إن الطائر الوحيد الذي عبر سماء حبي اختطفته يد لكنها لم تكن يد نسر هكذا علق الفيلسوف الألماني الكبير «فريد ريك نيتشه» علي استسلام محبوبته «سالارمييه» لسحر موسيقي «فاجنر» تركت «سالارمييه» «نيتشه» واختارت «فاجنر» هجرت الفيلسوف لصالح الموسيقي سحرها بموسيقاه، اخترقتها «بارسيفال» و«الجمعة الحزينة» وباقي مقطوعات «فاجنر» السحرية وكانت المواجهة بين الفلسفة والموسيقي وحسمت في النهاية لصالح الثانية علي عكس ما حدث مع «سعاد حسني» أو سندريلا السينما المصرية التي اختطفها سحر الشاشة وجذبتها الصورة فانتصرت السينما بكسبها موهبة كبيرة بحجم موهبة «سعاد حسني» وأري أنه لو كتب ل «سعاد» أن تكمل سيرتها الغنائية لأصبحت من كبار مغنيات هذا العصر ولدي أسبابي وأولها ما استطاعت أن تصنعه من هدم الحاجز أو السور ما بينها وبين المتلقين، لقد نجحت «سعاد حسني» نعم في نسف كل الحواجز التي تعوق تواصل المستمع معها، وكنت حينما أستمع إليها أشعر وكأنها بجانبي ومن الأسباب الأخري المهمة تلك الحياة التي كانت تنبض في صوت «سعاد»، هي تغني لآخر نفس دون انقطاع، صوتها يشعرك كأنه من العائلة - عائلتك، إضافة إلي وعيها بالاختلاف ما بين الطرائف اللحنية لكل ملحن أي أنها لا تغني بطريقة واحدة كما يتمتع صوتها بحنان يمكنه أن يتسلل إلي عمق أي أذن دون أي شك، ومن الأسباب التي كانت وراء إقصائها كمغنية هي عدم اهتمام من حولها بهذا الشق بحجم اهتمامها واهتمامهم بوجودها السينمائي لذا كسبت السينما الجولة وخسرنا نحن محبو الغناء وعاشقوا السينما أيضا صوتا نادرا ما يوجد في خصوصيته ومدي اقترابه وعمقه وأثره فينا. البداية الأولي للغناء كان ذلك في العام 1946 أي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بعام تقريبا وكان الإذاعي الكبير «محمد محمود شعبان» قد وقع علي هذا الكنز فكانت الطفلة «سعاد محمد حسني» ابنة الخطاط الشهير «محمد حسني» وبالمناسبة فأنا لي حكاية مع هذا الأب لقد كنت أتجول في سور الأزبكية ما بين المكتبات بحثا عن الكتب القديمة التي كتب أغلفتها، لقد كان الأب من كبار خطاطي العالم العربي. وكتب أغلفة كثيرة هي في الحقيقة لوحات خطية مهمة لذا كان من الطبيعي أن يكون لديه هذه العائلة الفنية الفريدة غنت «سعاد» في برنامج «بابا شارو» الذي كان يقدمه «محمد محمود شعبان» كما أشرت وكان عمرها ثلاث سنوات وكانت أغنيتها «أنا سعاد بنت القمر/ بين العباد حسني اشتهر» من الأغنيات الناجحة في البرنامج ذلك الوقت، إضافة إلي أغنية أخري جاءت كلماتها كالتالي «طولي شبر ووجهي بحر وصوتي سحر» وكما لو كانت تتحدث عن نفسها في المستقبل لم تكن تعلم أن هناك أيادي أخري ستدفعها بقوة في اتجاه آخر، وبلاد أخري، وعواصم لم تكن تتخيلها، فاستسلمت لعالم آخر استطاع أن يبهرها بالصورة وسحرها اللامنتهي. اللقطة الأولي علي شاشات السينما في العام 1959 كان الشاعر والمخرج والمثقف