سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الذكرى العشرون لوفاة صاحب موسوعة شخصية مصر.. جمال حمدان تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتى.. وأثبت أن صهاينة إسرائيل ليسوا يهود فلسطين القدماء.. ووفاته جريمة قتل غامضة
تمر اليوم الذكرى العشرون لوفاة صاحب "شخصية مصر"؛ الدكتور الموسوعى جمال حمدان، الذى ولد فى قرية "ناى" بمحافظة القليوبية فى 4 فبراير 1928، وتوفى فى 17 أبريل 1993، وهو أحد أعلام الجغرافيا المصريين، اسمه بالكامل: جمال محمود صالح حمدان. ما كتبه جمال حمدان نال قدرًا كبيرًا من الاهتمام بعد وفاته، وكان أبرز ما فى فكر حمدان هو قدرته على التفكير الاستراتيجى، ولم تكن الجغرافيا لديه إلا رؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافى وبشرى وحضارى، ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، ولم يتوقف عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى لوضعها فى سياق أشمل ذى بعد مستقبلى، وما عانى منه جمال حمدان عانى منه كبار المفكرين الاستراتيجيين فى العالم؛ من عدم قدرة المجتمع المحيط بهم على استيعاب ما ينتجونه من رؤية سابقة لعصرها بسنوات، ليصبح عنصر الزمن الفيصل للحكم على مدى عبقرية هؤلاء الاستراتيجيين. وكان جمال حمدان يمتلك قدرة ثاقبة على استشراف المستقبل متسلحًا فى ذلك بفهم عميق لحقائق التاريخ، ووعى متميز بوقائع الحاضر، وقدم فى ذلك نماذج عديدة؛ ففى عقد الستينات، وبينما كان الاتحاد السوفيتى فى أوج مجده، أدرك جمال حمدان برؤيته الثاقبة أن تفكك الكتلة الشرقية واقع لا محالة، وكان ذلك فى 1968، وما تنبأ به تحقق بعد 21 عامًا؛ ففى عام 1989 وقع الزلزال الذى هز أركان أوربا الشرقية، وانتهى الأمر بانهيار أحجار الكتلة الشرقية، وتباعد دولها الأوربية عن الاتحاد السوفيتى، ثم تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتى نفسه عام 1991. كما كان لجمال حمدان السبق فى فضح أكذوبة اليهود الحاليين الذين يدّعون أنهم أحفاد بنى إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، ليثبت فى كتابه "اليهود أنثروبولوجيا" الصادر عام 1967، بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين الذين يدّعون أنهم ينتمون إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين، وإنما ينتمى هؤلاء لإمبراطورية "الخزر التترية" التى قامت بين "بحر قزوين" و"البحر الأسود"، واعتنقت اليهودية فى القرن الثامن الميلادى، وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات "آرثر كويستلر" مؤلف كتاب "القبيلة الثالثة عشرة" الذى صدر عام 1976. ويعد جمال حمدان واحدًا من مجموعة قليلة للغاية من المثقفين المسلمين الذين نجحوا فى حل المعادلة الصعبة المتمثلة فى توظيف أبحاثهم ودراساتهم لخدمة قضايا الأمة، وخاض من خلال رؤية استراتيجية واضحة المعالم معركة شرسة لتفنيد الأسس الواهية التى قام عليها المشروع الصهيونى فى فلسطين. وكان حمدان سباقًا فى هدم المقولات الأنثروبولوجية التى تعد أهم أسس المشروع الصهيونى، وأثبت أن إسرائيل - كدولة - ظاهرة استعمارية صرفة، قامت على اغتصاب غزاة أجانب لأرض لا علاقة لهم بها دينيًّا أو تاريخيًّا أو جنسيًّا، وأن هناك "يهود" فى التاريخ، قدامى ومحدثين، ليس بينهم أى صلة أنثروبولوجية، ذلك أن يهود "فلسطين التوراة" تعرضوا بعد الخروج لظاهرتين أساسيتين طوال 20 قرنًا من الشتات فى المهجر: خروج أعداد ضخمة منهم بالتحول إلى غير اليهودية، ودخول أفواج لا تقل ضخامة فى اليهودية من كل أجناس المهجر. وأدرك حمدان مبكرًا من خلال تحليل متعمق للظروف التى أحاطت بقيام المشروع الصهيونى أن "الأمن" يمثل المشكلة المحورية لهذا الكيان اللقيط، واعتبر أن وجود إسرائيل رهن بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، وأنها قامت ولن تبقى -وهذا تدركه جيدًا- إلا بالدم والحديد والنار. ولذا فهى دولة عسكرية فى صميم تنظيمها وحياتها، ولذا أصبح جيشها هو سكانها وسكانها هم جيشها. حدد جمال حمدان الوظيفة التى من أجلها أوجد الاستعمار العالمى هذا الكيان اللقيط، بالاشتراك مع الصهيونية العالمية، وهى أن تصبح قاعدة متكاملة آمنة عسكريًّا، ورأس جسر ثابت استراتيجيًّا، ووكيل عام اقتصاديًّا، أو عميل خاص احتكاريًّا، وهى فى كل أولئك