وزير الصحة: القطاع الخاص قادر على إدارة المنشآت الطبية بشكل أكثر كفاءة    مؤسسة «حياة كريمة» تطلق مبادرة «We Support» لدعم طلاب جامعة بني سويف    أستاذ قانون دولي: «الجنائية الدولية» لم تؤكد وجود إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني    ملف يلا كورة.. عملية ناجحة لمعلول.. إيقاف قيد جديد للزمالك.. وخليفة كلوب    شاب ينتحر شنقا في الفيوم لمروره بأزمة نفسية بسبب مشاكل أسرية    «القومي للمسرح والموسيقى» يكرم اسم عمار الشريعي 29 مايو    تعرف على شخصيات فيلم تاني تاني قبل انطلاقه في دور العرض (صور)    محافظ الإسماعيلية يتابع الخدمة الطبية المتكاملة المقدمة للمواطنين ضمن «حياة كريمة»    "عبد الغفار": 69 مليون مواطن تحت مظلة منظومة التأمين الصحي    لمرضى حساسية البطيخ.. أطعمة بديلة يمكن تناولها في درجات الحرارة المرتفعة    بشرى سارة.. وظائف خالية بهيئة مواني البحر الأحمر    أيمن بدرة يكتب: بطلوا تهريج    أزمة الطلاب المصريين في قرغيزستان.. وزيرة الهجرة توضح التطورات وآخر المستجدات    كم يوم باقي على عيد الاضحى؟ المعهد القومي للبحوث الفلكية يوضح    النائب محمد زين الدين: مشروع قانون المستريح الإلكترونى يغلظ العقوبة    التربية النوعية بطنطا تنظم ملتقى التوظيف الثالث للطلاب والخريجين    في أول أسبوع من طرحه.. فيلم الأصدقاء الخياليين - IF يتصدر إيرادات السينما العالمية    قصواء الخلالي: النظام الإيراني تحكمه ولاية الفقيه وفق منظومة سياسية صارمة    رياضة النواب تطالب بحل إشكالية عدم إشهار 22 ناديا شعبيا بالإسكندرية    المصريين الأحرار بالسويس يعقد اجتماعاً لمناقشة خطة العمل للمرحلة القادمة    أخبار الأهلي : أحمد الطيب عن لاعب الأهلي : هاتوه لو مش عاوزينه وهتتفرجوا عليه بنسخة زملكاوية    إسبانيا تستدعي السفير الأرجنتيني في مدريد بعد هجوم ميلي على حكومة سانشيز    الرياضية: جاتوزو يوافق على تدريب التعاون السعودي    جنوب أفريقيا ترحب بإعلان "الجنائية" طلب إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت    الأرصاد تحذر من الطقس غداً.. تعرف علي أعراض ضربة الشمس وطرق الوقاية منها    وزير الرى: اتخاذ إجراءات أحادية عند إدارة المياه المشتركة يؤدي للتوترات الإقليمية    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    أحمد الطاهري: مصرع الرئيس الإيراني هو الخبر الرئيسي خلال الساعات الماضية    ليفربول يعلن رسميًا تعيين آرني سلوت لخلافة يورجن كلوب    رئيس الوزراء يشهد افتتاح جامعة السويدى للتكنولوجيا "بوليتكنك مصر" بالعاشر من رمضان.. ويؤكد: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    انقسام كبير داخل برشلونة بسبب تشافي    تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة بختام تعاملات جلسة الإثنين    حجز شقق الإسكان المتميز.. ننشر أسماء الفائزين في قرعة وحدات العبور الجديدة    الشرطة الصينية: مقتل شخصين وإصابة 10 آخرين إثر حادث طعن بمدرسة جنوبى البلاد    الأوبرا تحتفل بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    "اليوم السابع" تحصد 7 جوائز فى مسابقة الصحافة المصرية بنقابة الصحفيين    إصابة 8 أشخاص بحادث تصادم ميكروباص وربع نقل بالطريق الزراعى فى أسوان    تحرير 174 محضرًا للمحال المخالفة لقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    خالد حنفي: علينا إطلاق طاقات إبداع الشباب والاهتمام بريادة الأعمال والابتكار    قائمة الأرجنتين المبدئية - عائد و5 وجوه جديدة في كوبا أمريكا    حكم شراء صك الأضحية بالتقسيط.. الإفتاء توضح    الصحة تضع ضوابط جديدة