نظر فى وجوههم وسألهم: ماذا تقولون بعد هذا الذى كان؟، فأجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون، وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب، وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحب، فابتسم الأب وقال: لا بد من شىء من الفوضى كى يفيق الغافل من غفلته»، هكذا كان نجيب محفوظ يرى العالم فى أصداء السيرة الذاتية. نجيب محفوظ الذى ولد فى ديسمبر 1911 ورحل فى 30 أغسطس 2006، يقدم صورة التاريخ الاجتماعى للمصريين، ويكتشف قارئه أن بدايات القرن الماضى حملت نفس الصراعات والانقسامات والأسئلة، بما يؤكد أننا، وإنما نحصد نتاج التركيبة المعقدة، التى حاول نجيب محفوظ فى أكثر من نصف قرن تفكيكها وفهمها. فالثلاثية تقدم وصفا تفصيليا للثوار والانتهازيين والسياسيين والعشاق والظرفاء، والانتهازية القائمة على التسلط فى القاهرة الجديدة، نقد التنظيم السياسى فى ميرامار وثرثرة فوق النيل، والبحث عن العدل رغبة لدى «الحرافيش» مصحوبة باستسلام يجعلهم مفعولاً بهم وليسوا فاعلين فى سياق العالم السياسى. شخصيات نجيب محفوظ، يمكن أن نرى مثلهم فى الشوارع والحوارى والأزقة، من الضعفاء والانتهازيين. ومع آلاف تعاطفوا مع عاشور الناجى الفتوة الزاهد فى الحرافيش، هناك من آمنوا برسالة محجوب عبدالدايم، واعتبروها الطريق المضمون للكسب والعيش فى مجتمع منافق، محجوب متوافر فى البرلمانات والجامعات، والسياسة والاقتصاد والإعلام. فى رواياته عن قاهرة ما بين الحربين يرصد اغتيال الحريات ونشأة الفاشية وانتشار البطالة والبؤس والفقر، قاهرة الطبقة المتوسطة الصغيرة، الموظفون والطلبة، ويذهل من يكتشف أن نفس الصراعات والاختلافات والأسئلة كانت فى بدايات القرن العشرين ماتزال كما هى، وحتى حيرة الشخصيات الثورية وانتهازية بعضها، وعدمية البعض الآخر. ولم يتنازل نجيب محفوظ هذا الفيلسوف الحكيم الموظف المراوغ المتسامح، عن إيمانه بالحرية والعدل، حتى مع الذين حاولوا اغتياله، سعى أن يجد لهم تبريراً، عاش يحاول البحث عن أسباب لمأساتهم وغيرهم. كان محفوظ القادم من عالم الفلسفة نجح فى أن يحول الفلسفة إلى أفكار تناسب كل الدرجات العقلية، وقد تاريخاً اجتماعياً لمصر، وحتى الانقسام والتعدد داخل العقل المصرى مازال قائماً، مثلما كان فى النصف الأول من القرن العشرين، وأحفاد أحمد عبدالجواد هم اليسارى والإخوانى والليبرالى والباحث عن العلم والحقيقة والحائر بين كل هؤلاء.. معبرا عن تاريخ اجتماعى للمصريين أقرب للطبقات الجيولوجية التى تحتضن كل الثقافات التى وردت على المصريين، «فراعنة وأقباط وعرب وترك ومماليك، وشركس، وعشرات الغزاة الذين دخلوا واستوطنوا أو رحلوا». أديب عمومى وأدب صالح لكل الأوقات والأذواق، يمكن لكل تيار أو جماعة أن تجد لدى نجيب محفوظ ما تريده، السينما وجدت ما تريد لم يعترض نجيب محفوظ، اليسار اعتبره أديبا طليعيا، والليبراليون وجدوا فيه ممثلاً لمصر ما قبل الثورة، المتصوفة وجدوا لديها حساً صوفياً. لم يكن أديب الثورة لكنه نشر ما أراد واعتبره الناصريون مشاركا فى الحملة على الفترة الناصرية عندما صدرت الكرنك رصد حيرة الأجيال منذ كمال عبدالجواد فى الثلاثية وتحديدا فى السكرية الجزء الثالث، والانتهازية القائمة على التسلط فى القاهرة الجديدة، نقد التنظيم السياسى فى ميرامار وثرثرة فوق النيل، والأزمات الوجودية لأبطال الشحاذ والطريق ودنيا الله. رصد أزمات صعود وهبوط ومخاوف الطبقة الوسطى والتقط ميزات وعيوب الشعب فى «الحرافيش»، الذين كانوا يستسلمون دوما فى انتظار فتوة، وحتى عندما أنهى عاشور عصر الفتوات كانوا يبحثون عن الفتوة أو الزعيم، وبين الفتونة والعقيدة دارت «أولاد حارتنا» التى بلورها محفوظ فى الحرافيش. صراع الخير والشر فى «اللص والكلاب» طموح التغيير فى القاهرة 30. يقدم عالماً من الأشخاص الذين يمكن أن نرى مثلهم فى الشوارع والحوارى والأزقة فى السياسة والبرلمان والمصالح الحكومية، هو كاتب القاهرة الفاطمية والمملوكية والعثمانية والحديثة، وقدم سجلا اجتماعيا لأغلبية المصريين.