تمثل فاصلًا أرضيًّا يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها. وتجلت بصيرة جمال حمدان الثاقبة فى كتاب "جمال حمدان.. صفحات من أوراقه الخاصة"، فهناك حالة نادرة من نفاذ البصيرة والقدرة الاستراتيجية على قراءة المستقبل؛ ففى الوقت الذى رأى البعض فى قرار قمة بروكسيل (2003) تشكيل قوة عسكرية أوربية منفصلة عن حلف الأطلسى بداية لانهيار التحالف التاريخى بين الولاياتالمتحدة وأوربا الغربية، نجد أن جمال حمدان قد تنبأ بهذا الانفصال منذ نحو 15 عامًا. وكان لجمال حمدان رؤيته لاستشراف المستقبل بإدراكه الاستراتيجى، وهذه القدرة على استشراف المستقبل تبدو واضحة أيضًا فى توقع جمال حمدان لسعى الغرب لخلق صراع مزعوم بين الحضارات من أجل حشد أكبر عدد من الحلفاء ضد العالم الإسلامى، ليؤكد أنه "بعد سقوط الشيوعية وزوال الاتحاد السوفيتى، أصبح العالم الإسلامى هو المرشح الجديد كعدو الغرب الجديد، والجديد هو أن الغرب سوف يستدرج خلفاء الإلحاد والشيوعية إلى صفه ليكوّن جبهة مشتركة ضد العالم الإسلامى والإسلام، باعتبارهم العدو المشترك للاثنين، بل لن يجد الغرب مشقة فى هذا، ولن يحتاج الأمر إلى استدراج:، وسيأتى الشرق الشيوعى القديم ليلقى بنفسه فى معسكر الغرب الموحد ضد الإسلام والعالم الإسلامى"، وهو ما تحقق بالفعل، حيث وضع صموئيل هنتنجتون فى كتابه "صدام الحضارات" الخطوط الفكرية العريضة لهذا الحلف. من الرؤى المستقبلية التى طرحها جمال حمدان النبوءة الخاصة بانهيار الولاياتالمتحدة، فكتب حمدان فى بداية التسعينيات يقول: "أصبح من الواضح تمامًا أن العالم كله وأمريكا يتبادلان الحقد والكراهية علنًا، والعالم الذى لا يخفى كرهه لها ينتظر بفارغ الصبر لحظة الشماتة العظمى فيها حين تسقط وتتدحرج، وعندئذ ستتصرف أمريكا ضد العالم كالحيوان الكاسر الجريح". ليقول حمدان: "لقد صار بين أمريكا والعالم "تار بايت"؛ أمريكا الآن فى حالة "سعار قوة"؛ سعار سياسى مجنون، شبه جنون القوة، وجنون العظمة، وقد تسجل مزيدًا من الانتصارات العسكرية فى مناطق مختلفة من العالم عبر السنوات القادمة، ولكن هذا السعار سيكون مقتلها فى النهاية"، ليؤكد حمدان أن "الولاياتالمتحدة تصارع الآن للبقاء على القمة، ولكن الانحدار لأقدامها سارٍ وصارمٍ، والانكشاف العام تم، الانزلاق النهائى قريب جدًّا فى انتظار أى ضربة من المنافسين الجدد، أوربا، ألمانيا، اليابان"، وتوقع "أن ما كان يقال عن ألمانياواليابان استراتيجيًّا سيقال عن أمريكا قريبًا، ولكن بالمعكوس، فألمانياواليابان عملاق اقتصادى وقزم سياسى - كما قيل - بينما تتحول أمريكا تدريجيًّا إلى عملاق سياسى وقزم اقتصادى"، وتلك الرؤية تبدو فى طريقها إلى التحقق. جمال حمدان صاحب الرؤية الاستشرافية الثاقبة عانى من تجاهل ونسيان لأكثر من ثلاثين عامًا قضاها منزويًا فى شقته الضيقة، ينقب ويحلل ويعيد تركيب الوقائع والبديهيات، وعندما مات بشكل مأساوى خرج من يتحدث عن قدرة خارقة لحمدان على التفرغ للبحث والتأليف بعيدًا عن مغريات الحياة، كما لو كان هذا الانزواء قرارًا اختياريًّا وليس عزلة فرضت عليه لمواقفه الوطنية الصلبة، وعدم قدرة المؤسسات الفكرية والمثقفين العرب على التعاطى مع أفكاره التى كانت سابقة لزمانها بسنوات. وكانت وفاة جمال حمدان مأساة؛ فقد عثر على جثته والنصف الأسفل منها محروق، واعتقد الجميع أن الدكتور حمدان مات متأثرًا بالحروق، ولكن الدكتور يوسف الجندى؛ مفتش الصحة بالجيزة، أثبت فى تقريره أن الفقيد لم يمت مختنقًا بالغاز، كما أن الحروق ليست سببًا فى وفاته؛ لأنها لم تصل لدرجة إحداث الوفاة، واكتشف المقربون من حمدان اختفاء مسودات بعض الكتب التى كان بصدد الانتهاء من تأليفها، وعلى رأسها كتابه عن اليهودية والصهيونية، مع العلم أن النار التى اندلعت فى الشقة لم تصل لكتبه وأوراقه، مما يعنى اختفاء هذه المسودات بفعل فاعل، وحتى هذه اللحظة لم يعلم أحد سبب الوفاة، ولا أين اختفت مسودات الكتب التى كانت تتحدث عن اليهود. لتأتى مفاجأة رئيس المخابرات السابق أمين هويدى حول الكيفية التى مات بها جمال حمدان، مؤكدًا أن لديه ما يثبت أن الموساد الإسرائيلى هو الذى قتل حمدان. ترك جمال حمدان 29 كتابًا، و79 بحثًا ومقالة، أشهرها موسوعة "شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان"، ومات ولم يتزوج.