والمكتشف «عبدالرحمن الخميسي» يعد لفيلم عن القصة الشعبية «حسن ونعيمة» وقتها كان مقدرا أن يقوم ببطولة هذا الفيلم كل من «فاتن حمامة» و«عبدالحليم حافظ» إلا أن «الخميسي» طلب من «محمد عبدالوهاب» بوصفه شريكا في الإنتاج أن يقدم أسماء جديدة وبعد مباحثات وافق الموسيقار الكبير «محمد عبدالوهاب» علي اقتراح «الخميسي» وكانت «سعاد حسني» هي البطلة الأولي معها الصوت الشاب في ذلك الوقت «محرم فؤاد» وكانت بداية الفرجة من نوع خاص التحمت «سعاد» بأغنيات الفيلم التي قدمها «محرم فؤاد» والتي نجحت نجاحا ملفتا وعلي رأسها دور أغنيات الفيلم «رمش عينه اللي جارحني رمش عينه» من كلمات «مرسي جميل عزيز» وبدأ اسم «سعاد حسني» يلمع في الأوساط الفنية وكانت بداية غير عادية وانتبهت السينما آنذاك إلي الوجه الجديد الذي سحر المتفرجين من أول لقطة له في هذا العالم العجيب والثري من يومها جاءت الانطلاقة الفنية وتحقق لهذا الاسم مالم تتوقعه «سعاد حسني» ذاتها في تلك الفترة لقد فتحت لها السينما أبوابها علي مصراعيها. بداية الغناء في السينما إذا استطعنا أن نرصد البداية الغنائية الحقيقية ل «سعاد حسني» ستكون في العام 1966 حين عملت مع المخرج «نيازي مصطفي» في فيلمه «صغيرة ع الحب» حينما ساعدها «نيازي مصطفي» أن تلبس دور المغنية فقدمت أغنيات الفيلم بإتقان ودقة لا يتوافران سوي لخبرة غنائية حقيقية، لقد قدمت «سعاد» في ذلك الفيلم أغنية «قد الحب» من كلمات «حسين السيد» وألحان «محمد الموجي» وعلمت الأغنية وما زالت تعلم فينا إلي هذه اللحظة كما قدمت أوبريت «صغيرة علي الحب» والذي حمل اسم الفيلم وهو أيضا ل «محمد الموجي» ووضحت ساعتها إمكاناتها الصوتية والتي استطاعت أن تستوعب النقلات المفاجئة التي صنعها «محمد الموجي» في ذلك الأوبريت ما بين «العلوي والسفلي/ العالي والمنخفض» وعاش الأوبريت بسحرة وروحه ومنه «يا بحر الهوي يا حبيبي أنا/ أنا كنت عايزة أجيلك بقالي كام سنة/ بيقولوا إنك قوي/ وبتجرح بالقوي/ علمني بس حاسب عليه من الهوي.. يا بحر الهوي» كانت الكلمات ذات منطق بسيط وينتمي إلي اتجاه فني هو الاتجاه الرومانسي وكان اللحن ابن الموسيقي التصويرية والميلودية في ذات الوقت، وهناك الأداء العفوي الصادق البسيط ل «سعاد حسني» التي تغني كما لو كانت تحمل ضيفرتها لأول محبوب حقيقي يطرق بابها هكذا كانت «سعاد» في انطلاقتها الغنائية الحقيقية من خلال فيلم «صغيرة ع الحب» للراحل «نيازي مصطفي» كان ذلك في العام 1966. الزواج علي الطريقة الحديثة كانت اللقطة الثانية للمغنية من خلال فيلم «الزواج علي الطريقة الحديثة» للمخرج «صلاح كريم» في العام 1968 وكان «صلاح» زوج «سعاد حسني في ذلك الوقت ومن خلال الفيلم قدمت «سعاد حسني» بالاشتراك مع «ثلاثي أضواء المسرح» أغنية «خدنا أجازة» والتي كتبها العبقري «فتحي قورة» وهي من ألحان «محمد الموجي» أيضا ولاقت الأغنية نصيبا كبيرا