طرق زوار الفجر باب شقتي بمنطقة حلوان جنوبالقاهرة في ليلة ليلاء من عام 2005، ولم يصمد الباب أمامهم طويلا فأشفقت عليه وفتحت وأنا أعلم تماما من الطارق. دخلوا مباشرة مشهرين أسلحتهم، على رأسهم ضابط أمن الدولة المدعو "عمرو حمزة" وأمين الشرطة "فاروق شمس" يساندهم عدد كبير من القوات الخاصة التي ترتدي السواد، وتكاد عضلاتهم تخبرك عما يمكن أن يفعلوه بك. أصيبت زوجتي بالهلع عندما وجدت العشرات في كل مكان من الشقة، حتى في غرفة النوم، وكان ذلك قبل ولاده ابنتي مريم ب 10 أيام. بادرني صاحب الاسم الوهمي "عمرو حمزة" بالسؤال: أين المتفجرات؟ اندهشت وقلت: إيه فقال: المتفجرات يا ابن ال (...) قلت: أنا مش عارف حضرتك بتتكلم عن إيه، قال: المتفجرات المخفية في مصحف الشيخ عبد الباسط، فقلت له دا حضرتك مصحف الشيخ عبد الباسط دور فيه براحتك، فقال انت هتصيع عليا يا (...) عموما احنا هناخد كل حاجة وندور مع بعض هناك براحتنا. بعد ذلك طلب (ملاية سرير) وأخذ يختار كتبا وأشرطة واسطوانات كمبيوتر وهارد ديسك من المكتبة ويضعها في الملاءة، ثم حضر ثلاثة ليحملوها إلى الأسفل. وفي تلك الأثناء أشار إلى أمين الشرطة بإشارة فطلب مني جميع الهواتف المحمولة الموجودة بالمنزل، ثم أخذ يقطع أسلاك التلفون الأرضي. أردت أن أدخل الحمام فأرسل معي أمين شرطة واثنين من القوات الخاصة وقفوا جميعا عند رأسي، فقلت لهم لن أستطيع فعل شيء فقالو: إذا كان عاجبك، كل هذا وزوجتي تراقب وتدعو أن يصرف الله هذا الكابوس المرعب. وبعد قرابة ساعتين من التفتيش والأسئلة أمر بعصب عيني وقيد يدي من خلف ظهري، وانطلقنا مع أذان الفجر تحت وقع التهديد المباشر: أي حركة يمين أو شمال هضرب في المليان وملكش ديّة. وفي عربة الترحيلات اكتشفت أن عددا من الأصدقاء مكدسون بالداخل وقد أعياهم الانتظار وتخدرت أجسادهم من (الكلابشات الخلفية)، لكن صديقًا آخر "المهندس ه" كان مطلوبًا هو الآخر، وبقدر الله كان عنده ضيوف في تلك الليلة؛ فحل الجميع (الزائر والمزور) ضيوفا على فرع أمن الدولة، ولم يكفوا طوال الرحلة عن سؤال: هوا احنا هنا بنعمل إيه؟. حظ أمه حلو بعد انطلاق الموكب من أمام منزل صديقي المهندس لمح الضابط شخصًا يسير باتجاه مسجد ليصلي الفجر فالتفت إلى أمين الشرطة وسأله: احنا معانا مكان للواد ده، فرد بأن السيارات كلها ممتلئة فقال الضابط: حظ أمه حلو. وكان العم لاظوغلي وقتها يعج بالنزلاء، ولم هناك موضع لقدم؛ فذهبوا بنا إلى سجن ألماظة العسكري، وهناك ضاقت بنا الزنازين وقد بلغت أعدادنا نحو 30 معتقلا موزعين على زنزانتين بلا حمامات. وكنا نتبول في زجاجات مياه الشرب، أما الغائط فكان بعضنا يقضي حاجته في كيس، بعد أن يقوم الآخرون بستره بالبطانية حتى يفرغ من حاجته، أما الحمام فكان مرة في نهاية اليوم، وأحيانا كنا نساوم الحارس بالمال حتى يفتح لنا الزنزانة ويسمح لنا بدخول الحمام. ومن الطرائف أن أحد إخواننا كان يدخر بوله وغائطه حتى يأتي موعد نوبة التعذيب، فإذا ما حمي وطيس التعذيب وأطلق الضابط صيحة السر (قلعووووه) وجلس صاحبنا على كرسي الكهرباء أطلق العنان لإمكانياته المكبوته ليغرق المكان في فوضى عارمة؛ حتى كره الضباط التحقيق معه، فكانوا يسألونه في الزنزانة بلا تعذيب. نوبات التعذيب كانت أولى فترات التحقيق تبدأ بعد الظهر حتى قبيل المغرب، والثانية تبدأ بعد العشاء وحتى الفجر، وكان المتواجدون في الزنازين يبتهلون إلى الله كلما سمعوا صوت الصراخ من الأخ الواقع تحت التعذيب حتى يخفف الله عنه. بمجرد خروج المعتقل من باب الزنزانة يتم عصب عينيه وكلبشة اليدين من خلف الظهر، وإن لم يكن لدية (غماية) أمره أمين الشرطة بخلع (الفانلة) الداخلية ليتغمى بها. وبمجرد الدخول