لم يرث سكان حارة اليهود "وسط القاهرة" عن أجدادهم بيوتا فقط، لكنهم ورثوا أيضا حكايات وقعت أحداثها خلف جدران هذه البيوت، أبطالها محمد وجرجس وشموئيل، الذين عاشوا سويا فى عمارات سكنية واحدة، وكان يغلق عليهم باب واحد. وبينما تعيش مصر حاليا حالة من الاحتقان الطائفى تتحول إلى أحداث ساخنة من حين لآخر، آخرها فى محافظة الإسكندرية، شمالا، حيث لقى مساء الجمعة الماضية شخص مصرعه وأصيب آخرون فى مشاجرة بين أسرتين مسلمة ومسيحية، يرى سكان الحارة فى ذلك أمرا غريبا على طبيعة الشخصية المصرية. محمد أحمد، الذى يدير صالونا للحلاقة فى مدخل الحارة، كان يشاهد نشرة إخبارية فى التليفزيون تذيع هذا الخبر، بينما كان يقوم بحلاقة شعر الأسطى جرجس صاحب إحدى ورش الخراطة بحارة اليهود. يقول أحمد لمراسل الأناضول: "لم نعرف فى هذه الحارة فرقا بين مسلم ومسيحى، لأننا تربينا على قيم وحكايات التسامح، حيث كانت الأديان الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) تعيش فى نفس المكان". وينقل محمد عن أبيه الحاج أحمد حكايات هذا التعايش، والذى يظهر جليا فى أن معظم من كانوا يمتهنون بيع الطعام والشراب فى الحارة هم اليهود. وقال: "كان المسلم يشترى طعامه من اليهودى دون خوف أو قلق". وأشار إلى بيت قديم مقابل لصالونه، مضيفا: "هنا كانت تعيش سمرة اللبانة (التى تبيع اللبن)، وهى يهودية الديانة". وعلى بعد خطوات من صالون الحلاقة، كانت العمارة رقم "3" وهى أشهر عمارات حارة اليهود، كونها العمارة التى قضى فيها الرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر سنوات من طفولته، ويتردد أيضا أن موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى، عاش فى نفس المنزل، وإن كانت هذه الرواية غير مؤكدة. محمد محجوب، الذى يقطن فى وحدة سكنية توجد بالطابق الأول من العمارة، حيث عاش عبد الناصر، يعتبر ذلك أحد الأسباب التى تدفعه للإحساس بالفخر والاعتزاز. وقال لمراسل الأناضول: "تخيل أنك تعيش فى منزل أقام فيه عبد الناصر، فهذا وحده يبعث على الفخر". سبب آخر يبعث على الفخر لدى محجوب هو أن العمارة التى يسكن فيها كانت "مجمعا للأديان"، بحسب وصفه. وأشار إلى باب العمارة الذى لا يزال يحمل رسمه "نجمة داوود" قائلا: "فى هذه العمارة عاشت الديانات الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية)، وكان يغلق عليهم هذا الباب". ويعتبر محجوب عدم قيام مالك العمارة بتغيير بابها عندما اشتراها من اليهودى شموئيل "خير دليل على التعايش السلمى بين الأديان". ولأن محجوب هو ابن البيئة التى شهدت هذا التعايش، فإنه يرى فى الأحداث الطائفية التى تشهدها مصر من حين لآخر أمرا غريبا على نسيج المجتمع المصرى. وأشار إلى شرفة المنزل المجاور لمنزلهم وقال: "هذا المنزل كانت تملكه أسرة مسيحية، كنا نهرب إليه من عقاب الأم، وكانت صاحبته تدفع عنا العقاب، وتقدم لنا الطعام". العمارة رقم 3 التى يقطن فيها محجوب تقع فى بداية شارع طويل تتفرع منه عدة حارات، منها "حارة الكنيسة"، التى توجد بها عدة ورش أغلب ملاكها من المسيحيين، ويقع فى نهايتها معبد لليهود. الحارة بها عدة شواهد تؤكد أيضا على التعايش السلمى بين الأديان، فالورش التى يملكها مسيحيون نسبة ليست بقليلة من العاملين بها مسلمين، كما يقول محمد خميس أحد سكان الحارة. "خميس" يشير إلى شاهد آخر على التعايش السلمى وهو العمارة رقم "4" التى لا تزال تحمل واجهتها بقايا "نجمة داوود". وقال: "لم يسع صاحب العمارة إلى إسقاطها، لكنها سقطت بفعل الزمن". اللافت للانتباه أن الواجهة كانت تحمل – أيضا – الهلال وهو رمز علم مصر فى فترة ما قبل ثورة يوليو 1952، فى إشارة إلى اعتزاز صاحبها اليهودى بمصريته. وعلى بعد أمتار من هذه الحارة كان يوجد معبد آخر لا توجد أى إشارة ذات دلاله تشير إلى هويته، فقط السكان المقيمون بالمكان يعرفون أن هذه البناية كانت معبدا يهوديا. والمفارقة أن هذه البناية وضعت عليها لافتة تشير إلى وجود مسجد فى نهاية الشارع الذى توجد فيه، وهو ما لا يستغربه سكان الحارة. وقال محمد فتحى: " يحكى أجدادنا عن وحدة أصحاب الديانات الثلاثة فى نفس المكان، فلا زلنا نعيش حتى الآن بهذه الروح". وفى نهاية الحارة يقع معبد موسى بن ميمون، أحد المعابد اليهودية، وفى المقابل للمعبد إحدى المدارس، التى يقول أحد العاملين بها أنها من أملاك الطائفة اليهودية بمصر، ولا تزال وزارة التربية والتعليم تدفع للطائفة اليهودية إيجارا لهذه المدرسة. ولا يوجد أى فاصل يربط بين المعبد ومنزل سيد حسن، الذى ورثه عن والده. ولا يشعر سيد بأى ضيق لالتصاق منزله بمعبد يهودى، وقال لمراسل الأناضول: "والدى اشترى هذا المنزل من يهودى، وكانت تربطنا علاقات ود ومحبة، لم نكن نعرف هوية المسلم من المسيحى واليهودى، إلا من خلال أسمائهم، فنحن أبناء هذه البيئة، وهو ما عاش معنا إلى الآن". وأضاف: "أغلب أصدقائى من المسيحيين، فنحن لا نعترف بالفوارق، فالعلاقة مع الله تخص المرء وحده، أما مصر فهى لنا جميعا". وتقع حارة اليهود، وسط القاهرة، وهى ليست حارة بالمعنى المتعارف عليه، لكنها حى متكامل، به شوارع رئيسية متقاطعة تتفرع منها عشرات الحارات الضيقة والمتشابهة، وكان يسكنها اليهود المصريون قديما وقبل أن يهجروها إلى دول العالم المختلفة. ويشكل المسيحيون نحو 10% من إجمالى عدد السكان الذى تجاوز ال90 مليون نسمة، بحسب تقديرات غير رسمية، فيما لا يتجاوز عدد اليهود العشرات، بعدما كان 80 ألفا عام 1922. وهاجر أغلب اليهود المصريين الذين كانوا جزءا من النخب التجارية والثقافية والسياسية فى الماضى إلى الخارج بعد قيام ثورة 1952 التى أطاحت بالنظام الملكى، واشتعال الصراع العربى الإسرائيلى، فيما شكل بعضهم جمعيات حقوقية فى المهجر تسعى للحفاظ على التراث اليهودى فى مصر.