من النجاح إذ أصبحت عنوان المصايف والإجازات الصيفية كما نجح «فتحي قورة» في عمل خلطة سحرية تجمع ما بين الكوميدي والدراما والشكل يقترب من السخرية ببساطة عرفت عنه وأيضا كان السر في نجاح هذه الأغنية إدراك الملحن لطبيعة كتابات «فتحي قورة» وما بها من طاقات حركية فقدم «محمد الموجي» لحنا يتميز بمرونة خالصة ويعتمد علي الغناء الصرف أحيانا و«الريستاتيف» في أحيان أخري ولأن الكلمات واللحن كانا أقرب إلي طبيعة روح كل من «ثلاثي أضواء المسرح» و«سعاد حسني» استطاعت العناصر أن تكتمل بشكل كلي، وبالفعل كان نجاحًا آخر للمغنية الجميلة. الأب الروحي والعائلة الجديدة لقد ظلت «سعاد حسني» تقدم ألحان «محمد الموجي» وتنتقل من شاعر إلي آخر حتي التقت في «موسكو» بأحد رواد العامية المصرية الشاعر «صلاح جاهين» إذ كان وقتها في رحلة علاج هناك نتيجة لاكتئاب شديد كان قد أصابه عقب حرب حزيران، يونيو من العام 1967 إلا أن لقاءه ب «سعاد» كان في العام 1971 وقتها شعرت بأنها وجدت ظهرها وسندها الذي ظلت تبحث عنه، لقد وجدت «سعاد» في «صلاح جاهين» أمانها المفتقد وبالفعل بدأت رحلة غنائية جديدة وخاصة يدعمها الإنساني قبل الفني، وظهرت ثمرة هذا التعامل من خلال فيلم «خللي بالك من زوزو» للراحل الكبير «حسن الإمام» في العام 1972 وأود أن أشير إلي أن «حسن الإمام» من بين الذين اهتموا بموهبة الغناء لدي «سعاد» وبالفعل قدمت سعاد حسني في هذا الفيلم أغنيات فارقة مع الشاعر «صلاح جاهين» ومن ألحان «كمال الطويل» و«سيد مكاوي» صاحب أغنية الفيلم «خللي بالك من زوزو» والتي نجحت نجاحا مذهلا أكد صورة المغنية بجانب الممثلة ويعتبر هذا الفيلم من أنجح الأفلام في السينما المصرية إذ استمر في السينما ما يزيد علي عام - أي «53» أسبوعًا - وبمناسبة لحن «خللي بالك من زوزو» لقد استطاعت سعاد أن تهرب من روح «سيد مكاوي» المهيمنة علي اللحن، إن ل «سيد مكاوي» تكته الشهيرة» في ألحانه، فما من لحن ل «سيد مكاوي» إلا وتعرفه إلي درجة تشعرك أن «مكاوي» يقف وراء المطرب، ولدينا دلائل علي ذلك تأكدت في ألحان «يا مسهرني» مع كوكب الشرق «أم كلثوم» و«تفرق كثير» مع المطربة الكبيرة «نجاة» وألحان أخري ظهر فيها نفس الشيخ «سيد» بقوة واضحة لم تستطع هذه القوة أن تجنب روح «سعاد» وأداءها المختلف. الثلاثي بدأت فكرة «الثلاثي» ما بين «سعاد حسني - صلاح جاهين - كمال الطويل» تتعمق منذ «خللي بالك من زوزو» إلا أنها زادت عمقا في العام 1974 حين قدمت «سعاد» مع «حسن الإمام» فيلم «أميرة حبي أنا» وقدمت من خلاله أغنيات «يا واد ياتقيل - الدنيا ربيع - بمبي» وكلها من كلمات الشاعر «صلاح جاهين» ومن ألحان «كمال الطويل» وكانت نقلة جديدة في عالم «سعاد حسني» الغنائي لقد نافست «سعاد» في هذا الفيلم بأغنياتها الخفيفة التي تعتمد علي الحركة دون أي افتعال حتي الأغنية التي كانت مثار اختلاف ما بين المثقفين في ذلك