه يحلل التحرر من بيعة الخليفة المنصور لأنه أكره الناس عليها، فنرى ابن حنبل يذكر الكثير من الأحاديث التى وردت إليه مادامت قد وردت إليه من رواة «ثقة» دون النظر إلى أى شىء آخر، ولهذا انفرد بحديث شرب معاوية بن أبى سفيان للخمر بعد تحريمها، وهو الحديث الذى حسنه الشيخ مقبل الوادعى وهو من هو فى التيار السلفى فى كتابه «الصحيح المسند مما ليس فى الصحيحين» وأورده الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده تحت رقم 22941 الوارد فى الجزء الثامن والثلاثين من المسند طبعة مؤسسة الرسالة التى حققها العلامة شعيب الأرنؤوط ص 25 و26 حيث يقول الحديث: حدثنا عبدالله حدثنى أبى ثنا زيد بن الحباب حدثنى حسين ثنا عبدالله بن بريدة قال دخلت أنا وأبى على معاوية فأجلسنا على الفرش ثم أتينا بالطعام فأكلنا ثم أتينا بالشراب فشرب معاوية ثم ناول أبى ثم قال ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال معاوية كنت أجمل شباب قريش وأجوده ثغرا وما شىء كنت أجد له لذة كما كنت أجده وأنا شاب غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدثنى» ويقول عن هذا الحديث العلامة الأرنائووط إن إسناده قوى روى له أصحاب السنن، وحسين بن واقد صدوق لا بأس به ورواته ثقات الرجال صحيح كما أن ابن عساكر أخرجه فى كتابه تاريخ دمشق فى ترجمة عبدالله بن بريده.
ومن اللافت هنا أن نلحظ أنه برغم تحفظ الإمام أحمد الكثير على الإفتاء وميله الدائم إلى الاحتكام إلى النص، لكنه كان يعتبر «المصالح المرسلة» أصلا من أصول فقهه، ومن الثابت اعتماد الإمام عليها فى كثير من المسائل، وعدها الإمام ابن القيم من أصول الاستنباط، والمصالح المرسلة هى تلك التى يتوافق المجتمع على أهمية تحقيقها ولم يرد فيها نص صريح، ولهذا أسموها مرسلة، وقد ورث الإمام أحمد هذا الاتجاه عن الإمامين مالك وجعفر الصادق، اللذين كانا يعتبران مصالح العباد أساسا من أسس الدين إن لم تكن تخالف الكتاب والسنة، لكن هذا الاتجاه -وهو عدم مخالفة الكتاب والسنة- وجد من يخرج عنه من أتباع المذهب الحنبلى، فها هو الإمام الطوفى الحنبلى يعلى من شأن مصلحة العباد على الإجماع والكتاب والسنة والنصوص القطعية الثبوت والدلالة، متخذا من حديث رسول الله «لا ضرر ولا ضرار» متكأ مرجحا من خلاله ضرورة أن تكون مصالح العباد وعدم وقوع الضرر ذات أهمية عليا، ومستشهدا بقول الله تعالى «لكم فى القصاص حياة»، مؤكدا أن العلة من القصاص ليست القصاص فى حد ذاته وإنما «الحياة» ولهذا تراه يضع «المصلحة» فوق كل اعتبار، فيما عدا الأمور التعبدية، لأنها من حق الله تعالى على عباده، بل إنه يقول: المصلحة من أدلة الشرع، وهى أقواها وأخصها، فلنقدمها فى تحصيل المصالح، ثم إن هذا يقال فى العبادات التى تختفى مصالحها عن مجارى العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين فى حقوقهم فهى معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا الشرع متقاعدا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا فى تحصيلها على رعايتنا» لكن على أية حال بقى رأى «الطوفى» شاذا عن إجماع الحنابلة ولم يقل به أحد غيره، بل أن هناك من أخرجه من دائرة الفقه الحنبلى تماما واعتبره مدسوسا عليهم متهمينه بالتشيع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.