"العبقرية والمأساة " كلمتان تلخصان حياة هذا المحارب، الذي إتخذ من علمه سلاحًا يضرب به الأكاذيب التي فرضوها علينا في كتب التاريخ، "جمال حمدان" هو محطة من محطات الشرف العربي، التي تلتقي فيها كل نوازع الحرية والكبرياء مع أساسيات العلم والمعرفة، التي تحفظ الحق وتصون الأمانة، عاش حياته زاهدًا في الدنيا، مبتعدًا عن أضوائها ومباهجها، واهبًا حياته للعلم، فلم يتوقف المحارب "جمال حمدان" عند تحليل الأحداث الآنية أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل وذو بعد مستقبلي أيضا، عاني مثل أنداده من كبار المفكرين الاستراتيجيين في العالم، من عدم قدرة المجتمع المحيط بهم على استيعاب ما ينتجونه، إذ إنه غالبا ما يكون صاحب رؤية سابقة لعصرها بسنوات، وهنا يصبح عنصر الزمن هو الفيصل للحكم على مدى عبقرية هؤلاء الاستراتيجيون، وكان حالة نادرة من نفاذ البصيرة والقدرة الاستراتيجية على المستقبل، وقدم لنا 29 كتابًا و79 بحثًا. وُلد المفكر الكبير "جمال حمدان" في محافظة القليوبية عام 1928م في أسرة تنتهي إلى قبيلة (بني حمدان) العربية، التي جاءت إلى مصر مع الفتح الإسلامي، وحصل "حمدان" على التوجيهية عام 1944، وكان ترتيبه السادس على القطر المصري، ثم التحق بكلية الآداب- قسم الجغرافيا، وتخرَّج منها عام 1948م ثم عُيِّن معيدًا بها، ثم سافر إلى بريطانيا في بعثةٍ حصلَ خلالها على الدكتوراه عام 1953م، وكان موضوعها: (سكان الدلتا قديمًا وحديثًا)؛ مما يؤكد أنه لم ينسَ وطنه إطلاقًا حتى لو ابتعد عنه بجسده وكان "حمدان" صاحب السبق في فضح أكذوبة أن اليهود الحاليين، هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، وأثبت في كتابه "اليهود أنثروبولوجيًا" الصادر في عام 1967، بالأدلة العملية أن اليهود المعاصرين، الذين يدعون أنهم ينتمون إلى فلسطين، ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية "الخزر التترية"، التي قامت بين "بحر قزوين" و"البحر الأسود"، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، وهو ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات "آرثر كويستلر" مؤلف كتاب "القبيلة الثالثة عشرة" الذي صدر عام 1976. ويعد "جمال حمدان"، واحدًا من ثلة محدودة للغاية من المثقفين المسلمين، الذين نجحوا في حل المعادلة الصعبة المتمثلة في توظيف أبحاثهم ودراساتهم من أجل خدمة قضايا الأمة، حيث خاض من خلال رؤية إستراتيجية واضحة المعالم، معركة شرسة لتفنيد الأسس الواهية التي قام عليها المشروع الصهيوني في فلسطين، وأدرك مبكرًا من خلال تحليل متعمق للظروف التي أحاطت بقيام المشروع الصهيوني أن "الأمن" يمثل المشكلة المحورية لهذا الكيان اللقيط، واعتبر ان وجود إسرائيل رهن بالقوة العسكرية وبكونها ترسانة وقاعدة وثكنة مسلحة، مشيرًا إلى أنها " قامت ولن تبقى -وهذا تدركه جيداً- إلا بالدم و الحديد و النار". ولذا فهي دولة عسكرية في صميم تنظيمها وحياتها، ولذا أصبح جيشها هو سكانها وسكانها هم جيشها كما حدد الوظيفة التي من أجلها أوجد الاستعمار العالمي هذا الكيان اللقيط، بالاشتراك مع الصهيونية العالمية، وهي أن تصبح قاعدة متكاملة آمنة عسكرياً، ورأس جسر ثابت استراتيجياً، ووكيل عام اقتصادياً، أو عميل خاص احتكارياً، وهي في كل أولئك تمثل فاصلاً أرضياً يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقاتها ونزيفاً مزمناً في مواردها". قال الدكتور محمد أبو غدير- رئيس قسم الإسرائيليات بجامعة الأزهر، أن "جمال حمدان" من أعظم العلماء في مصر والعالم كله، وقد أبدع في كشف الإفتراءات التي تغنى بها الكيان الصهيوني، وحاول أن يفرض أكذوبته على العالم، وأوضح أن كتاباته كشفت عن عبقريته في قراءة المستقبل، ولعل النهاية المأساوية التي أنهت حياته، تبين مدى الرعب من أن يكمل هذا