فى مدينة دريسدن، التى قتلت فيها مروة الشربينى، يتقابل كل ما هو جميل وعظيم فى الحضارة الألمانية مع كل ما هو قبيح ومؤسف ومأسوى فى تاريخها. فى دريسدن، ما زالت هناك مجموعة مبهرة من مبانى عصر ال«بوروك» (الذى تصادف تقريبا مع بداية عصر التنوير فى فرنسا)، لكن جزءاً كبيراً منها قد تساقط فى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين أمطر الحلفاء المدينة على مدى عدة أيام بأكثر من نصف مليون قنبلة حارقة.. ومن ضحايا الدمار العشوائى الذى نتج كانت كنيسة قديمة، لعب فيها فى يوم من الأيام، على آلة الأورج الموجودة بداخلها، الموسيقار يوهان سيباستيان باخ، وهو ربما أهم مؤسس للموسيقى الكلاسيكية كما نعرفها الآن.. سقطت «كنيسة سيدتنا» ال«فراونكيرش» عندما وصلت درجة حرارة جدرانها إلى ألف درجة مئوية، بعد يومين من تساقط النيران المتواصل من السماء، ودمر معها الأورج العتيق الذى كان يلعب عليه «باخ». وفى دريسدن تسكن أقدم (وأحد أعظم) أوركسترات العالم، فى أيام مضت (بين 1843 و1848) كان يقود تلك الفرقة الموسيقار ريكارد فاجنر نفسه، وهو يعتبر من أعظم المبدعين فى تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، فاستعانت بتقنياته الموسيقية العبقرية أجيال متتالية من الموسيقيين- وحتى الأدباء والمسرحيين والسينمائيين، فلم يكتف فاجنر بكتابة الموسيقى لأوبراته الشاسعة، إنما كتب لها أيضا القصة والحوار الشاعر (الليبريتو) وأخرجها بنفسه، بل إنه أيضاً صمم المسرح (الذى تقام فيه أعماله حتى الآن) بنفسه! اقتبس فاجنر معظم قصص أوبراته من الأساطير الألمانية القديمة لأنه كان يعتقد أنه بذلك يحيى تراث التراجيديا اليونانية القديمة (المبنية على الأساطير) فى إطار جديد، فكانت عروض تلك الملحمات فى الماضى (أى قبل حوالى 2500 سنة) تصاحبها الموسيقى.. لكن الموسيقى ضاعت مع الدهر، لتبقى فقط النصوص المجردة.. واعتقد صديق فاجنر، الفليسوف فريدريك نيتشة، أن الأول قد نجح فعلا فى إعادة بعث روح التراجيديا اليونانية القديمة. لكن، رغم عظمته الفنية والفكرية المبهرة، كان فاجنر (على عكس نيتشة) عنصريا ومعاديا لليهود (وكان ذلك من أسباب مهاجمة نيتشة له فيما بعد). وفى العصور الكالحة التى تلت، استخدم النازى أفكار فاجنر (وحتى نيتشة) كأداة ثقافية، وظفوها من أجل حربهم على العالم، حتى صار المسرح الذى بناه فاجنر ملهى لل«حجاج» النازيين وحاشيتهم، وبؤرة للدعاية الرخيصة للنظام. فى كثير من الأحيان، كان الذى يحيى مثل هذه الحفلات هو المايسترو العظيم فيلهلم فورتفانجلر.. لم يكن فورتفانجلر نازيا، وكان يرفض تأدية التحية النازية لهتلر وأعوانه، وكان لديه اعتقاد «ألمانى» راسخ، وكان يشاركه فى ذلك الكثير من الموسيقيين الألمان آنذاك، بأن الموسيقى أداة للوئام والإصلاح والتصالح، والكبح من فظاعة الدمار والعنف والبربرية فى العالم.. لكن لم تفده تلك الرؤية عندما منعه الضجيج الذى صنعته مجموعة من اليهود فى الولاياتالمتحدة (وجزء كبير منها كان قد هرب من جحيم النازى) من العزف فى الولاياتالمتحدة بعد نهاية الحرب. حتى عائلة المايسترو العظيم دانيل بارنبويم، فقد رفضت أن يتتلمذ ابنهم الفذ على يد فورتفانجلر، الذى كان يطلب بسذاجة التصالح مع الآخر والانفتاح عليه بعد الحرب- ومن ضمن نشاطاته فى هذا الاتجاه كانت زياراته مع أوركسترا برلين الفيلهارمونى للقاهرة فى أوائل الخمسينيات، حين سجل أحد أهم وأحزن تسجيلات لسيمفونية تشاكوفسكى السادسة ال«باتيتيك». مع ذلك، كانت مساندة فورتفانجلر لبارنبويم ذات تأثير هائل فى حياة وفن الأخير، وعندما جاء دور بارنبويم لقيادة أوبرات فاجنر فى مسرحه ببافاريا، كان مساعده هو كريستيان ثيلمان، الذى سيتولى قيادة أوركسترا دريسدن قريبا، وعندما اشتدت المنافسة بينهما على قيادة أوبرا برلين فيما بعد، أثار أحد السياسيين الألمان زوبعة، حين أشار إلى أن الاختيار هو بين «كرايان الصغير»- أى ثيلمان- و«اليهودى بارنبويم».. ورد بارنبويم بمقال رائع، نشره فى ال«نيو يورك رفيو»، حلل من خلاله تاريخ ألمانيا، ما بين العظمة الفنية والفكرية والفشل السياسى والاجتماعى، وبدأه بمقتطف من كتابات نجيب محفوظ عن «قسوة الذاكرة». وعندما حاول بارنبويم لعب أعمال فاجنر فى إسرائيل، هاجموه بأنه يهودى خائن وكاره لنفسه ولشعبه.. وعندما جاء إلى القاهرة، قيل عنه إنه صهيونى قذر. هكذا جسد بارنبويم المأساة الألمانية على صعيد آخر جديد، وهو مسرح الشرق الأوسط الغارق فى العنف اللفظى والفعلى والدماء. ومأساة مروة الشربينى، وصراع عائلتها مع أوركسترا دريسدن، لا يمكن اعتباره إلا حلقة جديدة من تراجيديا التاريخ الألمانى فى صورتها الشرق أوسطية. والعائلة على حق بأن تطلب عدم مشاركتها فى حفل الأوركسترا العظيم قبل أن تأتى العدالة ويتم محاسبة القاتل والذين أهملوا فى حماية فقيدتهم وزوجها، لكنى لا أعتقد أنها كانت على حق فى محاولتها الناجحة لمنع وصول الأوركسترا من الأصل. على أى حال، أتمنى أن يكون تأجيل الحفل هو تأجيل فعلا وليس إلغاء، وأن يأتى اليوم الذى يتعانق فيه أفراد الأسرة من الموسيقيين العظام القادمين من ألمانيا. فالتاريخ الألمانى (والتراجيديا اليونانية) يشيران إلى أن العدالة المطلقة تعنى فى أكثر الأحيان سيلاً مستديماً من الدماء، أما التسامح والحوار فيمثلان بصيصاً من النور والأمل. فلنستقبل ما هو أعظم فى تاريخ ألمانيا حتى إذا تصارعنا مع ما هو أقبح.. فحتى كنيسة ال«فراونكيرش» تم إعادة بنائها لاحقاً كرمز للتسامح والوئام.