لصرف المستحقات المالية للأطباء    تراجع ناتج قطاع التشييد في إيطاليا خلال مارس الماضي    المالديف تدعو دول العالم للانضمام إلى قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل    إيتمار بن غفير يهدد نتنياهو: إما أن تختار طريقي أو طريق جانتس وجالانت    محافظ كفرالشيخ يعلن بدء العمل في إنشاء الحملة الميكانيكية الجديدة بدسوق    تأجيل محاكمة رجل أعمال لاتهامه بالشروع في قتل طليقته ونجله في التجمع الخامس    تأجيل محاكمة طبيب بتهمة تحويل عيادته إلى وكر لعمليات الإجهاض بالجيزة (صور)    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    أسرته أحيت الذكرى الثالثة.. ماذا قال سمير غانم عن الموت وسبب خلافه مع جورج؟(صور)    10 ملايين في 24 ساعة.. ضربة أمنية لتجار العملة الصعبة    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    محافظ قنا يتفقد مركز تدريب السلامة والصحة المهنية بمياه قنا    عواد: لا يوجد اتفاق حتى الآن على تمديد تعاقدي.. وألعب منذ يناير تحت ضغط كبير    ماذا نعرف عن وزير خارجية إيران بعد مصرعه على طائرة رئيسي؟    خلاف في المؤتمر الصحفي بعد تتويج الزمالك بالكونفدرالية بسبب أحمد مجدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذ وحكاية «أول حبسة»..ضباط أمن الدولة نفذوا أمر القبض عليَّ في الثانية صباحا وعمارة الإسكندرية تحولت ل"ثكنة عسكرية"..أبلغت الضابط أنني صاحب مصطلح "زوار الفجر"
نشر في فيتو يوم 15 - 03 - 2014

سائق سيارة ترحيلي من الإسكندرية للقاهرة كان سيقتلني.. وطرة يستقبلنا في السابعة صباحا
«القروانة» إناء مصنوع من الصاج عرفت من الشاويش أنه خاص بالطعام..
في نحو الساعة الثانية من صباح يوم 3 سبتمبر، كانت هناك طَرقات على باب شقتي في الإسكندرية حيث كنت هناك بعد عودتي من باريس، كان معي في الشقة ليلتها اثنان من أبنائي، وسمع أحدهما - ابني الثاني- طرقات الباب، فذهب ليجد اثنين من ضباط مباحث أمن الدولة يطلبان منه فتح الباب، ولما رجاهما الانتظار إلى الصباح كان قولهما: " إنهما يرجوان أن لا يضطرهما إلى كسر الباب"، وجاء لإيقاظي من النوم، فذهبت وفتحت باب الشقة لهما، ودعوتهما إلى الدخول، وقالا على الفور إنني مطلوب لمباحث أمن الدولة، ونظرت إلى ساعتي، وكانت الساعة الثانية والثلث صباحا، وذكرتهما بأنني أنا الذي صغت عبارة "زوار الفجر" في مقالاتي في الأهرام، وانتقدت بها بعض تجاوزات الأمن في وقت الرئيس عبد الناصر، فكيف يحدث هذا في عصر يدعي الديمقراطية أن يدق على بابي أحد في مثل هذه الساعة، وكان كلا الضابطين - والحق يقال- مهذبا في تصرفاته، قالا إنهما في أشد الأسف، ولكنهما مكلفان بأمر يتحتم تنفيذه، وسألتهما إذا كان غيابي سيطول، وبالتالي كان من المستحسن أن آخذ حقيبة بما أحتاج إليه من ملابس أو أدوية؟، وكان ردهما بأن لدى عشر دقائق أحزم فيها حقيبتي، وسألت ما إذا كان عليَّ أن أحزم حقيبة كبيرة لغياب طويل؟، وكان ردهما:" ليس أكثر من يوم أو يومين"، وسألتهما ما إذا كنا سنذهب إلى القاهرة، وإذا كان ذلك فهل نذهب في سيارتي؟، وكان ردهما بالنفي، ثم أضافا أن هناك ترتيبات لكل شيء وحزمت حقائبي، وشددت على يد ابني، ولم أشأ إيقاظ أصغر أبنائي حتى لا يتأثر بما يراه يحدث أمامه، وخرجت من باب الشقة دون أن أقبل ابني الذي كان في وداعي، لأني أردت أن يكون مشهد الوداع خاليا من أي انفعالات عاطفية يمكن أن تفسر على أنها مظهر ضعف.
وعندما خرجت من باب الشقة، راعني ما رأيت، فعلي الردهة خارج الباب كانت هناك ثلة من الجنود المسلحين بالمدافع الرشاشة، وكان هناك أحد الضباط يمسك بجهاز لاسلكي يبلغ فيه أولا بأول تفاصيل عملية الاعتقال.
