لقد شعرت بالخجل نيابة عن كل الفلسطينيين بعد تعثر البدء فى الحوار بين مختلف الفصائل الفلسطينيةبالقاهرة لأسباب عديدة، أولها أن كلاً من فتح وحماس سارع إلى إلقاء التبعة على الآخر، وبصرف النظر عمن هو المخطئ والمصيب، فإن الضحية هى القضية الفلسطينية، وأن الفائز الوحيد هو إسرائيل. ولذلك فإن الشعب الفلسطينى والشعوب العربية لا تريد أن تسمع من السبب فى فشل الحوار، وإنما تصر على أن الورقة الأولى فى القضية الفلسطينية، لإعادتها مرة أخرى إلى الساحة الدولية، ليست المفاوضات بين أبو مازن والجانب الإسرائيلى، وليست اجتماعات اللجنة الرباعية الدولية التى انحازت إلى إسرائيل، وإنما الورقة الأولى هى الحوار والإسراع إلى تحقيق نتائج، تؤدى إلى القفز على هذه المرحلة المظلمة من التشتت والتمزق داخل الصف الفلسطينى. لقد نشأنا فى العالم العربى على تربية سياسية تؤكد أن القضية الفلسطينية هى القضية المركزية، التى تعلو على كل الهموم الوطنية للعالم العربى. تقوم هذه الثقافة السياسية على أن الأنظمة العربية كانت تستمد شرعيتها من انخراطها فى خدمة هذه القضية، وأن دعم هذه القضية كان من المسلمات العربية، ولم يدر فى خلدنا حتى فى أحلك الافتراضات أن الشعب الفلسطينى سوف يقف حائراً بين جناحين، وأن قضيته الحقيقية تتسرب فى هذا الصراع العبثى المحموم، وأن الدم الفلسطينى يراق بأيدٍ فلسطينية. كان هذا الافتراض لا يرد على الخاطر، ولكن إسرائيل راهنت عليه، وتحقق بفضل الأخوة الفلسطينيين. ولذلك فإن الحوار ونجاحه لم يعد شأناً فلسطينياً خالصاً، وإنما هو مطلب عربى رسمى وشعبى. ومهما قيل فى موقف القاهرة بين أطراف الحوار، فإن القاهرة تظل دائماً السند القوى للشعب الفلسطينى، وأن تصفية القضية الفلسطينية يلحق أبلغ الضرر بالأمن القومى المصرى. يدرك أشقاؤنا فى فلسطين أن استمرار الصراع الفلسطينى الفلسطينى ينهى قضيتهم، ويشجع إسرائيل على التفاوض مع أى فلسطينى على تسوية نهائية وهم فى أدنى قوتهم. ولا أريد أن أوزع اللوم على أطراف الصراع، بعد أن وصل كل فى اتهامه للآخر إلى درجة الخيانة والعمالة، ولكننى أعتقد أن رئيس السلطة يتحمل بحكم مسئوليته العبء الأكبر، وأن حديثه عن استمرار المفاوضات مع إسرائيل بحجة التمسك بالقضية عالقة على الأجندة الإقليمية، حتى يبرر بقاءه فى السلطة بعد 9 يناير 2009، يحتاج منه إلى مراجعة عميقة. فالتمسك بالقضية واستعادتها أهم بالضرورة من التمسك بسلطة يعصف بها الاحتلال، ولا تملك من أمرها شيئا. ولست ممن وصل بهم اليأس إلى حد حل السلطة، وفتح المواجهة بين الشعب الفلسطينى بلا قيادة وبين إسرائيل، لأن ذلك سوف يعطى إسرائيل المزيد من الفرص لاستكمال مشروعها. فكيف تتأتى الشجاعة لأطراف الصراع الفلسطينى فى أن يكون كل منها مرناً من أجل القضية، بينما إسرائيل تجهز على القدس، وبينما الاستيطان فى الضفة الغربية يوشك أن يبلغ مداه، وبينما اليأس من أصحاب القضية فى العالم العربى أطاح بما تبقى من تعاطف إزاء الشعب الفلسطينى. لقد استمعت بالكثير من المرارة للاتهامات المتبادلة بين الجانبين، حتى ظننت أنه لا أمل فى التقائهما، وشعرت أن هذا الشعب الذى يلقى الأمرين من سلطات الاحتلال يعانى أيضاً من قياداته، ولذلك فإننى أطالب هذه القيادات أن تتجرد من غريزتها السياسية، وأن تعلو فوق الصغائر، وأن تدرك أن الخطر يطيح بالجميع، وأن تعود مرة أخرى إلى الحوار فى مصر، التى قد يدفعها اليأس مرة أخرى إلى نفض يدها، أو عدم القدرة على مواجهة الضغوط التى تدعوها إلى غسل يدها من هذا الحوار. وأخيراً يدرك أبو مازن أن استمرار الحوار مع إسرائيل لا يمكن أن يبرر بقاءه فى السلطة خلافاً لأحكام الدستور الفلسطينى، كما أن هذه المفاوضات التى تهدف إلى ترطيب الأجواء بينه وبين إسرائيل، وتشجيع إسرائيل على التآمر على حماس وتعتبرها عدواً مشتركا لها وله، تقدم أفضل غطاء لادعاء إسرائيل بأن عملية السلام لا تزال قائمة، كما أن أبو مازن لا يعبر عن كل الشعب الفلسطينى، مثلما أن حماس لا تعبر هى الأخرى عن كل الشعب الفلسطينى، ولذلك فإن كلاً منهما على حدة لا يكفى ناهيك عن أن كل منهما يسعى لإفناء الآخر، وحتى فى هذه الظروف ومع هذه النتيجة فإن الشعب الفلسطينى سوف يدفع من دمه ومصيره ثمن هذه المعادلة الحمقاء.