سعر جرام الذهب بالصاغة مساء اليوم الجمعة، عيار 21 يسجل هذا الرقم    الكرملين: روسيا تريد سلاما دائما وليس هدنة مؤقتة في أوكرانيا    د. آمال عثمان تكتب: المرتزقة.. وتجارة الدم    تشكيل إنبي الرسمي لمواجهة الأهلي في كأس عاصمة مصر    ذا أثلتيك: صلاح يعود لقائمة ليفربول أمام برايتون بعد اجتماع مثمر مع سلوت    مؤتمر فليك: ريال مدريد لم يفقد المنافسة.. ولن أتحدث عن ألونسو    عمومية اتحاد التجديف تشيد بنتائج المنتخب المصري في البطولات الدولية والقارية    اعترافات مدرس بتهمة التعدي بالضرب على طالبة داخل مدرسة بالقاهرة    شاهد، ابنة محمد هنيدي تتألق في جلسة تصوير زفافها    عروض تراثية وفنون شعبية..«الشارقة للمسرح الصحراوي» يستعد لافتتاح الدورة التاسعة    رشح أم إنفلونزا.. كيف تميز بينهما وتحمي نفسك؟    علي ناصر محمد: حكم جنوب اليمن شهد نهضة تعليمية وتنموية    وزير الثقافة ينعى الناشر محمد هاشم.. صاحب اسهامات راسخة في دعم الإبداع    علي ناصر محمد تحدث عن تشكيل المجلس اليمني المشترك بين الشمال والجنوب    الجبهة الوطنية أكبرهم، 12 مقعدا خسائر الأحزاب في انتخابات ال 30 دائرة الملغاة    تعاون مصري - ياباني لتعزيز تنافسية المشروعات الصناعية| فيديو    إشادات دولية بالإنجاز الحضاري.. المتحف الكبير يصنع طفرة سياحية غير مسبوقة    اتحاد الصناعات: 1822 مشروعًا تديرها سيدات في مجالات غذائية مختلفة    «الإفتاء» تواصل قوافلها إلى شمال سيناء لتعزيز الوعي ومواجهة التطرف    ضبط 42102 لتر سولار داخل محطة وقود لبيعها في السوق السوداء    تجارة عين شمس تتوج أبطال كأس عباقرة أصحاب الهمم    نقيب العلاج الطبيعى: إلغاء عمل 31 دخيلا بمستشفيات جامعة عين شمس    سويلم: العنصر البشري هو محور الاهتمام في تطوير المنظومة المائية    اكتشاف معماري ضخم.. العثور على بقايا معبد الوادي في أبوصير| صور    مفاجأة سارة.. هشام طلعت مصطفى يرصد 10 ملايين جنيه دعمًا لبرنامج دولة التلاوة    ما حكم زيارة المرأة الحائض للمقابر والمشاركة في الغسل؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز شراء سلعة لشخص ثم بيعها له بسعر أعلى؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس المجلس الأوروبي: يجب تحويل التعهدات بتلبية الاحتياجات المالية لأوكرانيا إلى واقع    رئيس مجلس الوزراء يستعرض أبرز أنشطته الأسبوعية: استثمارات جديدة ودعم البحث العلمي وتعزيز الأمن الغذائي    دوري المحترفين.. الصدارة للقناة والداخلية يهزم مالية كفر الزيات    مجلة تايم الأمريكية تختار مهندسى ال AI شخصية عام 2025    الليلة.. كنوز التلاوة وسر 100 أسطوانة للشيخ محمد رفعت في فيلم الوصية الوثائقي    الصحة: «فاكسيرا» تبحث مع شركة e-Finance إنشاء منظومة إلكترونية متكاملة لخدماتها    طبيب عروس المنوفية: كانت متوفية من ساعتين ورفضت منحهم تصريحا بالدفن    الأوراق المطلوبة للتعيين بوظيفة مندوب مساعد بقضايا الدولة دفعة 2024    أمن سوهاج ينجح في تحرير طفل مختطف خلال ساعات.. وضبط المتهمين    مدرب برايتون: أتمنى مشاركة محمد صلاح غداً.. وأزمته مع ليفربول