إلى مكتب التحقيق في المرة الأولى يقوم الضابط بإلقاء خطبة عصماء عن الدولة والتهديدات التي تواجهها والجماعات المتطرفة والإرهاب، ثم يبدأ في سرد الأسئلة حول مكونات التنظيم، وأفراده، وقيادته، وقائمة الانتظار التي يراد دعوتها لتتبنى أفكار التنظيم. ويحرص المحقق على أن يسير التحقيق في مسار محدد مسبقا، وهو: {وجود تنظيم وفكر وأشخاص وأعضاء} وبما أنه ليس بالضرورة أن تكون كل مجموعة من الأصدقاء مندرجين في إطار تنظيمي فقد حدثت في مصر قبل الثورة مهازل يندى لها الجبين. ومنها على سبيل المثال لا الحصر (تنظيم حاول ردم قناة السويس، وحاول تصنيع طائرة مروحية لقتال الكيان الصهيوني) وكان أعضاؤه من مدينة نصر ومن طلاب كليات الطب والهندسة. بدء رحلة التعذيب تبدأ الرحلة البائسة مع التعذيب عندما يأبى الشخص المعتقل أن يساير خيال الضابط المحقق، الذي يتوهم وجود تنظيم كامل، يبدأ الأكر بصراخ الضابط وإطلاقه سيلا من الشتائم، ثم يأمر أمناء الشرطة (قلعوووووه) وقبل أن يصل إلى حرف الهاء من الكلمة بين القوسين يعود الأخ من هدومه كيوم ولدته أمه، باستثناء العينين فهي (العورة الوحيدة) عند أمن الدولة. بعدها يبدأ الجميع بالركل والضرب والصفع، وكلهم يريدون التفاني والمجاملة للضابط على حساب ذلك المسكين الذي سقط في أيديهم كأيتام على مائدة اللئام. ولا يعرف ذلك المعذب من أين يأتيه الضرب، لكنه يأتيه على أي حال بغض النظر عن الجهة أو الكيفية؛ فعيناه معصوبتان ويداه مُكلبشتان خلف ظهره، والشتائم بأقذع الألفاظ وأنتنها. وإذا استغاث الأخ بالله أو بشئ من الدعاء، ينصحه الضابط بالإخلاص في الدعاء فيقول: "إخلص علشان ربنا ينجيك، الصدق منجاه، هوا فيه أخ بيكذب، تعرف ياااد، لو كنت أنت برئ، مستحيل ربنا يوقعك في إيدين ناس زيينا" هذه المواعظ الشيطانية سمعتها بإذني تقال لأحد المعذبين، فما رد باكيا: بس أنا فعلا ما أعرفش حاجة أمر الضابط أمين الشرطة بفرك خصيتي المسكين، حتى كاد صراخه يشق عنان السماء، وما كان منه إلا أن قال: خلاص يا باشا هقول هقول على كل حاجة. في تلك الحال يضطر المعتقل إلى فبركة قصة خيالية عن التنظيم وأفكاره والعمليات التي قام بها، حتى اضطر المعتقل "غريب السويسي" إلى الاعتراف بأنه هو الذي قتل أنور السادات، مع أنه من مواليد 1982. الكهرباء تبدأ مرحلة التعذيب بالكهرباء بعد أن يرفض المعتقل تأليف قصة تقنع الضابط وأسياده حول تهديد الأمن العام أو قلب نظام الحكم، حيث يطرح المعتقل أرضا، عاريا تماما، ويربط إلى ما يشبه الأوتاد في الأرض بعدها يجلس الضابط على كرسي خشبي فوق المعتقل، حتى تكون قدماه ملاصقتان لأذني المعذب ومن خلفه يقوم أمين الشرطة بلف السلك الكهربائي حول العضو الذكري، ثم يعطي مفتاح الكهرباء للضابط ليفعل به ما يريد. وضع الشواية هو عبارة عن تعليق المعتقل من الذراعين والقدمين على ماسورة حديدية بين كرسيين أو منضدتين كما هو موضح في الصورة، وقد تسبب هذا الوضع للمعتقل الإسلامي "زكي سيد" بخلل في العمود الفقري حتى أنه كان لا يستقيم أثناء المشي، ولا يقوى على حمل أي شيئ. صور التعذيب النفسي والبدني انقطاع العلاقة بالعالم الخارجي تماما إجبار المعتقل على التسمّي بأسماء النساء السب بالأم والأب والتهديد بالاعتداء الجنسي الأثار الفكرية للتعذيب بعد انتهاء نوبة التعذيب تتناوش الأفكار ذهن المعتقل، ويسأل نفسه: هل هؤلاء مسلمون؟ وهل المجتمع الذي سكت عن هذا التعذيب مسلم؟ وهكذا نبتت بذرة جماعة التكفير والهجرة. وهذه الأسئلة هي التي دارت في ذهن شكري مصطفى بعد أن سحله الضباط في أرضية السجن حتى ظهرت عظامه؛ فقام بإطلاق أحكام التكفير بحق ضباط الأمن السياسي، ثم بحق أفراد المجتمع، وانتشر فكر التكفير.