الوقت وهي أغنية «بمبي» كانت من الأغنيات الجديدة في ذلك الوقت، وكانت كسرا لقاموس الحب المعتاد فالشاعر ينتصر للصورة والمفردات في أن واحد «بيت صغير فوق جزيرة لوحدنا/ والعنب طالع وريحة البحر هلّه/ حلم ولا حقيقة سيان عندنا/ المهم نكون سوي وكله علي الله» يلقي «صلاح جاهين» الجمل بعفوية وسهولة تقترب إلي العناق ولعل أكثر الأغنيات تعبيرا عن فصل الربيع هي أغنية «سعاد حسني» و«صلاح جاهين» و«كمال الطويل» «الدنيا ربيع» من سعاتها أيقنت «سعاد» أن حياتها في يد «صلاح جاهين» و«الطويل» وأسلمت نفسها لما شعرت به من أمان تجاه الشاعر العظيم صلاح جاهين الذي لم يكن مجرد شاعر بالنسبة ل «سعاد» بل كان قارب النجاة الحقيقي علي هذه الأرض. بانوا بانوا لم نستطع أن نمر علي تجربة «سعاد حسني» الغنائية دون أن نتوقف أمام محطة مهمة في مشهدها الغنائي هي مرحلة فيلم «شفيقة ومتولي» مع زوجها الثاني المخرج الكبير «علي بدرخان» والذي قدمت من خلاله أغنية تعد من العلامات الغنائية لديها تلك الأغنية هي أغنية «بانوا بانوا» من كلمات العملاق «صلاح جاهين» وألحان «كمال الطويل» والأغنية تفضح طبقة بكاملها إذ جاءت كقراءة لحالة أحد أفراد الطبقة البرجوازية إبان حكم الخديوي إسماعيل إذ كانت «سعاد» تقوم بدور «خليلة» أحمد - أي عشيقته - في الفيلم وخدعت في ذوقه الزائد إلي أن اكتشفت أنه تاجر عبيد فانقلبت عليه وعلي أفندينا فراحت تغني «بانوا بانوا بانوا علي أصلكوا بانوا/ ولا غنا ولا صيت دولا جنس غويط/ وكتابنا يبان من عنوانه/ أيوه بانوا بانوا» إلي آخر النص الذي جاء مطابقا للصورة المنشودة بل ويزيد جماله عليها فمن يمكن أن يكتشف مفردات في دقة «الطبع الرضي من جواه نط» فإن كلمة «الرضي» من الكلمات المصاحبة لتعبيراتنا الشعبية، جعل لها جاهين حضورها وأهميتها كذلك قدم «الطويل» لحنا إيقاعيا وآخر «قاعدا» من خلال اللحن ذاته بصورة لا تختلف عن النص ولو لشعرة واستطاعت «سعاد حسني» أن تكشف بأدائها المنكسر عن صيغة جديدة للغناء أقرب إلي الدراما منها إلي الروح الخفيفة التي عودتنا أن تقدمها في أغنياتها تثبت من جديد قدرتها علي الغناء بجميع أشكاله وأصواته. أغنيات خارج السينما قدمت «سعاد حسني» أغنيات أخري خارج السينما منها حلقات مسلسل «هو وهي» مع الشاعر «صلاح جاهين» وكانت الألحان لكل من «كمال الطويل» و«عمار الشريعي» إضافة إلي أغنيات أخري منها أغنية «دولا مين» من كلمات «أحمد فؤاد نجم» وألحان «كمال الطويل» عقب نصر أكتوبر في العام 1973 وكانت إشادة بجنودنا البواسل الذين حققوا نصرا عسكريا من حقنا أن نتباهي به، كما قدمت أغنية من أغاني الأم هي أغنية «صباح الخير يا مولاتي» للعبقري «صلاح جاهين» وألحان «كمال الطويل». إن تجربة «سعاد حسني» الغنائية بإمكانها أن تصنع مشهدا غنائيا يستحق الوقوف أمامه طويلا، فليحيا اسم «سعاد» المغنية كإضافة حقيقية للمشهد الغنائي في مصر.