والتفتّ فوجدت المصعد جاهزا في الدور السابع حيث شقتي، وفي داخله أحد الضباط مسلحا بمدفع أتوماتيكي، ثم اكتشفت أثناء هبوط المصعد أن كل أدوار العمارة التي أسكن فيها محتلة بالجنود، وكانت أصداء أجهزة اللاسلكي التي يحملها بعضهم تصدر أصواتا موحشة في ظلام الليل وسكونه، وعندما نزلنا إلى مدخل العمارة راعني مرة أخرى ما رأيت، فقد كان المدخل محتلا بقوة مسلحة كبيرة، وسمعت أحد الضباط يهمس بجهازه اللاسلكي بأن العملية رقم ( 9 ) قد نفذت، وتساءلت باسما: " إذن فأنا العملية رقم ( 9 ) ؟"، ولم أتلق جوابا، لكنه كان واضحا أن ذلك بالفعل هو رقم عملية القبض عليَّ.
المدخل نفسه محتل كموقع عسكري من باب المصعد إلى مدخل العمارة، وخرجت إلى الشارع، ومن العجيب أن المنظر الذي وجدته أمامي كان كئيبا أكثر منه مخيفا، بل لعله كان في جزء منه سخيفا كذلك فعندما يزيد حجم القوة أو العنف عن الهدف أو الغرض المطلوب منها تحقيقه، فإن الخلل في التوازن بين الوسائل والغايات يكشف إحساس القوة بعجزها، ويفضح إحساس العنف بضعفه.
كان الشارع الذي تقع فيه العمارة التي أسكن في الصيف إحدى شققها بالإسكندرية شارعا صغيرا يمتد متعامدا على طريق الكورنيش ويؤدي إليه، والآن فقد وجدت أن إحدى سيارات اللوري المحملة بجنود الأمن المركزي تقفل جانب الطريق المؤدي إلى الكورنيش، في حين أن سيارة أخرى كانت تقفل جانبه الآخر الذي يبدأ من شارع مواز لطريق الكورنيش، وكان منظر اللواري المسلحة وغيرها من سيارات الحملة البوليسية المكلفة باعتقالي صاخبا - أو هكذا بدا لي في ظلام الليل- خصوصا بالأضواء الملونة فوق سيارات حمراء وزرقاء، وكان بعض الأضواء ثابتا وبعضها الآخر لا يكف عن الدوران، وكانت المحركات كلها تهدر وأجهزة اللاسلكي مفتوحة، والإشارات حول تنفيذ العملية وتقدم مراحلها تروح وتجيء بين القيادة في مكان ما وبين القوة المتقدمة والمحيطة بي الآن.
وكان المشهد كله يكتسب مسحة من لون أصفر كثيف تبعث به مصابيح الشارع المدلاة من أعمدة عالية، وتضفي على الموقف كله جوا يكاد يكون سينمائيا، والتفتّ إلى الضابط الذي كان بجانبي وقلت له:" كأننا في مشهد من فيلم زد " ( مشيرا بذلك إلى الفيلم الشهير عن إرهاب حكم الكولونيلات بعد انقلابهم العسكري واستيلائهم على السلطة في اليونان)، ولم يظهر لي أن إشارتي إلى مشاهد ذلك الفيلم الشهير قد وجدت صدى لها، وهكذا مشيت صامتا إلى سيارة صغيرة دعاني الضابط إلى الركوب فيها معه كبادرة ود من جانبه، وبدأ الموكب المسلح كله يسري في ظلام الليل إلى طريق الكورنيش، والأضواء الحمراء والزرقاء تلمع أمامه ووراءه، وسألت الضابط " ما إذا كان هناك داع لهذه القوة كلها لتنفيذ اعتقالي؟"، ولم يقل شيئا، واستطردت:" في حالتي كانت تكفي إشارة تليفونية تطلب الحضور إلى مباحث أمن الدولة، وكنت بالتأكيد سوف ألبي حتى ولو جاءتني الإشارة وأنا في سفر عمل خارج مصر"، ومرة أخرى لم يقل شيئا.
ساد الصمت لبضع دقائق، والموكب يواصل اندفاعه، وسألته:" إلى أين نحن ذاهبون؟" وحينئذ كان لديه ما يقوله لأول مرة، وقال برقة شديدة:" انتظر وسوف تري بنفسك كل شيء حينما نصل إلى مركز قيادة العملية في الإسكندرية "، وحاول الضابط أن يفتح بابا للحديث فراح يتذكر كم كان يقرأ مقالاتي في الأهرام باهتمام، ثم سألني ما إذا كانت هذه أول مرة اعتقَل فيها؟، وكان ردي بالإيجاب، وكان تعليقه: "إن الظروف تتغير".