لا تهمنا    "بحوث الصحراء" ينظم ورشة عمل حول الخبرات المصرية في تطبيقات المؤشرات الجغرافية وتحدياتها    226 طن مواد غذائية، قافلة صندوق تحيا مصر تصل بشاير الخير بالإسكندرية    الغارات الإسرائيلية على لبنان لم تُسجل خسائر بشرية    رئيس شعبة الكيماويات: صناعة البلاستيك تواجه تحديات عالمية    مصر تعزز التحول الأخضر بإطلاق الاستراتيجية الوطنية للعمران والبناء المستدام    كأس إنتركونتيننتال.. يورتشيتش يعاين ملعب "أحمد بن علي المونديالي" قبل مواجهة فلامنجو    ضبط طرفي مشاجرة بالإسكندرية بسبب خلاف مالي    نجوم العالم في ختام مهرجان البحر الأحمر السينمائي 2025    أمطار خفيفة في مناطق متفرقة بالجيزة والقاهرة على فترات متقطعة    فصل سورة الكهف....لا تتركها يوم الجمعه وستنعم ب 3بركات    نانت «مصطفى محمد» ضيفًا على أنجيه في الدوري الفرنسي    خبير ضخ الفيدرالي الأميركي 40 مليار دولار شهريًا خطوة استباقية لضمان السيولة وتجنب اضطرابات السوق    رامي عياش: أحلم بدويتو مع محمد منير وفؤش.. وانتظروا تعاونى مع أحمد سعد    وزارة التضامن تشارك بورشة عمل حول تعزيز إدماج ذوي الإعاقة في مصر    «المجلس الأعلى لمراجعة البحوث الطبية» ينظم ندوة لدعم أولويات الصحة العامة في مصر    وزيرة التنمية المحلية تناقش مع محافظ القاهرة مقترح تطوير المرحلة الثانية من سوق العتبة    مصر تتوج بفضيتين في الوثب العالي والقرص بدورة الألعاب الأفريقية    طريقة عمل الأرز بالخلطة والكبد والقوانص، يُقدم في العزومات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 12-12-2025 في محافظة قنا    فيديو.. لحظة إعلان اللجنة العامة المشرفة على الانتخابات البرلمانية الجيزة    رد مفاجئ من منى زكي على انتقادات دورها في فيلم الست    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«هدي خير العباد» من «زاد المعاد».. 1
نشر في فيتو يوم 05 - 11 - 2016

احتفاء واحتفالا بقرب قدوم ذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، خير الأنام محمد بن عبدالله، الرسول الكريم، صاحب القرآن العظيم والمعجزات الخالدة، والذي أعزه الله بها وجعلها شاهدة على صدق نبوته، وحمله لرسالة الإسلام للناس كافة بشيرا ونذيرا... نقدم لقراء فيتو الأعزاء قراءة في سيرة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم.. حيث اقترب "ربيع" ذلك الشهر البديع الذي شهد مولد الهدى فأضاء ما بين السموات والأرض..
وقد اخترنا أن تكون هذه اللمحات والنفحات من سيرة خير الأنام من كتاب «زاد المعاد في هدي خير العباد»، للإمام العلامة شيخ الإسلام؛ محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى «ابن قيم الجوزية»..
وقبل الشروع في قراءة الفصل الأول، نقدم ترجمة لابن قيم الجوزية رحمه الله، من كتاب "ذيل طبقات الحنابلة" لتلميذه الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله، حيث كتب عنه:
هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن جريز الزرعي، ثم الدمشقي الفقيه الأصولي، المفسر النحوي، العارف، شمس الدين أبو عبد الله بن قيم الجوزية؛ شيخنا.
ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة، وتفقه في مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى، ولازم الشيخ تقي الدين بن تيمية وأخذ عنه. وتفنن في علوم الإِسلام.
وكان عارفاً بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى ، والحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله وبالعربية، وله فيها اليد الطولى، وتعلم الكلام والنحو وغير ذلك، وكان عالماً بعلم السلوك، وكلام أهل التصوف، وإشاراتهم، ودقائقهم. له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى.
قال الذهبي في المختصر: عنى بالحديث ومتونه، وبعض رجاله. وكان يشتغل في الفقه، ويجيد تقريره وتدريسه، وفي الأصلين. وقد حبس مدة، لإِنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل، وتصدى للأشغال، وإقراء العلم ونشره.
قلت:
وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشفف بالمحبة، والإِنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والإنكسار له، والإطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أرَ في معناه مثله. وقد امتحن وأوفي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين ابن تيمية في المرة الأخيرة بالقلعة، منفرداً عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ.
وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القراَن بالتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة، وتسلط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف، والدخول في غوامضهم، وتصانيفه ممتلئة بذلك، وحج مرات كثيرة، وجاور بمكة. وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة، وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه. ولازمت مجالسه قبل موته أزيد من سنة ، وسمعت عليه "قصيدته النونية الطويلة" في السنة، وأشياء من تصانيفه، وغيرها. وأخذ عنه العلم خلق كثير من حياة شيخه وإلى أن مات، وانتفعوا به، وكان الفضلاء يعظمونه، ويتتلمذون له، كابن عبد الهادي وغيره.
وقال القاضي برهان الدين الزرعي عنه: ما تحت أديم السماء أوسع علماً منه.
ودرس بالصدرية. وأمَّ بالجوزية مدة طويلة. وكتب بخطه ما لا يوصف كثرة. وصنف تصانيف كثيرة جداً في أنواع العلم. وكان شديد المحبة للعلم، وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما لم يحصل لغيره.
فمن تصانيفه: كتاب "تهذيب سنن أبي داود" وإيضاح مشكلاته، والكلام على ما فيه من الأحاديث المعلولة مجلد، كتاب "سفر الهجرتين وباب السعادتين" مجلد ضخم، كتاب "مراحل السائرين بين منازل" إياكَ نَعْبُدُ وإياكَ نَسْتَعِين" مجلدان، وهو شرح "منازل السائرين" لشيخ الإِسلام الأنصاري، كتاب جليل القمر، كتاب "عقد محكم الأحباء، بين الكلم الطيب والعمل الصالح المرفوع إلى رب السماء" مجلد ضخم، كتاب "شرح أسماء الكتاب العزيز" مجلد، كتاب "زاد المسافرين إلى منازل السعداء في هدى خاتم الأنبياء" مجلد، كتاب "زاد المعاد في هدى خير العباد" أربع مجلدات، وهو كتاب عظيم جداً، كتاب "جلاء الأفهام في ذكر الصلاة والسلام على خير الأنام" وبيان أحاديثها وعللها مجلد، كتاب "بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل" مجلد، كتاب "نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول" مجلد، كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ثلاث مجلدات، كتاب "بدائع الفوائد" مجلدان "الشافية الكافية في إلانتصار للفرقة الناجية" وهي "القصيدة النونية في السنة" مجلدان، كتاب "الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة لما في مجلدات، كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" وهو كتاب "صفة الجنة" مجلد، كتاب "نزهة المشتاقين وروضة المحبين" مجلد، كتاب "الداء والدواء" مجلد، كتاب "تحفة الودود في أحكام المولود" مجلد لطيف، كتاب "مفتاح دار السعادة" مجلد ضخم، كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية" مجلد، كتاب "مصائد الشيطان" مجلد، كتاب "الفرق الحكمية" مجلد "رفع اليدين في الصلاة" مجلد. كتاب "نكاح المحرم" مجلد "تفضيل مكة على المدينة" مجلد "فضل العلماء" مجلد "عدة الصابرين" مجلد كتاب "الكبائر" مجلد "حكم تارك الصلاة" مجلد، كتاب "نور المؤمن وحياته" مجلد، كتاب "حكم إغمام هلال رمضان"، "التحرير فيما يحل، ويحرم من لباس الحرير"، "جوابات عابدي الصلبان، وأن ما هم عليه دين الشيطان"، "بطلان الكيمياء من أربعين وجهاً" مجلد "الفرق بين الخلة والمحبة، ومناظرة الخليل لقومه" مجلد "الكلم الطيب والعمل الصالح" مجلد لطيف "الفتح القدسي"، "التحفة المكية" كتاب "أمثال القرآن" "شرح الأسماء الحسنى"، "أيمان القرآن"، "المسائل الطرابلسية" ثلاث مجلدات "الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم" مجلدان، كتاب "الطاعون" مجلد لطيف.