الرجل الطريق الذي بدأه، وهو كشف حقيقة الكيان الصهيوني للعالم كله. وأوضح أبو غدير ل" البديل" أن لغز الوفاة وطريقة اغتياله لازالت غامضة حتى الآن، فقد كان يعيش بمفرده في شقة بالدور الأرضي في حي الدقي، واتفق مع دور النشر على طباعة موسوعة جديدة عن "الإقتصاد الإسرائيلي"، وكان يهدف إلى توضيح الأساليب الإقتصادية، التي تتبعها إسرائيل للسيطرة على العالم عن طريق احتكار الإقتصاد بواسطة اليهود، وهو ما أرّق الكيان الصهيوني فدبروا لاغتياله، وعلى الرغم من غموض الطريقة التي مات بها، إلا أن دخول شقته تم بأسلوب "المخابرات"؛ فلم يرهم أحد وقاموا بجمع الكتب والمسودات التي تمس إسرائيل، ثم وجدت جثته محروقًا، وقد اختفت كل الكتابات الخاصة بالكيان الصهيوني. وأضاف أن ظروف الوفاة وكل التكهنات، أكدت وجود شبة اغتيال، ولكن الأمن لم يتمكن من كشفها؛ نظرا لعدم وجود أدلة، ولم يهتم العالم بهذه الشخصية إلا بعد وفاته، وسرقت الكتب التي أثرى بها الأمة العربية كلها، واستفاد من علمه وخبرته الكثيرون من الدارسين والأساتذة على مستوى العالم. ومن جانبه قال الدكتور محمد عفيفي- أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة القاهرة: "أن جمال حمدان لم يكن تقليديا في علمه، حيث لم يمنعه تخصصه في الجغرافيا بأن يترك إهتماماته بالتاريخ والاجتماع والشؤن الدولية، وذلك هو ما أدى إلى تفرده في كتاباته وأسلوبه، وكان رمزًا لجيل الستينات، الذي عاش في عصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واهتم بالحلم القومي العربي، ويتضح ذلك في كتاباته؛ من خلال إظهار البعد العربي والمصري والإسلامي والإفريقي، والذي يتشابه مع نظرية الدوائر الثلاث لفلسفة الثورة الذي اتبعها جمال عبد الناصر. وأشار إلى أنه اصطدم بالنظام التقليدي في الجامعة وخرج منها، بعد قرار الإستقالة، وكان يتميز بشخصية حساسة، فلم يرضى بأساليب التحايل التي اتبعها غيره من الكتاب والمفكرين، واختار العزلة العلمية ليتفرغ للبحث والكتابة، وكان هذا هو السبب للكتابة الغزيرة، وكان معظم هذه الكتابات تدور حول الوعي القومي. وأضاف "عفيفي"، أن موته غامض إلى حد كبير، فكان هناك رأيين، أحدهما يقول: أنه أصيب بحالة اكتئاب حادة دفعته للانتحار، والآخر يقول أن هناك شبة تآمر على إغتياله، بعد كتابته التي هاجمت وهددت الكيان الصهيوني، وفي الحالتين فقد كان موته معبرًا عن إحباط المثقف العربي والمصري خاصة؛ بسبب الظروف التي يعانيها وعدم إهتمام المجتمع به، والإحساس بالفشل لدى نخبة الستينات. وقال عنه الكاتب "محمد حسنين هيكل" في مقدمة كتابه " أكتوبر 73 ..السياسة والسلاح "، لقد ظهر هذا العالِم المتميز في آفاق الفكر العربي كطائر العنقاء الأسطوري، الذي تحكي قصص الأقدمين، أن موطنه الأصلي صحراء العرب، وتروي الأسطورة، أن طائرًا واحدًا منه يظهر كل مئات السنين، وأنه يعلو في الآفاق محلقا بأجنحته العريضة المهيبة، وفاردًا ريشه بديعًا وباهرًا، ولكن عندما يحين الأوان فإن هذا الطائر الأسطوري الوحيد، يقيم لنفسه تلا من النار ويهبط من الأجواء، وينتصب واقفا في كبرياء وسط لهيبه، لكنه لا يتفحم ولا يتحول إلى رماد، وإنما ينبعث من قلب النار مستعدا لحياة جديدة ومنتشيًا بشباب عمر جديد». وكان من أبرز مؤلفاته كتاب "اليهود أنثروبولوجيا" ،" إستراتيجية الإستعمار والتحرير"، "أفريقيا الجديدة"، " أكتوبر في الاستراتيجية العالمية"، ومقدمة كتاب " القاهرة لديزموند ستيوارت"، و" مستقبل مصر أسوأ" ، و" موسوعة شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" أخبار مصر- البديل جمال حمدان محارب "الكيان اللقيط" أبو غدير: وفاة حمدان ستظل لغزا غامضًا محمد عفيفي: طريقة وفاته تعبر عن إحباط المثقف المصري هيكل : حمدان هو طائر العنقاء الأسطوري الذي لا يتفحم ولا يتحول إلى رماد