كانت تونس لدى ساركوزى وبرليسكونى، وحتى وقوع الطامة الكبرى أو الهبة أو الانتفاضة الشعبية، هى المثال الديمقراطى الذى كان على كل بلدان الشرق الأوسط العمل به، خاصة بعدما ولد "العراق الديمقراطى" ميتًا ولم يفلح فى تحقيق الغرض لا بعنف العسكر ولا بحوار "الطُّرش" على أنغام "راديو سوا". ومع الأخبار الأولى عن انتحار الشاب الجامعى "البائع الجوال" والشهيد الأول، بو عزيزى - على طريقة انطلاقة أحداث براج بتشيكوسلوفاكيا عام 1968 توقعت أن أجد على موقع الويكيليكس معلومة تفيد لكشف خلفية ما يجرى هناك، وللتعرف على ما تنقله الدبلوماسية الأمريكية إلى واشنطن عن "تونس الخضراء". وعلى صفحات الويكيليكس وجدت بالفعل عددًا لا بأس به من البرقيات المعدة والمراجعة من طرف السيد السفير الأمريكى شخصيًا، كان من أهمها برقية بتاريخ 17/ 7/ 2009 (سربت بتاريخ 7/12/2010) تحت بند: "سرى وغير قابل للتداول"، وعنوانها: "يجب على تونس أن تكون حليفًا وثيقًا للولايات المتحدة، ولكنها ليست كذلك!"، ومن هذه البرقية وجدت ما عدّ بأنه أكثر تعبيرًا من بعض الحكام المؤبدين، عباقرة الفذلكة العربية، الذين مازالوا يرون فى بن على "رئيسًا شرعيًا"، وانضوت عبقريتهم "الشرعية" على أقصى درجات الفحش السياسى بتوجيههم النصح للتوانسة المغلوبين على أمرهم ولم يعد لهم إلا الشارع للتعبير عن أنفسهم، بأنه كان عليهم الصبر لثلاث سنوات أخرى ليحل عنهم المستبد الظالم من تلقاء نفسه حتى يوفروا ضحاياهم، فالحياة أفضل ... علمًا بأن الناصح يحمل اسمًا ثورجيًا بل ولونًا أخضرَ، كتونس الخضراء. لأعود مرة أخرة إلى "برقية تونس" المسربة على الويكيليكس والتى جاء فى ملخصها بقلم السيد السفير: "لدى تونس كثير من المشاكل، فالرئيس بن على يكبر فى السن، ونظامه متصلب، وليس هناك خليفة واضح له، كثير من التونسيين محبطون لندرة الحرية السياسية وغاضبون لفساد "العائلة الأولى" والبطالة المتفشية وعدم المساواة بين المناطق. وفى مواجهة هذه المشاكل لا تستمع الحكومة التونسية لأى نصيحة ولا للنقد سواء أتى من الداخل أو من الخارج، وبدلاً عن هذا تسعى لفرض رقابة أكبر، وغالبًا ما تستخدم الشرطة فى ذلك، ونتيجة لكل هذه الأمور فإن تونس فى متاعب وعلاقتنا بها أيضًا". وفى نهاية البرقية الطويلة كان تعليق السفير فى عبارة واحدة، تقول: "على التغيير فى تونس أن ينتظر حتى يرحل بن على". وبعد، فهل هناك أفصح من هذه السطور لبيان الحالة التونسية؟ لا أعتقد، فالدبلوماسى الأمريكى المحترف والمدرب بحرفية بالغة على جمع المعلومات قد أوجز فى سرده ليشمل كل دقائق الإحباط الشعبى التونسى، وهى معروفة لدينا جميعًا ومحصلتها لنا فى كلمة واحدة أن كل أنظمة الشقاء العربى المعاصرة "فاسدة"، ليكمل وضعنا فى الداخل وفى الغربة أيضًا بقية الرواية عن كل حاكم مزمن وأمراضه المصاحبة والمزمنة مثله، كتلك التى تصبح مع الزمن هى "العائلة الأولى" - لا عائلة قبلها ولا بعدها، وشعب يصبح حقيرًا بتوليه هو أولاً ثم عائلته الكريمة سدنة الحكم، ليزداد الشعب حقارة مع كل ساعة جديدة من ساعات الحكم الميمون، فالمزمن كما يبلغ الدبلوماسيين الناقلين عنه، لا بديل عنه ولا بديل له إلا