ووصل موكبنا أخيرا إلى مبنى ضخم عرفت فيما بعد أنه مقر مديرية الأمن في الإسكندرية، وكان المشهد الذي ينتظرنا هناك حافلا، كان هناك مئات من جنود البوليس يحيطون بعشرات من السيارات التي تحمل غيري من المعتقلين، وبدا لي أن مواكب بعد مواكب من سيارات المعتقلين تقوم من هناك محاطة بالحراسة اللازمة متجهة بأقصى سرعة إلى القاهرة، وكانت الصفارات الداوية والأضواء الملونة تفتح الطريق لكل موكب من هذه المواكب، ونزلت من السيارة محاطا بالحراسة، والتفتّ حولي فإذا خليط هائل من المعتقلين: شباب وشيوخ، مشايخ وقسس - كلهم الآن في نفس المصير. وحملقت في سيارة الأسرى التي كانت على وشك أن تتحرك محاطة بحراستها ولمحت وجها مألوفا داخلها هو الدكتور محمود القاضي، ولوحت له مشجعا، وقال الدكتور القاضي:" سوف نتقابل فيما بعد بالتأكيد "، وانطلق موكبه مع من كانوا معه من الأسرى وسألني الضابط الذي كان لا يزال بجانبي: "أظنك الآن عرفت ما هو الموضوع وأين نحن الآن؟"، ثم سألني ما إذا كان يستطيع أن يقدم لي أي خدمة، ورجوته، إذا كان ذلك في استطاعته، أن يتصل بابني تليفونيا ليبلغه أنني ذاهب إلى القاهرة، وقال إنه سيفعل ( بكل سرور )، وسألني عن رقم تليفوني وأعطيته له قائلا:" أظن أن مباحث أمن الدولة لابد تعرف رقم تليفوني"، وقال إنه سيتصل، ويبدو أنه لم يتمكن من ذلك.
بدأ إعداد القافلة التي تقرر أن أكون ضمنها في الرحلة إلى القاهرة، كان مركزها سيارة "بيجو" من سيارات البوليس المصفحة والعتيقة، ووجدت معي الأستاذ إبراهيم طلعت وهو نائب وفدي سابق وأديب وشاعر ممتاز، ثم الأستاذ عادل عيد وهو قاضٍ سابق وكان أحد النواب المستقلين البارزين، ووجدت أيضا أحد قادة الحركة العمالية المقتدرين، وكان أيضا نائبًا سابقا وهو الأستاذ أبو العز الحريري، وبدأ موكبنا يتقدم على الطريق الزراعي في اتجاه القاهرة.
وكانت الرحلة إلى القاهرة هي الشيء المخيف فعلا في هذه العملية كلها، فقد كان جندي البوليس المكلف بقيادة السيارة نصف نائم، ويبدو أن أقداح الشاي التي تناولها قبل بدء الرحلة لم تستطع أن تتغلب على تعب وسهر يوم طويل ومرهق، كانت السيارة تتأرجح تحت قيادته وتوشك في بعض الأحيان أن تصطدم بسيارة الحراسة أمامنا وبالموتسيكلات المحيطة بها من كل جانب، وسألت عما إذا كان يقود السيارة غيره، ولم يلتفت أحد لاقتراحي، وراح الموكب يندفع بأقصى سرعة على الطريق إلى القاهرة.
كانت السيارة محملة بأكثر من طاقتها العادية بالأسرى وبالضباط وبالجنود وبالمخبرين، ولم يكن هناك مفر من الاستسلام للأمر الواقع، ورحنا نتحدث فيما يجري غير عابئين بأن كل كلمة نقولها مسموعة من هؤلاء المحيطين بنا، وسألني الأستاذ إبراهيم عن تقديري للموقف، وكان ردي أن العملية كلها كما أراها من حولي تكشف حالة "انفلات أعصاب"، ورحنا نخمن فيما بيننا عن الوجهة التي يمكن أن يذهبوا بنا إليها، ولم نستطع أن نصل إلى ظن أكيد، وطلبنا فتح جهاز الراديو، علنا نسمع شيئا يلقي ضوءا على مصيرنا، وفتحوا لنا الراديو فعلا، ولكن على محطة القرآن الكريم، التي كانت على وشك أن تفرغ من إذاعة صلاة الفجر.