توفى رحمه الله وقت عشاء الآخرة ليلة الخميس ثالث عشرين رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. وصلَّى عليه من الغد بالجامع عقيب الظهر، ثم بجامع جراح. ودفن بمقبرة الباب الصغير، وشيعه خلق كثير، ورئيت له منامات كثيرة حسنة رضي اللّه عنه. وكان قد رأى قبل موته بمدة الشيخ تقي الدين رحمه الله في النوم، وسأله عن منزلته؟ فأشار إلى علوها فوق بعض الأكابر. ثم قال له: وأنت كدت تلحق بنا، ولكن أنت الآن في طبقة ابن خزيمة رحمه اللّه.

وهذا هو الجزء الأول من زاد المعاد في هدي خير العباد....
مقدَّمَة المؤلف
الحمد للّه ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، ولا إِلهَ إلا اللّه إِله الأوّلين والآخرين، وقيُّوم السماواتِ والأرضين، ومالكُ يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه، ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإِخلاص له، وتوحيد حبِّه، ألذي إذا أُطيع شكر، وإذا عُصي تاب وغفر، وإذا دُعي أَجاب، وإذا عُومل أثاب.
والحمد للّه الذي شهدت له بالربوبية جميعُ مخلوقاته، وأقرَّت له بالإِلهية جميع مصنوعاته، وشهدت بأنّه اللّه الذي لا إلهَ إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته، وبدائع آياته، وسبحان اللَّهِ وبحمده، عدد خلقه، ورِضَى نفسه، وَزِنَةَ عرشه، ومِدَاد كلماته. ولا إِلهَ إلا اللّه وحده، لا شريك له في إِلاهيته،كما لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته، واللّه أكبر كبيراً، والحمد للّه كثيراً، وسبحان اللّه بكرة وأصيلا، وسبحان من سبَّحت له السماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكها، والأرضُ وسكانها، والبحارُ وحِيتانها، والنجومُ والجبال، والشجر والدواب، والآكامُ والرّمال، وكلُّ رطب ويابس، وكل حي وميت {تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلََكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء: 44].
وأشهد أن لا إِله إلا اللّه وحدَه لا شريك له، كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وخُلِقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل اللّه تعالى رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نُصِبَتِ الموازينُ، ووضِعَتِ الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرارِ والفجار، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثوابِ والعقاب، وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثوابُ والعقابُ، وعليها نُصبَتِ القِبلةُ، وعليها أُسِّستِ المِلة، ولأجلها جُرِّدَتْ سيوفُ الجهاد، وهي حقُّ اللَّهِ على جميع العباد، فهي كلمةُ الإِسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي اللّه حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجَبتُم المرسلين؟
فجواب الأولى بتحقيق ((لا إله إلا اللّه)) معرفةً وإقراراً وعملاً.
وجواب الثّانية بتحقيق ((أن محمَّداً رسول اللّه)) معرفةً وإقراراً، وانقياداًوطاعةً.
