"الجذام"، وصمة لا تمحى حتى بالدم؛ هذا هو المعتقد الراسخ في أذهان الجميع حول هذا المرض الجلدى البشع، الذي يحول المصابين به إلى أشباه أحياء؛ فليس لهم الحق في أي شىء، يعزلون في مكان بعيد، لا يرون فيه إلا انفسهم وأشباههم، وكأنهم حيوانات ضالة تعزل في الصحراء أو الجبال، وربما لا يفكر أحد منا التعرف على معاناتهم أو حياتهم داخل هذه المستعمرات التي يضعون فيها حتى الموت. هذا ما جعل الروائى الرومانى "أوجنين سباهيتش"، يستخدم هذا المرض ومستعمرات المرضى والعذاب الذي يعيشونه داخل هذه الأماكن، والنتيجة التي ستنجم عن ثورتهم وخروجهم للمجتمع في وصف حال المجتمعات المقهورة التي تعانى من الاستبداد وظلم الحاكم، وكيف بإمكانهم أن يثوروا ويحرروا أنفسهم وينقلون التحرر إلى كل بلاد العالم، ويقدم لنا رواية "المبعدون"، والتي نشرتها دار العربى في القاهرة بترجمة هبة ربيع عام 2015. يبدأ الكاتب روايته بنصيحة تؤكد على ضرورة تحمل المرء المسئولية وعدم غض النظر عن الأفعال التي من شأنها تكريس الطغيان، عبر فرض نوع من الحجر على أماكن بعينها، والتعامل مع أهلها كأنهم في مستعمرة لأناس مرضى مبعدين عن المجتمعات السليمة المعافاة، ويطلق تحذيرا بشأن وجوب مواجهة العلل وتشخيصها بدقة بعيدا عن الانتقائية، كى لا تتفاقم وتؤذى أكثر. "أوجنين سباهيتش"، يشير في بداية "المبعدون" كذلك إلى أنه كتب الحكاية كما شوهدت بالعين اليمنى، وهو بكامل قواه العقلية، وأنه يصف الأشخاص الذين التقاهم وعرفهم في طريقه بما يمليه عليه ضميره، وسيحرص على ألا يشوه حرف مطبوع واحد جمال الحقيقة التام. تبدأ أحداث الرواية، في يوم 16 أبريل عام 1989، فيسرد الكاتب يومياته في مستعمرة الجذام التي احتجز فيها منذ 1981 مع العشرات من المصابين الآخرين من مختلف الأمكنة، وقضوا معا سنوات من العزلة والبعد عن المجتمع، ويجد أن ذلك كان حكما قاسيا عليهم، وأن مرض الجذام مرتبط عند الناس بصور نمطية مسبقة. يصف "أوجنين"، النظرة المؤسفة من قبل الناس لمرضى الجذام، مستحضرا نماذج من تعامل الرومانيين معهم، والاعتقاد السائد بأن لحم المصابين الشاحب وزوائدهم المنتفخة على ظهورهم وأذرعهم ورقابهم، تحتوى على جراثيم المرض التي تنتظر فقط لأن تندفع وتنشره بطريقة ديمقراطية. ويتأسف كيف أن القرويين كانوا يعتبرون المجذومين منبوذين من الإنسانية وأشرارا أيضا. "المقبرة"؛ هكذا وصف "أوجنين"، مستعمرات الجذام، قائلًا إن المبنى الخاص بالمجذومين والمناطق الملاصقة له كانت تبدو كمقبرة مسكونة بالأرواح الشريرة أكثر منها كمؤسسة طبية، مؤكدًا أنه على مر السنين أدت حقيقة الجذام إلى قاعدة مفادها أن العواطف مستحيلة وممنوعة في مستعمرة الجذام، وأنهم جميعا كانوا جسدا واحدا يعيش المرض، وينام فيه ويموت به. يشير، "اوجنين" خلال روايته "المبعدون"، إلى أن المرض يشوه الحالة العقلية للمجذوم بطريقة مشابهة لجروح ظهره وأكتافه الغائرة. كما يشير إلى أنه لم تتغير إجراءات التعامل مع الجذام تغيرا ملحوظا خلال عدة عقود منذ اكتشافه، فيتم تقييد حرية المجذومين بشدة ويمنعون من ملامسة الأصحاء. تذكر