مزمن مثله، وإذا كان هناك بديل فلابد وأن يكون شيطانا إسلاميا أو وطنيا قوميا حاقدا يكره الغرب، أو طوفاناً من التعصب ومعاداة السامية سيتربص بإسرائيل وسيعمل على إلقاء اليهود فى البحر، أو قد يكون مجنونا مخربا ومجرما من سلالة أعداء الحرية لادعائه بأن للشعب المعتوه شرف وكرامة وحقوق وواجبات، ليطلق عليه فى النهاية "المجنون بشرف الشعب". هذا الشعب الذى لا تفيد فى حالته الميئوس منها إلا العصا المصنوعة فى الغرب، خصيصًا للعصيان من العامة الذين لا تحق لهم المواكب ولكن الموت فى انتظار مرورها الكريم عطشًا أو جوعًا، ليفتتح المزمن بالوعة مجارى جديدة تلقى فى أنهارنا سمومها المسرطنة المباركة منه. كل هذا البؤس الداخلى والخارجى – يا سادتى الكرام، لأننا برأى الحاكم المؤبد لا نستحق الديمقراطية، وكل ذلك لأنه لا يؤمن بها كوجبة مستوردة تعدُّ له ثقيلة على المعدة الشرقية ولا تصلح للاستهلاك الشعبى، والبديل عنها كما تراها عبقريته يكون فى إغماض عين الغرب ولفترة قصيرة وعن رضى حتى يأتى القدر أو النصيب أو المكتوب أو الحظ بانقلاب نفوز به نحن بحصولنا منه على "المستبد العادل"، وما أكثرهم بيننا، كما تكتب السيدة سكوبى فى تقريرها ثم تعليقها من عاصمة الشرق وأم الدنيا إلى واشنطن لتنشره الويكيليكس. وبعد، فإذا كانت الدنيا قد ابتسمت طويلاً "للعائلة الأولى" و"شلل الفساد" - كما فى كل عصور الاستبداد، وكما عاصرنا الحال فى إيران تحت حكم الشاه الطاغية وفى حالة بن على، إلا أن الجماهير فى كلا البلدين لم تستطع بعفويتها وتلقائيتها فهم تلك العلاقة الطردية بين الفقر وثراء الصفوة الفاحش، بين الشقاء وأبدية السلطة، بين البؤس والوعد السنوى بالرفاهية، بين هروب الشباب من البلاد على زوارق الموت من جهة وإنشاء المدن الجديدة على مشارف العواصم العربية من جهة أخرى - إن لم يكن ذلك فى هذه الفترة الرئاسية-الملكية للحاكم المؤبد فعلى عهد ولى العهد أو حتى مع صعود نجم الحفيد الموعود. لم تفهم جماهير الثورة العفوية فى تونس ما حاكوه لها من خيوط أساطير كرة القدم ومسلسلات التليفزيون وبرامج السخافات اليومية والمكررة حتى الثمالة - ويضاف إليها فى عواصم أخرى ملقنى تبريرات الدين من فقهاء الاستوديهات وميكروفونات الفتنة بالادعاء بأنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان وما سيكون على يد ولى أمرنا العاقل أو المجنون ذى الصلاح والفلاح والتقوى ... الحنون، ليمر عليها إلينا السم فى العسل ترياقًا هنيئًا -كما يدعون. وحين خرجت الجماهير التونسية إلى الشارع لم يكن لديها وقت لأن تشاهد مباراة كرة ولا مسلسل اليوم ولا إعادته الخامسة، ولم يكن لديها وقت مثلنا لتشاهد ما يكرره فقيه التليفزيون عن الصحابى ورقة بن نوفل ولا عن أهمية حرف الواو العطفى الحنون بين جملتين حائرتين من جمله الكثيرة المعضدة بابتسامة ماكرة تنم عن نجاحه فى إلهائنا عن دنيانا ووعدنا بجنة تجرى من تحتها الأنهار ولكن بعد التحلى بصبر جميل، كما الصحابة والمتقين ... وكيف لعبارة "الصبر الجميل" أن تلعب دورًا فى تأليه المزمن وتأهيل ولى العهد الرئاسى- الملكى وترسيخ حقيقة "العائلة الأولى" والأخيرة فى سلسلة أصحاب العرش