وفيها تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن تكون ((مَنْ)) في موضع رفع عطفاً على اسم اللّه، ويكون المعنى: حسبُك اللّه وأتباعُك، وهذا وإن قاله بعضُ الناس، فهو خطأ محض، لا يجوز حملُ الآية عليه، فإن ((الحسب)) و ((الكفاية)) للّه وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة، قال اللّه تعالى: {وَإِن يُرِيدُوَاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الّذِيَ أَيّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]. ففرَّق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسبَ له وحدَه، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى اللّه سبحانه على أهل التوحيد والتوكل مِن عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
ولم يقولوا: حسبنا اللّه ورسوله، فإذا كان هذا قولَهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: اللّه وأتباعُك حسبُك، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يُشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يُشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟! هذا مِن أمحل المحال وأبطل الباطل، ونظيرُ هذا قولُه تعالى: {وَلَوْ أَنّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]. فتأمل كيف جعل الإِيتاء للّه ولرسوله، كما قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ } [الحشر: 7].
وجعل الحسبَ له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا اللّه ورسولُه، بل جعله خالصَ حقِّه، كما قال تعالى: {إِنّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]. ولم يقل: وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحدَه، كما قال تعالى: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وإِلى رَبِّكَ فَارغَب} [الشرح: 7-8]، فالرغبةُ، والتوكل، والإِنابةُ، والحسبُ للَّهِ وحده، كما أن العبادةَ والتقوى، والسجود للّه وحدَه، والنذر والحلف لا يكون إلا للّه سبحانه وتعالى. ونظيرُ هذا قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]. فالحسبُ: هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنَّه وحده كافٍ عبدَه، فكيف يجعل أتباعه مع اللّه في هذه الكفاية؟! والأدلة الدَّالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا.
والمقصودُ أن بحسب متابعة الرسول تكونُ العزَّة والكفاية والنُّصرة، كما أن بحسب متابعته تكونُ الهدايةُ والفلاح والنجاة، فاللّه سبحانه علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شَقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاحُ والعزَّة، والكفاية والنصرة، والوِلاية والتأييد، وطيبُ العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذِّلةُ والصَّغار، والخوفُ والضلال، والخِذلان والشقاءُ في الدنيا والآخرة. وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن ((لا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يَكُونَ هو أَحَبَّ إِلَيْهِ مِن وَلَده وَوَالِدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) وأقسم اللّه سبحانه بأن لا يؤمنُ مَن لا يُحكِّمه في كل ما تنازع فيه هو وغيرُه، ثم يَرضى بحُكمه، ولا يَجِدُ في نفسه حرجاً ممّا حكم به ثم يُسلم له تسليماً، وينقاد له انقياداً وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً} [الأحزاب: 36].
فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صلى الله عليه وسلم، بل إذا أمر، فأمرُه حتم، وإنما الخِيَرَةُ في قول غيره إذا خفي أمرُه، وكان ذلك الغيرُ مِن أهل العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكونُ قولُ غيره سائغَ الاتباع، لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباعُ قول أحد سواه، بل غايتُه أنَّه يسوغ له اتباعُه، ولو تَرَكَ الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصياً للّه ورسوله. فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعُه، ويحرم عليهم مخالفتُه، ويجب عليهم تركُ كل قول لقوله؟ فلا حكم لأحد معه، ولا قولَ لأحد معه، كما لا تشريع لأحد معه، وكلُّ من سواه، فإنما يجب اتباعُه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً، فمن أنشأ أقوالاً، وأسس قواعدَ بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمّةِ اتباعُها، ولا التحاكم إليها حتى تُعرَض على ما جاء به الرسولُ، فإن طابقته،ووافقته،وشهد لها بالصحة، قُبِلَتْ حينئذٍ، وإن خالفته، وجب ردُّها واطِّراحُها، فإن لم يتبين فيها أحدُ الأمرين، جُعِلَتْ موقوفة، وكان أحسنُ أحوالها أن يجوزَ الحكمُ والإِفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين، فكلا، ولما.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخِيرته من خلقه، وسفيرُه بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله اللّه رحمةً للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجةً على الخلائق أجمعين. أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقومِ الطرق وأوضح السُّبل، وافترض على العباد طاعتَه وتعزيره وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسدَّ دون جنَته الطرق، فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدرَه، ورفع له ذِكْره، ووضع عنه وِزره، وجعل الذِّلَةَ والصَّغار على من خالف أمره.
