أحمد إسماعيل تصوير- عماد عبد الهادى - هنا حارة اليهود.. هنا كانت تعيش فاطمة وماريكا وراشيل أصدقاء متحابين.. هنا عاشت عشرات الأسر من اليهود المصريين.. هنا حارة اليهود حيث الزحام الشديد .. ومئات من وجوه البشر التى لا تجد بينها يهوديًا واحدًا.. هنا حارة اليهود التى يعرفها جيدًا كبار السن وتسمع عنها الأجيال الجديدة.. حكايات وروايات معظمها من نسج الخيال نظرًا لدلالة اسمها.. هنا بجوار شارع الموسكى بالقاهرة، تقع حارة اليهود، وهى فى الحقيقة حى كامل فيه شوارع وحارات كثيرة متصلة ببعضها البعض، وتقع فى وسط القاهرة بين القاهرة الإسلامية والخديوية، وسكنها أعداد كبيرة من اليهود، اليوم تغيرت طبيعة الحياة فى هذه الحارة، ولم يعد بها يهودى واحد. فى حارة اليهود كان يوجد 13 معبدا يهوديا ، لم يتبق منها الآن سوى أربعة فقط أهمها معبد موسى بن ميمون ، ومعبد أبو حاييم كابوسى ، ومعبد دار يوحاى ، إلى جانب دار مناسبات قد تهدّم معظمها ، وكان أغلب سكانها من اليهود القرائيين واليهود الربانيين، الذين لم يتبق منهم أحد بها الآن. وحتى تصل إليها عليك أولا وأنت فى شارع الموسكى، أن تجتهد فى عبور زقاق طويل وضيق يمتلئ عن آخره بمئات المحلات التجارية. فرق شاسع ويحكى لنا الحاج عبد النبى – صائغ – يقيم فى هذه الحارة منذ عشرات السنين قائلاً: أحلى سنوات عمرى قضيتها مع اليهود ، فأنا عمرى 72 سنة، وعملت مع اليهود منذ عام 1947 وحتى عام 1962، أى لمدة 15 عاما. ويؤكد الحاج عبد النبى ضرورة التفرقة بين اليهود المصريين الذين عاشوا معنا.. وبين من نراهم الآن ، فهناك فرق شاسع بين الاثنين، فيهود مصر الشرقيون كانوا يعيشون بيننا كأسرة واحدة لا تستطيع أن تفرق بينهم وبين المصريين مسيحيين ومسلمين، فالكل كان واحدا، وكانوا يشعرون أن مصر وطنهم ، ففيها نشأوا وعاشوا باستثناء مجموعة صغيرة منهم كانوا أقلية يطلقون على أنفسهم “ الحماية الفرنسية “ وكانت لهم إجراءات معينه فحين يرتكبون خطأ أو جريمة كانوا يحاكمون فى فرنسا وليس فى مصر . ويكمل حديثه قائلا: إن يهود مصر كانوا كرماء لا يبخلون بشىء ولم يكن هناك اليهودى البخيل الذى صورته معظم الأفلام السينمائية ، بل على العكس كانوا يغدقون الأموال على من يعمل معهم طالما كانت هناك ثقة بينهم، وأتذكر عم «سعد الكيلاني» رحمه الله الذى كان موضع ثقة اليهود فى هذا المجال وكانوا يأتمنونه على دخول منازلهم . آخر يهودى وبنبرة حزن يضيف عبد النبى قائلا: آخر يهودى ترك الحارة كان الخواجة «زكى باروخ» صاحب محل الخردوات وقد بكى بشدة هو وأولاده لعدم رغبتهم فى ترك مصر ، كذلك فهناك العديد منهم يعودون بين الحين والآخر ليسترجعوا ذكرياتهم فى الحارة، ويشاهدوا منازلهم الآن والتى كانوا يعيشون فيها ومنهم الخواجة «جاك الشماس» الذى جاء أكثر من مرة وآخر مرة شاهدته كان منذ سبع سنوات ، فأغلبهم كان مرتبطا بمصر والحارة بشدة. تركنا الحاج عبد النبى وذهبنا لحارة الكنيسة لمشاهدة معبد «موسى بن ميمون» لنقابل الحاج محمد عويس محمد الشهير ب«ميدا» الذى يعيش بجوار المعبد، حيث تحدث إلينا قائلا: اليهود هم من أطلقوا على اسم ميدا عندما كنت صغيرا «فأنا بقالى 70 سنة عايش فى حارة اليهود»، وكان جيراننا من اليهود، إلا منزلنا الذى استأجره والدى وكان يعمل صول فى قسم الجمالية، فهذا المنزل كانت تسكنه أسرتان فقط من المسلمين، وكنا نعيش وجميع جيراننا فى سعادة ولا يربط بيننا سوى الحب والاحترام ، لكن لم يتبق منهم أحد الآن سوى السيدة “إستر" التى تعيش الآن فى دار للمسنين. ويتذكر الحاج محمد قائلا: كانت توجد بالحارة تكية أنشأها اليهود لفقرائهم ، لكنهم لم يمنعوا دخول فقراء المسلمين والمسيحيين، فهم كانوا كرماء جدًا، ففى المساء ينزلون الشارع ليجلسوا أمام منازلهم للتسامر وكانوا يجهزون المشروبات والأطعمة المختلفة ويحضرون الطرابيزات والكراسى وكنا نجلس معهم، ولم يكن هناك فرق بين المسلم واليهودى لدرجة أن الغريب عن المنطقة لا يعرف من منا مسلم أو يهودى أو مسيحى، وكان يوجد فتوات من اليهود مثل “سوسو أطاطى" وكان يملك بارا لكنه لم يعد موجودا الآن، وكان شديد الطيبة ولا يستعمل قوته إلا لنصرة المظلوم كما أنه اشترك فى أحد أفلام أنور وجدى.. أيضا تحدث إلينا عم مرسى زكى مرسى – حداد – من سكان الحارة قائلا: عندما أذكر اليهود فأنا أتذكرهم بكل خير ، فهم كانوا نعم الجيران، وكانوا يحبوننا بشدة وأذكر أن سيدة يهودية تدعى مارى كانت تحب الأطفال، حيث تجلس أمام منزلها وتضع فى حجرها قروشا كثيرة وكنا نحن أطفال الحارة نتسابق للحصول على القروش وسط ضحكاتها. ويضيف عم مرسى: كان والدى يعمل معهم فأغلبهم كانوا تجار كذلك كان مسئولا عن إنارة منازلهم خاصة يوم السبت حيث لا يقومون بأى عمل وهى عاداتهم، وأذكر سيدة يهودية اسمها بيبا، كانت تبيع ساندويتشات الفول والطعمية وأكلات أخرى كثيرة فمن حلاوة أكلها كنا نتسابق لحجز الأماكن عندها لتناول الطعام، وذلك لشدة الزحام خاصة فى شهر رمضان، أيضا أتذكر مارى اليهودية التى رفضت الخروج من مصر واضطرت لتغيير ديانتها للمسيحية وظلت بالحارة حتى ماتت وتولت القنصلية الإسرائيلية وقتها إجراءات الدفن وحزنّا عليها بشدة لأنها كانت طيبة جدًا. كذلك تحدث الحاج مهدى بهجت – صاحب محل سمك – ويقطن بجوار معبد “موسى بن ميمون" حيث قال: كان المعبد متهدما تماما ولم يتم ترميمه إلا منذ عامين، عندما قام فاروق حسنى بترشيح نفسه لليونسكو، حيث كتب أحد الصحفيين اليهود عن حالة المعابد اليهودية المتردية فى مصر، وهنا سارع فاروق حسنى وأصدر أوامره بترميم المعبد، وتم ذلك فى زمن قياسى لا يتعدى خمسة أشهر، ومن وقتها ونحن نعانى الأمرين بسبب زيارات الوفود الإسرائيلية للمعبد، التى تأتى معها قوات كبيرة من الشرطة لتأمينهم ونضطر يومها لغلق محلاتنا حتى تنتهى الزيارة، ولا نعرف لماذا كل هذه الإجراءات، خصوصا أن هناك العديد منهم يأتون وحدهم ويدخلون ويخرجون بأمان؟ فالناس هنا بسيطة وفى شدة الطيبة. ويضيف الحاج مهدى: أيضا كان يوجد العديد من المعابد الأخرى، منها ما هو على حاله، وقد تهدمت بعض أجزائه ومنها ما تم ترميمه ومنها من قام من رجال الأعمال بالاستيلاء عليه وهدمه وإقامة مصانع وشركات بدلا منه.