الجمهورى، وترسيخ الاستبداد والوقيعة بيننا وبين الشعوب الشقيقة وتبرير صداقة المستغل والمحتل والمتلصص علينا والسارق لعقولنا وأقواتنا، تحت بند الصديق لنصل يوميًا إلى ما نحن فيه من جمود فكرى ملتفين حول المزمن عن قناعة ما بعدها قناعة بأن كل شىء متوقف على هدف الفريق الأحمر ضد أخيه الأبيض، وأن لون قميص هذا الفريق الشقيق معادى للوطن وللدين وللفقيه التليفزيونى وللمؤبد، أما عبارة "عايز حقى" فتُجرم لأنها لم ترد فى مسلسل الأمس لتصبح كافرة وملحدة وعلمانية وشيوعية وشيعية أو من الموساد. لم يصدق الشعب التونسى فتاوى "الصبر الجميل" لما للمستبد الظالم من أيادى بيضاء فى توفير الحرية على جرعات والخبز والصابون على بطاقات أو بالطلب على محمول بشرط التحلى بأدب يمنع عنك أذى دنيوى، ويوفر لك ولى جنة خالدة، لأن كل ما كان يطلبه التوانسة - ونحن أيضًا - موجود بالفعل ولا لحاجة للتدليل على اهتمام "رب العائلة" الهارب بهم و"رب عائلتنا" العظيم بنا، فنظرة واحدة على البرنامج الانتخابى لكل منهما تكفى لرؤية كيف هو مفعم بالحب المؤبد والعمل المأجور والرزق الحلال والجهد الشاق والعزيمة الصارمة والإخلاص الصارخ له، وقبل كل شىء يبدأ برنامج سعادتهما عبارة لا تقبل القسمة على لا شىء، تقول: حبكم لى مثل حبكم للوطن "فرض" عليكم!. وقد يكون برنامج ولى الأمر هذا أو ذلك قد تكرر سماعه أو قراءته أو قد يتكرر أو سيتكرر وللمرة العاشرة أو بعضها... ولكن هذا كله فى نظر العارفين والمخلصين له لا يهم، نعم لا يهم، فما يهم حقيقة هو أن الحاكم الأب يريد لنا كل الخير وكل السلع وحتى النجوم برخص التراب، ولكنه لم يستطع الوصول لذلك خلال العشرات الماضية من السنين لسوء حظنا وتعاستنا المقدرة لنا بالمكتوب، حتى قبل أن نولد ونرى الحياة، حتى قبل أن يكون لنا جهاز للراديو أو تليفزيون أو كومبيوتر نرى منه كيف للإنسان فى مكان آخر كرامة وشرف لا تقل عن المسلوب من المسكين ولا يستطيع رده أو الحصول عليه حتى ببطاقة تموين، وفوق ذلك أرى من خلال نفس الأجهزة أن للإنسان فى مكان آخر عمل... رغم ثراء بلادنا ... ورغم أن العمل حق وواجب، بل وهو من أول أولويات أبينا الزعيم طبقًا للبرنامج الذى لم ننظر ولو لمرة واحدة فيه وبه، ولكنها الثقة بما كان قد وعد به. ولكن هل كان هذا الزعيم أو ذاك هو أول أو آخر من وعد؟ وكم وعد هذا الابن أو هذا الأب- هذا الزعيم أو هذا الأخُ؟ ألم يعد هذا بالتغيير، والآخر بمحو التزوير، وهدم الرشوة والتبرير، والمساواة بين المواطنين... حتى أصبحت القلة هى المتحكمة والعائلة أولى فى كل شىء، فلماذا لا يأخذون الصبر مفتاحًا لفرجهم ويعطوننا الدنيا ولو لأسبوع واحد نرده إليهم أعوامًا من الأمن والأمان! لكن اتضح فى النهاية أن هذا بالمستحيل فمن يأخذ لا يعطى ولو كان أعطى لكان أخذ، ومن هنا كان مطر الغضب الشعبى فى هذا الشتاء على عائلة تونس الأولى ممكنًا، فهى ليست المرة الأولى التى شاءت فيها الجماهير لا الحظ، لترد لتونس الخضراء لونها الجميل بعد شحوب طويل. إنه لون الحرية، الذى يحتاج كل مقهور ومقهورة إلى التمحك به ليعرف كيف يكون، إلى أن تفتح الشبابيك الموصودة، إن شئنا، لا ما شاءت الأقدار.