ففي ((المسند)) من حديث أبي منيب الجُرَشي،عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((بُعِثْتُ بالسَّيفِ بَينَ يدِي الساعةِ حتى يُعْبَدَ اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزقي تحتَ ظِلَ رمُحي، وجُعِلَ الذِّلَةُ والصَّغَار على مَنْ خالف أمري، ومن تشبَّه بِقَومٍ، فهو منهم)) وكما أنَّ الذِّلة مضروبة على من خالف أمره، فالعِزَّة لأهل طاعته ومتابعته، قال اللّه سبحانه: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. وقال تعالى: {وَلِلّهِ الْعِزّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلََكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. وقال تعالى: {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوَاْ إِلَى السّلْمِ وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35].
وقال تعالى: {يَأَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] أي: اللَّهُ وحده كافيك، وكافي أتباعِك، فلا تحتاجون معه إلى أحد.
وهنا تقديران، أحدُهما: أن تكون الواو عاطفة ل (مَنْ) على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار، وشواهدُه كثيرة، وَشُبَهُ المنع منه واهِية.
والثاني: أن تكون الواو وَاوَ (مع) وتكون (مَن) في محل نصب عطفاً على الموضع، (فإن حسبك) في معنى (كافيك)، أي: اللَّهُ يكفيك ويكفي مَنِ اتبعك، كما تقول العرب: حسبك وزيداً درهم، قال الشَّاعر:
إِذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا فَحَسْبُكَ وَالضحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّد
وهذا أصحُّ التقديرين.
وفيها تقدير ثالث: أن تكون (مَنْ) في موضع رفع بالابتداء، أي: ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبُهُم اللَّهُ.
وبعدُ،،،
فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى هوا لمنفردُ بالخلق والاختيار من المخلوقات، قال اللّه تعالى: {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]. وليس المراد هاهنا بالاختيار الإِرادة التي يُشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار - وهو سبحانه -كذلك، ولكن ليس المرادُ بالاختيار هاهنا هذا المعنى، وهذا الاختيار داخل في قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فإنه لا يخلُق إلا باختياره وداخل في قوله تعالى: {مَا يَشَاءُ}، فإن المشيئة هي الاختيارُ، وإنما المرادُ بالاختيار هاهنا: الاجتباء والاصطفاء، فهو اختيارٌ بعدَ الخلق، والاختيارُ العام اختيارٌ قبل الخلق، فهو أعم وأسبق، وهذا أخصُّ، وهو متأخر، فهو اختيارٌ من الخلق، والأول اختيارٌ للخلق.
وأصحُّ القولين أن الوقف التام على قوله: {وَيَخْتار} ويكون {مَا كَانَ لَهُم الخِيَرَةُ} نفياً، أي: ليس هذا الاختيار إليهم، بل هو إلى الخالق وحده، فكما أنه المنفرد بالخلق، فهو المنفرد بالاختيار منه، فليس لأحد أن يخلق، ولا أن يختار سواه، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره، وَمَحَالِّ رضاه، وما يصلُح للاختيار مما لا يصلح له، وغيرُه لا يُشاركه في ذلك بوجه.
وذهب بعض من لا تحقيق عنده، ولا تحصيل إلى أن ((ما)) في قوله تعالى: {مَا كَانَ لهُمُ الخِيَرَةُ} موصولة، وهي مفعول ((ويختار)) أي: ويختار الذي لهم الخيرة، وهذا باطل من وجوه.
