في صمت، يشبه صمت القبور، مرت ذكرى ميلاد الدكتور جمال حمدان «4 فبراير 1928 - 17 إبريل 1993» دون أدنى اهتمام إعلامي يذكر، ولو كان العالم الجليل «فنانا أو رياضيا»، لحظي باهتمام كبير، ولتناوبت البرامج على الحديث عنه وعن أعماله. والدكتور جمال حمدان، صاحب كتاب «وصف مصر»، هو أحد أعلام الجغرافيا في القرن العشرين، كما يعد ذا أسلوب متميز داخل حركة الثقافة العربية المعاصرة في الفكر الاستراتيجي، يقوم على منهج شامل معلوماتي وتجريبي وتاريخي من ناحية، وعلى مدى مكتشفات علوم: الجغرافيا، والتاريخ، والسكان، والاقتصاد، والسياسة، والبيئة، والتخطيط، والاجتماع السكاني، والثقافي بشكل خاص، من ناحية أخرى. كانت لعبقرية حمدان, ونظرته العميقة الثاقبة, فضل السبق لكثير من التحليلات والآراء، منها: توقعه تفكك الكتلة الشرقية، وكان ذلك عام 1968، وهو ما حدث بالفعل في عام 1989، حيث حدث الزلزال الذي هز أركان أوروبا الشرقية، وانتهى الأمر بانهيار الكتلة الشرقية، وتباعد دولها الأوروبية عن الاتحاد السوفييتي، ثم تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه عام 1991. وفى شهر فبراير 1967، أصدر حمدان كتابه «اليهود أنثروبولوجيا»، الذي أثبت فيه أن اليهود المعاصرين الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين، ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمون إلي إمبراطورية «الجزر التترية» التي قامت بين «بحر قزوين» و«البحر الأسود»، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وهو ما أكده بعد ذلك «آرثر بونيسلر» مؤلف كتاب «القبيلة الثالثة عشرة» الذي صدر عام 1976. هذه القدرة على استشراف المستقبل بدت واضحة أيضا، في توقع جمال حمدان لسعى الغرب لخلق صراع مزعوم بين الحضارات من أجل حشد أكبر عدد من الحلفاء ضد العالم الإسلامي، حيث أكد أنه بعد سقوط الشيوعية وزوال الاتحاد السوفييتي، أصبح العالم الإسلامي هو المرشح الجديد كعدو الغرب الجديد، وأن الغرب سوف يستدرج خلفاء الإلحاد والشيوعية إلي صفه, ليكون جبهة مشتركة ضد العالم الإسلامي والإسلام، باعتبارهم العدو المشترك للاثنين، وهوما تحقق بالفعل، وشرحه صموئيل هنتنجتون في كتابه «صدام الحضارات» باستفاضة. ومن الاستشرافات المهمة التي تضمنتها أوراق جمال حمدان، تلك المتعلقة بعودة الإسلام ليقود من جديد، حيث قال -رحمه الله- «يبدو لي أن عودة الإسلام أصبحت حقيقة واقعة في أكثر من مكان، عودة الإسلام حقيقة ودالة جدا تحت ناظرينا»، كما لفت إلى أنه في الوقت نفسه يبدو أن ديناميات الإسلام تختلف تماما، فقديما كان الإسلام يتقلص, في تراجع نحو الجنوب في جبهته الأوروبية, وجنوب جبهته الإفريقية، بينما الآن هناك عودة للإسلام في أوروبا .. خاصة في طرفيها إسبانيا, وآسيا الوسطى، إضافة إلى هجرة المسلمين إلى قلب أوروبا. لقد شكل جمال حمدان - بمفرده- مدرسة راقية في التفكير الاستراتيجي المنظم، مزج فيها -بطريقة غير مسبوقة- ما بين علم الجغرافيا، الذي لا يتعدى مفهومه لدى البعض نطاق الموقع والتضاريس، وعلوم التاريخ والاقتصاد والسياسة، ليخرج لنا مكونا جديدا أسماه «جغرافيا الحياة». لم يكن الدكتور جمال حمدان، مجرد باحث ومفكر عميق الأثر، بل كان عبقريا بحق، لم ينل في حياته ما يستحقه، كما لم يحصل على التقدير المطلوب بعد رحيله الغامض حتى الآن، وأخيرا.. فإن العباقرة لا يموتون، حتى وإن رحلوا عنا بأجسادهم.