البعض يحتفل بالحياة.. والبعض الآخر يحتفل بالموت.. فتارة تودع أحباءك، وتارة أخرى أحباءك يودعونك.. فى مدينة بيت لحم.. مهد السيد المسيح بدأت كنيسة المهد احتفالاتها بعيد الميلاد المجيد بنثر زهور المحبة على أرواح شهداء كنيسة القديسين، وإذا كانت الجريمة البشعة التى نفذها قلة مارقة لا دين لها فى كنيسة القديسين بالإسكندرية بهدف إشاعة روح الفرقة والحقد بين أبناء الوطن الواحد، فقد أتت الرياح بما لا تشتهى السفن، فهذا الهدف تحقق نقيضه على الإطلاق، وبدلا من بث روح الفتنة والطائفية بين الإخوة والفرقاء، كان التعاضد ورباطة الجأش والوحدة، هم العنوان الرئيسى كرد واضح وصريح على ما حدث، وقد يحدث فيما بعد. فى فلسطينالمحتلة، رغم قسوة الظروف والمعاناة التى يعيشها أبناء هذا الوطن المكلوم، ومحاربة الاحتلال لهم فى دينهم ولقمة عيشهم ومصادرة آدميتهم، أم مئات المواطنين فى محافظة بيت لحم يوم الأربعاء الماضى بيت العزاء الذى أقامته المحافظة لضحايا الجريمة النكراء فى كنيسة القديسين، كجزء صغير لرد الجميل المصرى كما يشعرون به، فمصر بالنسبة لهم مازالت قلب العروبة النابض، وبالتالى فإن استهدافها يمثل استهدافا لكل العرب مسلميه ومسيحييه والفلسطينيين على وجه التحديد. ولأن مدينة بيت لحم مهد السيد المسيح، فقد مثلت، ومازالت تمثل، نموذجا للتآخى الإسلامى والمسيحى، وبالتالى فإن رسالة هذا البيت هى رسالة بأن العرب المسلمين والمسيحيين متآخين متعاضدين فى وجه التطرف والفتن. أكد هذا المعنى الوجود الكبير من مسلمين ومسيحيين فى قلب المدينة مهد السيد المسيح والذى يبرق رسالة لمصر وأبنائها بالتعبير عن التضامن والرفض لهذه الجريمة البشعة، فالشعب الفلسطينى يقف اليوم إلى جانب الشعب المصرى فى محنته، لأن مصر كانت عنوان الوحدة والدعم الفعلى للشعب الفلسطينى فى أصعب مراحل القضية، ومئات المواطنين لم يترددوا لحظة فى تأدية واجب العزاء معبرين عن رفضهم واستنكارهم لهذه الجريمة البعيدة كل البعد عن تعاليم الأديان المختلفة وعلى رأسها الدين الإسلامى. على مدار أسبوع وأنا أتابع ما يكتب من تعليقات وردود أفعال حول الحدث، متباينة ومتنوعة على اختلاف أطيافها، لكنها رغم شططها أحيانا وخروجها عن الكياسة فى بعض منها، غير أنها تؤكد أنها لا تعدو كونها تفريغ شحنة كامنة من الغضب والألم والثورة على ما حدث، ولا يخرج من هذا الإطار إلى محيط الانفجار الطائفى الذى أرادوه لها صانعو هذه الجريمة ومنفذوها سواء كانت إسرائيل أو تنظيم القاعدة أو أى جهات خارجية، لا يمتعها سوى إغراق المنطقة فى شلال من الدماء والدموع والفرقة. وإذا كان الأمر غير بعيد عن يد إسرائيل التى تسعى دائما لمثل هذه الأحداث عبر أدواتها الخبيثة، أو تنظيم القاعدة هو المسئول والمتورط فإن النتائج لن تختلف، ففى كلا الحالتين لم يتوصل كلاهما إلى أهدافه. ربما يكون من الخطأ التوقف عند تهديد القاعدة للكنائس المصرية فقط، لمجرد توجيه سهام الغضب والحقد ضد المسلمين، وترك الافتراض الذى يشير إلى ضلوع إسرائيل فى ظاهرة الاحتقان الطائفى فى مصر، خاصة وأن التحقيقات التى نشرتها الصحف فى قضية الجاسوس المصرى الذى جنده الموساد كشف عن محاولات قامت بها إسرائيل لزرع عملائها فى جماعات إسلامية واستخدامهم لاحقا فى أعمال طائفية فى مصر وبقية الدول العربية، فالتصريحات التى أدلى بها اللواء عاموس يادلين الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية "أمان" فى الثالث من نوفمبر الماضى ترجح صحة ما يتردد عن دور الموساد فى عملية التفجير، فخلال تسليم مهامه للجنرال افيف كوخافى قال يادلين: "إن مصر هى الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلية، وأن العمل فى مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979"، وقال لصحيفة كل العرب الالكترونية التى يصدرها عرب 48: "لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية فى أكثر من موقع، ونجحنا فى تصعيد التوتر والاحتقان الطائفى والاجتماعى لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة الى أكثر من شطر فى سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع فى الدولة المصرية، لكى يعجز أى نظام يأتى بعد حسنى مبارك من معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشى فى مصر". يادلين الذى كان أحد المرشحين لرئاسة الموساد قدم صورة تفصيلية لعمل الاستخبارات الحربية فى فترة رئاسته داخل أراضى عدد من الدول العربية مثل مصر والسودان وسوريا ولبنان، دعمها اعترافات المتهم الأول فى قضية جواسيس الموساد فى مصر طارق عبد الرازق حسين التى لم تذهب بعيدا عن تصريحات يادلين الذى أكد فيها أن الموساد الإسرائيلى سعى لضخ معلومات مغلوطة عن العقيدة الإسلامية على شبكة الإنترنت للعبث بعقول الشباب العربى عن طريق العبث بالتراث العقائدى للعرب والمسلمين، من أجل تضليل الشباب العربى وتشكيكه فى هويته مع تغيير الوقائع التاريخية بما يصب فى مصلحة إسرائيل. وأيا كانت الحقائق والأهداف الخفى منها والظاهر من وراء تفجير الكنيسة، فقد فشل فشلا ذريعا فى تحقيق هذه الأهداف، بل كشف عن المعدن النفيس لأمة يربطها وحدة الدم واللغة والحنين، مهما مر عليها من نوائب وآلام، فما حدث للمسيحيين اليوم، حدث للمسلمين بالأمس، وسيحدث لكليهما غدا إن لم يتنبهوا لما هو آت، فالهدف واضح ولا يخدم سوى إثارة الفتن وتفتيت وحدة الصف والمصير.