أحدُها: أن الصلة حينئذٍ تخلو من العائد، لأن ((الخِيرةَ)) مرفوع بأنه اسم ((كان)) والخبر ((لهم))، فيصير المعنى: ويختار الأمر الذي كان الخيرةُ لهم، وهذا التركيبُ محال من القول. فإنْ قيل: يمكن تصحيحُه بأن يكون العائد محذوفاً، ويكون التقدير: ويختار الذي كان لهم الخِيرةُ فيه، أي: ويختار الأمرَ الذي كان لهم الخِيرةُ في اختياره.
قيل: هذا يفسُد من وجه آخر، وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد، فإنه إنما يحذف مجروراً إذا جُرَّ بحرف جُرَّ الموصولُ بمثله مع اتحاد المعنى، نحوُ قوله تعالى: {يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33]، ونظائره، ولا يجوز أن يقال: جاءني الذي مررتُ، ورأيت الذي رغبتُ، ونحوه.
الثّاني: أنه لو أُريد هذا المعنى لنصب ((الخيرة)) وشُغِلَ فعل الصلة بضمير يعود على الموصول، فكأنه يقول: ويختارُ ما كان لهم الخيرة، أي: الذي كان هو عينَ الخيرة لهم، وهذا لم يقرأْ به أحد البتَّة، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير.

الثّالث: أن اللّه سبحانه يَحكي عن الكفار اقتراحَهم في الاختيار، وإرادتهم أن تكون الخيرةُ لهم، ثم ينفي هذا سبحانه عنهم، ويبين تفرُّدَه هو بالاختيار، كما قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31-32]، فأنكر عليهم سبحانَه تخيُّرَهم عليه، وأخبر أن ذلك ليس إليهم، بل إلى الذي قَسَمَ بينهم معايشَهم المتضمنةَ لأرزاقهم وَمُدَدِ آجالهم، وكذلك هو الذي يَقسِم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلُح له ممن لا يصلُح، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم، ودرجات التفضيل، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره، وهكذا هذه الآية بيّن فيها انفراده بالخلق والاختيار، وأنه سبحانَه أعلمُ بمواقع اختياره، كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124]، أي: اللّه أعلمُ بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره.

الرَّابع: أنه نزَّه نفسه سبحانه عمّا اقتضاه شِرْكُهم مِن اقتراحهم واختيارهم فقال: {وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، ولم يكن شِركهم مقتضياً لإِثبات خالقٍ سواه حتى نزَّه نفسه عنه، فتأمله، فإنه في غاية اللطف.

الخامس: أن هذا نظيرُ قوله تعالى في: {يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ} ثم قال: {اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحِج: 73 - 76]. وهذا نظير قولِهِ في: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] ونظيرُ قوله في: {اللهُ أَعلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] فأخبر في ذلك كلِّه عن علمه المتضمنِ لتخصيصه مَحَالَّ اختياره بما خصصها به، لِعلمه بأنها تصلُح له دون غيرها، فتدبر السِّياق في هذه الآيات تَجِدْهُ متضمناً لهذا المعنى، زائداً عليه، واللّه أعلم.

السادس: أن هذه الآية مذكورةٌ عَقيبَ قوله: {وَيَومَ يُنَادِيهِم فَيَقُول مَاذَا أَجَبتُمُ المُرسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيهِم الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهمْ لاَ يَتَسَاءَلونَ * فَأمَّا مَنْ تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكونَ مِنَ المفلِحِينَ * وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيختَارُ} [القصص: 65-68] فكما خلقهم وحده سبحانه، اختار منهم من تاب، وآمن، وعمل صالحاً، فكانوا صفوتَه من عباده، وخيرتَه مِن خلقه، وكان هذا الاختيارُ راجعاً إلى حكمته وعلمه سبحانه لمن هو أهلٌ له، لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحِهم، فسبحان اللّه وتعالى عمَّا يشركون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.