الرواية، بعض حالات اضطرار المجذومين إلى إنشاء مجتمعات على أطراف المستوطنات، باحثين عن خلاصهم في النفايات والأعشاب الطبية والفواكه البرية، وكيف أنه بمرور الوقت نهبت جحافل المجذومين القرى المجاورة وأهلها. يتطرق بعد ذلك إلى بدايات اكتشاف الجذام التي يرجعها وفق أحد الباحثين إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، كما يستعيد بدايات انتقال الجذام للقارة الأوروبية مع العائدين من الحملات الصليبية، أولئك الذين اعتبروا أمواتا بين الأحياء لأنهم مصابون بالمرض، وتم التعامل معهم بكثير من الإهمال والإيذاء، ثم تنامى الوسائل الدفاعية لديهم للتمكن من العيش والاستمرار ومجابهة الضغوط والتحديات التي تعرضوا لها. حاول الكاتب من خلال روايته، توثيق انطلاق الثورة ضد تشاوتشيسكو، قائلًا: "يذكر أنه خلال أحد التجمعات تحولت الشرطة إلى الشعب، وقوبلت بعاصفة من التصفيق، بعض العمال أمسكوا بنادق رجال الشرطة، وعقدوا مسابقة رماية ارتجالية، مطلقين النار على وجه الديكتاتور، ثم في تطور التجمع في العاصمة وتصعيد الاحتجاج انضم إليه جموع الناس، وما لبث النظام أن تداعى وانهار، ولم يصمد أمام إرادة الشعب وقوته وإصراره على نيل حريته". تتحدث الرواية عن الشرارة الأولى لبدء الاحتجاجات ضد نظام تشاوتشيسكو، وسخط العمال المتمردين في المصنع المجاور لمستوطنة الجذام، وتحديهم شرطة مكافحة الشغب، وحرق صور الدكتاتور، واعتبارهم -حين القبض عليهم- مجرمين لأنهم حاولوا تهديد سلامة جمهورية رومانيا الاشتراكية ونظامها الدستوري، كما أنهم طعنوا في صورة الرئيس وإنجازاته، لافتًا إلى أنه عندما حاول العديد من العمال النهوض والحديث كانت أعقاب البنادق أسرع منهم. يوضح "أوجنين"، أن نجاح الثورة وسقوط الدكتاتور ساهما في القضاء على مستعمرة الجذام، وتحرير مرضاها، بحيث إن المرضى بدءوا في الانخراط مع المجتمع ولم يجدوا أنفسهم غرباء منفيين وسطه، بل سعوا لتلقى العلاج والتكيف مع حالتهم، وكان مشهد حرق المستعمرة دلالة رمزية على حرق عهود من الإقصاء والإذلال والتهميش. يفاجئنا "أوجنين"، بتشبيهه للدكتاتورية بالجذام من خلال حبس الناس في سجن كبير، بحجة معالجتهم، في الوقت الذي يتم تجريدهم من إنسانيتهم، والتعامل معهم كمجذومين يحتاجون رعاية خاصة، يشكلون خطرا على سلامة المجتمع وتطوره، في حين أن الطغيان هو جذر المشكلة، وهو الجذام الأكثر إيذاءً وفتكا ببنية المجتمعات والدول، ليخرج "أوجنين" بنتيجة مفادها أن الحرية تظل العلاج الشافى والأنجع لمعالجة الآفات التي يخلفها الاستبداد. يلقى أوجنين بالمسئولية على عاتق القوى العالمية الكبرى التي كانت ترعى نظام الاستبداد الذي كان أخطر من مرض الجذام الذي يفتك بالشعب والدولة، وكيف أن رومانيا كانت قد تحولت إلى مستعمرة عذاب وتعذيب عبر التغاضى عما كان يقترفه بحقها الدكتاتور من آثام وجرائم. ينهى "أوجنن" روايته، بانتقاله مع صديقه المريض بالجذام، أيضًا، إلى عواصم أوروبية، ناقلين معهما مرضهما، محذرين منه بصوت عالٍ في الوقت نفسه، وصارخين بضرورة اتخاذ تدابير الحيطة والحذر تجاهه.