وصلنا القاهرة نحو الساعة السابعة، وسألنا ما إذا كان باستطاعتنا أن نشتري بعض الصحف، ورفض طلبنا، وتنبأ الأستاذ إبراهيم طلعت أننا ذاهبون إلى نيابة أمن الدولة، لكن موكبنا تجاوز الطريق المؤدي إليها، ومرة أخرى تنبأ الأستاذ إبراهيم طلعت بأننا قد نكون في الطريق إلى سجن القلعة، لكننا مرة أخرى تجاوزنا الطريق المؤدي إليها، وحين دخلنا غلي كورنيش المعادي فقد بدا واضحا أننا في الطريق إلى منطقة سجون طرة.
في صالة استقبال السجن صودر كل ما كان معي ومع غيري من الكتب والأوراق والأقلام، بل من الأدوية والمحافظ والنقود، وحتى الملابس، سمح لكل منا بغيار داخلي واحد وبمنشفة وبفرشة أسنان دون معجون لأن معجون الأسنان كان يجب أن يوافق على دخوله معنا أطباء السجن باعتباره نوعا من الأدوية في تقديرهم، وقد قيل لنا على أي حال أن أطباء السجن سوف يقرون في اليوم التالي ما يلزم أي واحد منا من الأدوية، بما فيها معجون الأسنان.
التفت حولي ونحن ما زلنا في صالة استقبال السجن المحاطة من كل ناحية بالقضبان الحديدية، فإذا مصر كلها تقريبا هناك: شخصيات بارزة في الحياة العامة المصرية، وساسة مشاهير، واقتصاديون، وكتاب ومثقفون كبار.. قيادات ورموز لكل التيارات السياسية والفكرية في الحياة المصرية كلها وفي شتي مجالاتها، وكان هناك أيضا رجال دين إسلامي، أما رجال الدين المسيحي الذين رأيتهم في مديرية أمن الإسكندرية، فلم يكونوا معنا.
اقتادني بعض الحراس إلى الزنزانة رقم ( 14 ) وكنت وحدي فيها، وتلتفت حولي أستكشف أحوالها " زنزانة صغيرة عليها باب من الحديد في أعلاه قضبان تصل منها أصوات الضجة الجارية في السجن.. صليل قضبان حديدية وصيحات مساجين ووقع أقدام حراس وقعقعة سلاح.. وكانت هناك عشر مراتب من المطاط ملقاة داخلها وعشر بطاطين تفوح منها رائحة ال" د. د. ت."، وكانت هناك حفرة كبيرة في ركن من الزنزانة تمثل دورة الحمام، وفي ركن آخر كانت هناك مجموعة من الأواني المصنوعة من الصاج، وتمددت على إحدي المراتب أفكر في كل ما جري، وأحاول تمثل معانيه وأبعاده.
مضت ساعة أو أكثر قليلا، وسمعت صليل الباب الحديدي ومفتاحا يدور فيه، ثم انفتح الباب عن جاويش يتبعه اثنان من الجنود، أحدهما يحمل صفيحة علاها الصدأ، وآخر يحمل صفيحة أخرى ملأى بأرغفة الخبز، وتغطي الإثنين سحابة من الذباب، وسألني الجاويش بحزم: " أين قروانتك؟" وقلت له: "ليس عندي قروانة". وأشار بيده إلى كومة الأواني المصنوعة من الصاج وقال لي:" هذه هي القروانات، ولك واحدة فيها". وسألته عما يريده بالضبط، وكان رده:" أريد أن أعطيك طعام اليوم ". واعتذرت له شاكرا، ومع أني كنت قد بدأت أشعر بالجوع، فقد كان منظر المعروض عليَّ من الطعام كافيا لصد أي شهية، وقال الجاويش إنني إذا رفضت استلام طعامي فسوف يخطر ضابط السجن بامتناعي، وقلت له أنت حر في إخطار مَن تشاء.
بعد دقائق جاء أحد ضباط السجن يسألني: "لماذا لم تتسلم طعامك وليس هناك غيره طوال اليوم؟" وأضاف متلطفا:" إنني أعلم أن هذه أول مرة لك في السجن، ولكنك سوف تتعود ". وقفزت إلى موضوع آخر، فقد سألته: ما إذا كان سجني سيكون انفراديا لأني ما زلت وحدي في الزنزانة؟"، وكان رده بالنفي، وزاد تلطفه معي حين قال:" الحقيقة أننا كنا نريد أن نجد لك رفاقا يناسبونك ". وسألته:" أين الذين جاءوا معي من الإسكندرية؟" وقال:" إن معظمهم في الزنزانة رقم 13 ولكنها امتلأت عن آخرها "!، وأضاف أنه سيحاول أن يجد لي رفاقا يناسبونني.
المصادر:
محمد حسنين هيكل " خريف الغضب"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.