من يتأمل خريطة الأمن القومي المصري سيدرك أن حدود مصر ليست مجرد خطوط جغرافية على الورق بل هي جبهات استراتيجية تُصان باستقرار الدول التي تجاورها. فكلما كان الجوار قويًا مستقرًا يمتلك مؤسسات وجيشًا وطنيًا متماسكًا انعكس ذلك على قوة مصر وأمنها المباشر، والعكس صحيح؛ إذ إن انهيار أي دولة على حدودك يفتح الباب لمخاطر الإرهاب والميليشيات والسلاح والمخططات المعادية. ولذلك لم يكن غريبًا أن تتحرك مصر بوعي استراتيجي في ملفات ليبيا والسودان. لم يكن الأمر مجرد وساطة سياسية أو تحرك دبلوماسي عابر بل كان رؤية بعيدة المدى لحماية أمننا القومي. دعم استقرار ليبيا ومؤسساتها والسعي لوقف النزيف السوداني ومنع انقسامه هو في الحقيقة حماية لحدود مصر الغربية والجنوبية وقطع الطريق على أي فراغ قد تستغله قوى إقليمية أو جماعات متطرفة لتطويق مصر أو الضغط عليها. ولعل المشهد الإقليمي يقدم مثالًا صارخًا على ذلك. تخيلوا لو أن سوريا والعراق اليوم دولتان قويتان بجيوشهما ومؤسساتهما هل كانت إسرائيل ستجرؤ على اختراق أجوائهما لضرب أهداف في قطر؟ بالتأكيد لا. ضعف الدول وانهيار منظوماتها الوطنية جعل أجواءها وأرضها مستباحة وهذا هو جوهر الخطر الاستراتيجي حين يسقط الجوار. مصر بحكم موقعها ودورها أدركت مبكرًا أن ما يُدار للشرق الأوسط ليس مجرد أزمات داخلية هنا وهناك بل مخطط لإضعاف دوله وتفكيك جيوشه وإبقاء المنطقة رهينة للفوضى. ومن هنا جاء تحركها الاستباقي: فاستقرار طرابلس والخرطوم ليس شأنًا بعيدًا بل هو شأن مصري خالص؛ لأن سقوطهما ينعكس مباشرة على القاهرة. إنني أرى أن الرؤية المصرية أثبتت أنها تتجاوز منطق رد الفعل لتنتقل إلى منطق التحصين الاستراتيجي حيث يبدأ أمن مصر من جوارها ومن ثم تمتد دوائر الحماية لتشمل الإقليم بأكمله. وما يحدث اليوم يثبت أننا كنا أمام قراءة واعية بعيدة المدى تجعل من استقرار الجوار الركيزة الأساسية لحماية الداخل. الخاتمة: إن الدرس الأهم الذي يجب أن تدركه المنطقة اليوم هو أن لا أمن لدولة عربية في عزلة عن جيرانها. فالمخططات التي تُحاك للشرق الأوسط لن تستثني أحدًا والفراغ الذي يتركه ضعف أي دولة سيتحول إلى تهديد مباشر لبقية الدول. ومن هنا فإن الواجب يحتم علينا جميعًا كدول عربية، أن نتكاتف من أجل حماية استقرارنا ووحدة جيوشنا لأن البديل هو مزيد من الانهيار والتقسيم والتبعية. استقرار الجوار ليس ترفًا سياسيًا بل هو قدر استراتيجي ومصر قدمت الدليل العملي على أن الأمن القومي يبدأ من خارج الحدود بقدر ما يبدأ من داخلها